لنا عبدالرحمن تؤرخ روائيا لحرب تموز

أكدت الروائية اللبنانية لنا عبدالرحمن أنها تكتب عن الإنسان ومشاعره العميقة بصرف النظر عن جنسيته أو نوعه أو دينه، كما أنها تكتب عن الحرب اللبنانية للمرة الثانية في أعمالها الروائية بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة نظرا لما لهذه الحرب من تأثير كبير على الحياة والتاريخ اللبناني، ولما لها من تأثيرات اجتماعية ونفسية تستحق الرصد الإبداعي، وأنها حريصة في كتابتها على إدانة الحرب بكل ما فيها من عنف ودمار لأنه حتى المنتصر في الحرب مهزوم، مشيرة إلى أنها اختارت مارغريت دوراس الكاتبة الفرنسية لتكون شخصية أساسية تتشابك مع أبطال روايتها لما لمارغريت من بعد إنساني عميق ككاتبة ولما لحياتها من الثراء بحيث كان هناك تقاطعات ما بين بطلة رواية أغنية لمارغريت (زينب) وحياة مارغريت دوراس من حيث فكرة الحرب وخذلان الجسد، كما أشارت إلى سعادتها بلقاء مبدعي ومثقفي الإسكندرية الذين كانت تعليقاتهم ومداخلاتهم إضاءة جديدة حول الرواية بالنسبة لها، حيث استضافها مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية الثلاثاء 25 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وناقش الناقدان د. لبنى إسماعيل، وشوقي بدر يوسف روايتها “أغنية لمارغريت”.

وأشار الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن لنا عبد الرحمن قاصة وروائية لبنانية تقيم بالقاهرة، وهي حاصلة على درجة الدكتوراة عن موضوع السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية، وتعمل حاليا نائب رئيس التحرير جريدة “صوت البلد” المصرية، ومسئولة عن تحرير موقع ثقافي إلكتروني بعنوان “نقطة ضوء” www.n-dawa.com، صدر لها مجموعتان قصصيتان هما “أوهام شرقية” و”الموتى لا يكذبون”، كما أصدرت روايات: “حدائق السراب” و”تلامس” و”أغنية لمارغريت”، بالإضافة إلى كتاب “شاطئ آخر” الذي يشمل قراءات نقدية في الرواية العربية.

وأضاف عتيبة أن رواية لنا عبدالرحمن الجديدة “أغنية لمارغريت” لعبة روائية بديعة تعيد الكاتبة من خلالها تشكيل الزمان بانتقالات محسوبة بدقة وإن بدت غير ذلك بين الماضي والحاضر، حيث يوجد داخل الماضي حاضر متخفٍ، وفي الحاضر ماض يطل برأسه، وكذلك انتقالات في المكان بين لبنان وفرنسا وأماكن أخرى داخل كل منهما، والأهم ذلك التماهي والتضاد في الوقت نفسه بين بطلة الشخصية وذاتها، وبينها وبين الكاتبة الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس، وذلك التداخل بين السيرة الذاتية للكاتبة والجزء الروائي من عملها وبين السيرة التي كتبها حبيب مارغريت دوراس عنها والمتخيل الروائي للنا عبدالرحمن عن هذه العلاقة، كما تستخدم الكاتبة تقنيات سردية عديدة منحت عملها جمالية خاصة ربما أهمها الرسائل (الإيميل) وتيار الوعي المتمثل في صيغة الاعتراف التي تتحدث بها الراوية، بالإضافة إلى الراوي الذي يبدو محايدا في بعض فصول الرواية، مما جعل حكي الرواية موزعا على أكثر من سارد بما يوحي بالتعددية وإن كان في التحليل النهائي تشظى ذات تعاني في ظل حياة تنهار بسبب الحرب في لبنان وتداعياتها على المجتمع وناسه.

