ساعي بريد شارعنا
لم يكن حضورك مجرد طريقة لايصال الرسالة، بل كان وصولك إلى الحي يفتح حكايات تستمر لأيام، تتبادلها البنات والنسوة في جلساتهن ..كانت الرسائل هي الحدث في حينا، مع بلد ينفصل عن العالم بفعل الحرب ويتصل معه عن طريق الراديو وأخبار المهاجرين والمهاجرات .. كنا نعرف أن القيام بعملك يحمل خطرا في بعض الأحيان، وأنت تعبر في أيام لا أمان فيها كي تنقل الرسائل القادمة من الأحبة.. لطالما انتظرتُك لتحمل لي كلمات محب بعيد تاهت رسائله بفعل الزمن ولم يبق من تلك الكلمات سوى خيطٍ رفيعٍ في الذاكرة.. لستُ وحدي، بل كثيرات من صبايا ونساء الحي مع اختلاف الأسباب، وكنتَ كما لو أنك تدرك فحوى الرسالة التي تُفتح في حضورك، تسنتج المضمون من ملامح صاحبها. كنتُ أستعجل أحيانا قدومك، فأذهب بنفسي إلى مكتب البريد لأسألك إن كان هناك رسائل جديدة، وكنت تنظر إلي بعطفٍ مع إجابتك المتوقعة : ” يعني لو في رسايل كنت رح أجيبهن”
أنتَ تعرف أن إرسال المزيد من الرسائل يكشف نوع العلاقة بين المرسل والمرسل إليه، لكنك كنت صموتا لا تتدخل، ولا تُلمح بغمزات وإشارات كما يفعل غيرك، تأتي إلى الحي عبر دراجتك العالية، مرتديا زيك الرسمي، توزع الرسائل وتشارك أهالي البيت بفنجان قهوة، وأخبار سريعة، مع ابتسامات أو عبرات ممن سارع إلى فض الرسالة وقراءة محتواها؛ وكنتَ تتلقى أحيانا “حلوانة” الرسالة حين تحمل أخبارا مبهجة أو فرجا قريبا.. أخمن أنك عرفت الكثير عن أهالي شارعنا، وعن صاحب الرسالة المرجو وصولها في كل بيت، لكنك مشارك غير فاعل، قادر على ايصال الرسالة فقط، أو تأخير وصولها لأيام، مثل ملاك يسعى بالدعاء بين العبد والإله؛ حتى أن قديس العشاق “فالانتين” يعترف بأهمية الرسائل، وأثرها في إعادة المحبين البعاد. ففي حكاية قديمة عن معجزاته، يُحكى أن شابا صغيرا فقيرا، بعد هجران حبيبته التي رحلت مع أهلها إلى مكان بعيد، ظل كل يوم يبكي بحرقة عند تمثال للقديس فالانتين، ويقول: “أيها القديس، يا شفيع المحبين، أعد لي محبوبتي”، يأتي العاشق كل يوم على مدار أشهر، مكررا ذات الدعاء متوسلا الاستجابة. وفي النهاية- حين تعب القديس منه – نطق التمثال ليقول له: “يا بني أرجوك امض من هنا، لا تكلمني أنا.. اذهب واكتب لها رسالة كي ترجع”.
***
أنتَ تعرف أهمية الرسائل التي تحملها، لكنك لا تعرف كم من رسالة عبر التاريخ غيرت مصائر الأشخاص بعد أن وصلت لصاحبها في الوقت متأخر، أو تاهت بالصدفة أو بفعل فاعل، وكم من رسالة عبر التاريخ غيرت مصائر أمم بأكملها، رسالة تُشعل الحرب، وأخرى تقود للسلام.
أنتَ لم تكن تعرف أيضا أي رسالة تحملها، من الممكن أن تعادل آلاف لدولارات في يوم ما؛ حيث لا يمكن تخمين الشأن الذي سيكون عليه صاحبها أو صاحبتها. في يوم 28 مارس/آذار من العام 1949 كتبت اليزابيث تايلور إلى حبيبها الأول رسالة مؤرَّخة قائلة: “أريد لقلبينا أن يلتحما، وأن ينتميا إلى بعضهما البعض إلى الأبد”؛ لم تخمن قطة هوليود في يوم من الأيام أن تلك الرسالة ستُباع في مزاد علني. إذ بعد موتها بعدة أشهر؛ أعلنت صالة للمزادات في الولايات المتحدة أنها ستطرح رسالة من الرسائل الغرامية التي خطَّتها أسطورة هوليوود ” إليزابيث تايلور”؛ للبيع في مزاد علني. وكان من المتوقع أن تُباع الرسائل بمبلغ يتراوح ما بين 25 و30 ألف دولار أميركي.
أنتَ تحمل مثل هذه الرسائل الثمينة، الغالية على القلب، ولا تعرف أي مصير ستلقى، سلة مهملات، أم صندوق خشبي مخفي عن الأعين، أم مزاد علني، لأن هواة التقليب في الأوراق الشخصية لأناس رحلوا عن الحياة هم كُثُر جدا، ومن هوايتهم تلك كُشفت الأسرار، وكُتبت الروايات والسير والأفلام. وكم تظل كثيرة هي الرسائل التي ظلت طي الكتمان ولم يكشف محتواها، حيث غاب أصحابها عن الحياة حاملين أسرارهم معهم.