وفي درستها المعنونة “حلقات العزلة والوجود في ”أغنية لمارغريت“: الكاتب والقارئ ولعبة الاستغناء” قالت د. لبنى إسماعيل: في رواية “أغنية لمارجريت” تشارك لنا عبدالرحمن القارئ في انبهارها بفكرة الهوية أو التكوين: كيف ينسلخ المرء من دوائر التشكيل الأولى لكيانه الإنساني في رحلة استكشافية لذاته وسر وجوده في صخب حياتي تملؤه الأماكن والوجوه و… الأحلام، ليحقق في النهاية ذلك الشعور المنعش بالاستغناء؟ كيف تحتفظ الذاكرة بأسفار تكوينها وما سجلته الذاكرة عبر الزمن وتنتقل بحرية من دائرة حياتية لأخري دون الوقوع في هوة الخوف من العزلة، والتهميش، والتلاشي وفقدان الاتجاه التي تهدد رحلات الاستكشاف الأولي للذات من ناحية، وأسر الرغبة العارمة في الانفصال عن زخم الواقع الذي يهدد رحلات التقييم النهائية من ناحية أخرى؟ كيف يقف المرء في البداية والنهاية على حدود التماس بين الدوائر دون أن يقع في أسر دائرة بعينها؟ ليس هناك إجابة واضحة، بل وعد بإجابة لا تتحقق إلا بممارسة القارئ لعبة الاستغناء. تلك اللعبة التي يتقاسم أدوارها القارئ وبطلة الرواية في فعل قراءة إبداعي مواز يعاد فيه بناء النص المقروء تارة (الحكايات المتداخلة في النص وعلاقة الواحدة بالأخري)، وبناء النص المكتوب تارة أخرى (الاستمتاع بحنكة السرد وجماليات البناء الفني للنص).

تتطلب اللعبة؛ كما رسمتها لنا عبدالرحمن ثلاثة مستويات من السرد، أو ثالوث سردي يتكون أولا من خطابات أدبية الأسلوب والصور توجهها زينب بطلة الرواية عبر أوراق مبعثرة وملفات رقمية تخفيها في حاسوبها الآلي لشخص يان أندرية عشيق مارجريت ديوراس (الكاتبة الفرنسية الشهيرة التي أحبت يان وهي في الخامسة والستين وكان هو حينها في الثامنة والعشرين واستمرت علاقتهما لمدة خمس عشرة سنة حتى موت الكاتبة في 1996)، ثانيا عالم زينب اللبنانية الذي يقدمة لنا راو عليم يتجول معنا في مكنون نفس زينب وعلاقتها بأسرتها المكونة من أم وأخين يغلف التجاهل والانفصال والتحقير علاقتهم بزينب، ومعانتها الشخصية وأسئلتها الوجودية أثناء الحرب الأهلية بلبنان 2006 (حرب يوليو/تموز)، ثالثا عالم مارغريت ديوراس في الشهور الأخيرة قبل موتها بالسرطان، ويقدمه لنا أيضا راو عليم يطلعنا علي عذابات مارجريت الشخصية ومحاولاتها التحكم في الزمن ومقاومة خذلان الجسد وتراكم الذكريات.

وفي محاولة للإمساك بتلابيب هذا الثالوث، والبحث عن فضاءات التلاقي، وجمع أشلاء المتشابهات، والنظر المتلاحق للعوالم السردية المختلفة من خلال العدسات السردية المتتالية (يان ثم زينب ثم مارجريت، ثم يان وزينب ومارجريت، وهكذا) يدخل القارئ لعبة الاستغناء: تتشرذم وتتفتت (مؤقتا) هويته وكينونته وألفته مع الزمن الحاضر (زمن القراءة) ليجد نفسه – في الوقت نفسه – داخل وعلى التماس مع الدوائر المختلفة لشخوص الرواية.

تتوازي رحلة الاستكشاف والبحث عن الإجابات تساؤلات المنثورة هنا وهناك حتي تتضح الرؤية، وينتقل القارئ والبطلة معا من حيز الخوف من العزله التي يفجرها -عادة- انعدام البصيرة، وحيرة الرؤي والأفكار إلي حيز التوقع، توقع تجسد ما تشبح من رؤى وأفكار. وتصبح أزمة التكوين والتشكيل (زينب) والتعامل مع تراكم التفاصل وطغيان الزمن (مارجريت) رحلة اكتشاف وفرحة الفهم بتجسد الغامض من المعاني والدلالات. ويكتشف القارئ وزينب كما اكتشفت مارجريت من قبلهما أنه لا عزلة بالكتابة (أو ما حدث هنا، إعادة الكتابة) ولا عزلة بوجود الآخر، أو بالأحرى حلول الآخر في نسيج أفكارنا. قد تبدأ لعبة الاستغناء بالغرق المؤقت في التفاصيل، ثم الاحتراق في محنة الفهم، ولكنها دائما ما تنتهي، كما أرادت الكاتبة، بـ “نوع من المشاعر لم تعرفه من قبل… تورد جلدها مثل رغيف خبز خرج توا من الفرن وكما لو كان الذبول والحيرة، والخوف، جلد متهرئ تقشر عن طبقاتها السطحية وظهر لها جلد جديد.. نضر ومشدود”.

كما أشار الناقد شوقي بدر يوسف إلى أن العنوان يمثل في رواية “أغنية لمارغريت” شفرة وعلامة مهمة لها دلالاتها الخاصة تسكن جسم النص وتعبّر عن واقع ما تمثله الإيحاءات الأولية والتأويل في اسم كبير كاسم مارجريت دوراس في الساحة الأدبية الفرنسية، وفي حدث غرائبي وغير مألوف كما هو حادث في صلب ونسيج هذه الرواية، كما يعتبر الإيحاء الوارد بمضمون العنوان في حد ذاته نصا مختزلا يحوي قراءة مقطرة لواقع النص قبل الدخول إلى حيز التفاصيل، وقد جاء النص منذ الاستهلال الأول على هيئة مستويات سردية تحمل داخلها بنية فنية ثلاثية الأبعاد متداخلة ومتقاطعة، كل بعد فيها له توجهه الخاص، وله رؤيته، وأفكاره، وله طريقته ونسقه الخاص.

استهلت الكاتبة النص بهذه الخطابات التى كانت ترسلها الكاتبة الساردة، أو زينب الشخصية الراوية في الرواية إلى “يان أندريا” عشيق مارجريت دوراس الشاب، تسرد فيه تداعى خواطرها وهواجسها الذاتية نحو هذه التجربة، تجربة الكتابة عن مارجريت دوراس فاتنتها الأثيرة، وكاتبتها المفضلة، لقد رحلت مارجريت دوراس في الثالث من مارس/آذار 1996، وكان بجانبها وقت الرحيل عشيقها الشاب، ويتوزع الزمن بعد ذلك في نسيج الرواية بين زمن الرحيل إلى زمن نشوب الحرب في الجنوب اللبناني بعد ذلك بأربعة أشهر، في تموز من نفس العام، إلى زمن الساعة الآنية، إلى الزمن الداخلي في شخصية زينب، وتبدأ الأسئلة تتلاحق في ذهن وخواطر وهواجس الساردة حول هذه العلاقة الملتبسة التي قرأت عنها زينب خاصة في كتاب يان أندريا الذي كتبه عن علاقته بمارجريت دوراس والذي جاء تحت عنوان “هذا هو الحب” وهي المعنية بكل ما يدور حول مارجريت دوراس من أمور وأحوال وأدب وقراءات وغير ذلك، هذا بخلاف ما تفرضه وشائج المشاعر المتقاطعة والمتداخلة بين كاتبة مشهورة تعيش أواخر أيامها في عزلة تامة مع عاشق شاب مبهور بها في سن أبنائها، ارتبط بها في علاقة غرائبية غير واضحة المعالم، وشابة تعيش أجواء الحرب في زمن آخر تمنح هذه العلاقة اهتماماتها الذاتية كطرف مشارك في عزلة الكاتبة الفرنسية وعشيقها الشاب “يان أندريا”، هي تستدعى من الذاكرة مارجريت دوراس الفتاة الصغيرة التي عاشت جزءا كبيرا من حياتها في كمبوديا، كما تستدعي أسرتها التي كانت معها في ذلك الوقت والمكونة من الأم المتسلطة والتي تعمل معلمة في إحدى المدارس وشقيقها الأكبر المنحرف والذي كان كثيرا ما يضربها ويعتدي عليها لأتفه الأسباب، وشقيقها الصغير الذي مات في ظروف غامضة، وعشيقها الفتى الصيني الثري في رومانسيته المفرطة، وكأن الكاتبة الساردة هنا كانت تتقمص شخصية مارجريت دوراس في هذه العلاقة، حيث ثمة تشابه بين شخصية زينب وشخصية الكاتبة الفرنسية، في جوانب كثيرة لذلك هي تقول لـ “يان أندريا” في رسالتها الأولى التي جاءت في الاستهلال الأول للنص: ” أكتب بحثا عنك، وعن مارغريت دوراس التي وجدت مكانها في الكتاب.. أكتب كي اكتشف ماهية علاقتي بها، وبك، إذ كثيرا ما فكرت: لماذا أحبتك مارغريت دوراس وعاشت معك حتى لحظاتها الأخيرة؟ ظللت قربها، تساعدها على الرحيل بهدوء، وظلت تحبك”.