***
في شارعنا، كان هناك جماعة أخرى ممن ينتظرون قدومك، هواة المراسلة الذين يراسلون الاذاعات وقنوات التلفزيون ويتوقعون ردودا، لكن ما من مجيب. لكنهم يستمرون بالمحاولة، أما هواة مراسلة الأشخاص المجهولين ممن يتم تعارفهم عبر صور منشورة في احدى المجلات، وعلى قلتهم في شارعنا فقد كانت في حكاياتهم من الطرافة ما يجعلها مذكورة حتى الآن.
في بلد مثل لبنان،كان لك وجوه أخرى كثيرة يتنكر بها عابرو السبيل الذين يحملون الرسائل من الفدائيين الذين تكون وحداتهم بعيدة عن الأماكن التي يقطن فيها ذويهم, هم قابعون في ثكنات على الحدود، يكتفون بإرسال كلمات قليلة بخط متعجل مع رفيق مغادر، فقط لطمئنة ذويهم بأنهم أحياء. في سنوات الثمانينات كانت بعض الرسائل لا تأتي عن طريقك، بل تصل إلى جيراننا عبر الصليب الأحمر، من أهاليهم الذين لم يغادروا الشريط الحدودي في الجنوب، وصار ضمن الأراضي التي احتلتها اسرائيل، هذه القرى والبلدات اللبنانية المفصولة عن لبنان، لا يصل إليها ساعي البريد، ويأتي منها رسائل مختصرة مكتوبة على ورق الصليب الاحمر المسطر، كلمات لا تشفي الغليل، ولا تروي الشوق، مكتوبة بحذر وتنبيهات كثيرة، إنها مجرد اشعارا بالحياة.
تعرف جيدا أن العالم تغير كثيرا، منذ ذلك الحين حتى الآن، لم يعد هناك مقاتلين رابضين على الحدود. لقد تغيرت الحياة، كما تغيرت أنت ومرات زياراتك إلى شارعنا التي تقلصت كثيرا أو شبه تلاشت بعد ظهور الانترنت. أنت تأتي فقط لايصال رسالة مسجلة تحمل أوراقا هامة، أو طرودا خفيفة. في الحقيقة أنت لم تعد أنت أيضا.. تغيرت كثيرا، عدت شابا وصرت رجلا الكترونيا عصريا، تُرسل رسالة عبر الواتساب قبل قدومك لتتأكد من وجود صاحبها في منزله، لحقت بك موجة الحياة العصرية، لم تعد تجلس على الشرفات مع الجيران وسط مزروعاتهن من نعناع وحبق وياسمين كي تشرب قهوتك برفقتهم. أنت تدرك أن الرسائل المرسلة على الماسنجر أو المسجلة على الواتساب أو الفايبر، أو غيره من البرامج تشغل وقت معظم الناس، وأنهم استعاضوا بها عن وجودك، إنه استبدال لحظي غير حميم، لكنه عصري، لا يحمل خط اليد ولا رائحة الورق، بل يسجل زخم الصوت وحرارة الانفعال الآني السريع مع صورة تنقل الحالة المراد التعبير عنها.
لكن مع غيابك الحتمي، ستغيب حكايات كثيرة، ونصوص عظيمة، أفلام وروايات، ومسلسلات تم استبدالها بشاشة الكمبيوتر أو الهاتف.. لن تُنسج من الرسائل الإلكترونية المكتوبة أو المسجلة قصة محورية عظيمة تزلزل حياة الأشخاص بسبب ضياع رسالة. في هذا الزمان، زمن الإنترنت والفيس بوك، لا توجد رسائل، ولا أوراق، ولا أشواق وخيبات، فالصوت والصورة يحضران عبر كاميرا الكمبيوتر أو الهاتف، ويختصران اللقاء والكتابة.
أنتَ غبت وصرت تنتمي لزمن مضى. لن يعرفك الأولاد ولا الأحفاد، ربما يسمعون عن حكاياتك شفاها، أو يقرأون ويشاهدون ما يُحكى عنك في القصص والأفلام، لكنهم لن يعيشوا لحظة انتظار رسالة بعيدة تمس الروح، وتجعلهم يكتبون ردا لها، ثم ينتظرون الرسالة التالية بصبر. هذا لن يحدث معهم أبدا.
أنتَ تقاعدت، بعد أن أديت خدمات جليلة دون أن تدري، وكنتَ أمينا في ايصال الرسائل والبرقيات والحوالات والطرود البريدية إلى أصحابها. مازلنا نذكر زياراتك، ونفكر كم تغيرت الحياة في سنوات قليلة من ذاك الوقت حتى الآن، وكأننا وجدنا لنكون شهودا على غيابك، وعلى غياب زمنٍ مضى بسرعة.
لنا عبد الرحمن