أما البعد الثاني من النص فيكمن في هذه المتواليات النصية المتضمنة لمشاهد واقعية لوقائع ما يجري عن الحرب وأهوالها في هذا الجزء، المتضمنة قصف العدو الإسرائيلي للضاحية الجنوبية والشرقية من بيروت، ومحاولة انتقال الأسرة من منزلها في بئر العبد إلى مكان آمن فلم تجد سوى شقة الخال الذي لا يجئ إليها إلا أياما قليلة خلال العام، وتشاهد زينب نزوح عدد كبير من السكان من أماكن القتال، إلى أماكن جديدة تكون أكثر أمنا، خاصة في الحدائق الواقعة أمام البناية التي يسكنها خالها، وتبدأ الأسرة في التعامل مع الوضع الجديد، كل بطريقته، الأم وسطوتها الخاصة في التحكم في كل شيء، الأخ الكبير وسام، المنحرف هو الآخر، والأخ الأصغر سامر، الذي كانت زينب تعطيه عطفها واهتمامها الشيء الكثير، وتنشط الذاكرة عند زينب في هذا المناخ المأزوم، فكانت ما تراه زينب أمامها من النافذة، هي أجواء الحرب الفعلية، ومشاهد الناس الهاربين والمهجرين من مساكنهم والقابعين في الطرقات والحدائق وأفنية المدارس في خيام أقاموها في هذا المناخ المأزوم والعالق به كل البشر في هذه المنطقة: “حين فتحت زينب زجاج النافذة صباحا، كانت تراقب استمرار الحياة عن كثب. أبصرت خيام النازحين، وقطعا من ثيابهم معلقة على أغصان الشجر، امرأة تطبخ على بابور الكاز، وبنت صغيرة تبكى لأنها صارت ترى العالم بعين واحدة، ولا تقدر على لمسه لأن الحروق تملأ يديها”.

وفي مداخلتها حول الرواية أشارت الأديبة منى عارف إلى أن خطوط الرواية تختلف باختلاف التنقلات السريعة، بها تقاطعات ثلاث بنى عيها هذا النص: التقاطع الأول كان الرسائل. التقاطع الثاني هو الأحداث المعاصرة، المكان في بيت الصنايع، مع الأم .. والأخ… وتضفيرة رائعة مع بطلة الرواية الآخرى “مارغريت”، فيأتي التقاطع الثالث، مكملاً لحالة إنسانية فريدة في عزلتها تعرف الصمت تقترب من السكون ترى وجه الله شفافاً. مثل غلاله غيم، نقياً وبريئاً. فرحاً كما يكون الفرح، وهل يكفي الحلم في زمن الحرب؟

ميدل ايست أونلاين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى