ندوة بالاسكندرية حول المجموعة القصصية “الموتى لا يكذبون”
فى إطار فعالياتها المستمرة والنشطة أقام قصر التذوق الفنى فى الإسكندرية ندوة حول المجموعة القصصية “الموتى لا يكذبون” للكاتبة اللبنانية المقيمة بالقاهرة لنا عبد الرحمن. قدمت للندوة الناقدة فاطمة عبد الله، وشارك فيها د. السعيد الورقي، والناقد شوقى بدر.
فى بداية الندوة تحدثت الناقدة فاطمة عبد الله عن خطاب المرأة فى المشهد الأدبى المعاصر فى عالمنا العربي، وعن تجربة كتابة الذات الأنثوية عند الكاتبات، ثم توقفت عند نصوص مجموعة “الموتى لايكذبون” – التى صدرت ضمن منشورات وكالة الصحافة العربية – فى محاولة لاستكشاف النسيج، الذى يكون الهوية الباحثة عن ذاتها فى فضاء مفتوح تسعى للإحاطة بعوالمه عبر مواجهة الوجدان الاجتماعى والأخلاقي، الذى أسسه المجتمع من حولها، ثم أشارت الناقدة إلى قصة “عشق آباد” لما فيها من تجريب وتحديث من جانب الانتقال فى القصة بين أكثر من صوت لترى هذه القصة مميزة بخطاب نسوى واضح كذلك فى قصة “رعشة” التى تحكى عن بنت تقف على الشباك وتتأمل العشاق فى انتظار الفتى الذى تحلم به. ترى الناقدة أن هذه القصص بالإضافة إلى القصة الأخيرة “اعتراف” تطرح جانباً كبيراً من مشاكل المرأة النفسية والجسدية، إنها كشف حقيقى بلا مراوغة عن لحظات شعورية ممزوجة بمشاعر مختلطة تحياها المرأة، لذا قدمتها الكاتبة من زاوية خصوصية الرؤية وصدقها الذاتى وصفائها الانفعالي، حيث تفرد رؤيتها الخاصة وتقدمها للقارئ فى وعى دقيق لا ينفصل عن متانة اللغة وانسيابها مع الموضوعات المطروقة.
أما د. السعيد الورقى أستاذ الادب العربى بجامعة الإسكندرية، فقد قدم قراءة للمجموعة تحت عنوان “تجريب الحداثة فى الخطاب السردى النسوى المعاصر” فى مجموعة “الموتى لايكذبون”، وجاء فى الدراسة حسبص حيفة العرب اونلاين، أن الكاتبة تطرح جانبا سرد الواقع الخارجى المرصود من عين الملاحظ المجرب، فهو واقع مرفوض بمفرداته وقيمه، وتلجأ إلى عالم آخر فيه الخصوصية والذاتية والتفرد، ذلك هو عالم الاستبطان الداخلى بمستوياته المتعددة، حيث خصوصية الرؤيا وصدقها الذاتى وصفائها الانفعالي، وحيث الزمن الآني، الذى يملك الارتداد والاستقبال فى حضور اللحظة الموقف وحيث اللغة التى تمتلك بكارة الصياغة والتشكيل واقعاً حقيقياً لا يعترض به الآخرون فهم يحيون منظومة القيم المعرفية والإدراكية الواقعية، ولا يدركون سواها، أما هى فتفردها يأتى من رفضها لهذه المنظومة، واعتمادها كلية على وعيها الخاص، الذى تحركه مشاعرها الخاصة.
فى القصة الاولى التى حملت عنوان المجموعة تقدم الكاتبة حكاية بطلتها التى مات خالها منذ عام وأكدت الأم ومن شهد غسله هذا لكنها تراه وتقف معه وتكلمه وينصحها أن تترك خطيبها فهو لا ينفعها.
لقد أرادت أن تراه فرأته وحدثته بل إنه عندما أخذت مفتاح بيته من أمها وجدت البيت عامراً بالحياة وأسبابها، ووجدت علبة سجائره الفارغة على المنضدة، فآمنت بنفسها ورؤاها الخاصة، وخلعت خاتم الخطوبة استجابة لنصيحة خالها التى ولا بد أنها تطابقت مع رغبة باطنية لديها لم تفصح عنها.
وفى قصة “عنب أحمر للمساء” تستدعى الكاتبة اللحظة الشعورية للموقف تياراً متدفقاً ومحكوماً فى آن معاً لذكريات عامرة بالمشاعر يختلط فيها الماضى بالآتى فى لحظة آنية تتناثر فيها المختزنات النفسية ،التى اندفعت فى مشاهد حاضرة تشكل أبعاد الموقف الانفعالي، وذلك من خلال توظيف محكم ومتفهم لمونتاج المشاهد المرئية وكولاج المشاهد التشكيلية.
اللوحة الأولى أو المشهد الأول لطفلة صغيرة تحتضن لعبتها الدمية المشوهة مبتورة اليد عوراء بعين واحدة تسعى مع أمها للهرب من نيران الحرب فى لبنان، ومفردات الصورة قذائف ترتفع من حولهما وحيطان مهدمة ومليئة بثقوب المدافع وشوارع خالية ورائحة البارود تملأ المكان. أما الصورة الثانية أو المشهد الثانى فمكان هادئ وقت المساء، تجلس فيه فى انتظار صوت غامض تتناول حبات العنب الأحمر فى مسائها الأخير معه، تحتفظ بالعنقود الفارغ ذكرى لهذا المساء وستجففه وتحتفظ به بين دفتى كتاب كما يضع الناس الورود للذكري. ويأتى المشهد الثالث تياراً من المشاعر المتباينة بين طفولة دافئة بباقات العشب العطرى وبرودة اللحظة فى جفاف يهددها بالتصحر. أما اللوحة الرابعة والأخيرة فلا امرأة تستند إلى السور عارية إلا من كمان تعزف عليه موسيقي.
قدمت الكاتبة فى القصة أربعة مشاهد انفعالية يدفعها مبدأ المفارقة والتنافر واعتمدت على كولاج تشكيلى فى تقطيع المشاهد ولصقها متجاورة لتكون فى النهاية بنية سردية حديثة بدأ بالانفعال بالموقف على عكس البنى السردية التقليدية التى تتحرك بالموقف الحدث من لحظة حيادية ثم تتطور بها وصولا لموقف الانفعال الذى تولده الأحداث والشخصيات فالمشاهد الأول فى قصة “عنب أحمر للمساء” يضع المشاهد القارئ مباشرة فى مواجهة الموقف الانفعالى بما يثيره المشهد من خراب ودمار، ومن هرولة الطفولة والأم بحياتهما فى محاولة مستميتة لإنقاذ الحياة من الحرب، وكأنها تقدم أسطورة الحياة فى نشأتها من الجدب حيث تسند المسؤولية هنا إلى الأنثى الأم والطفلة، فصراع الرجال بات يهدد الحياة.
ثم تتوالى المشاهد بعد ذلك عارضة لصور الدفء والبرودة والعشق والعقم لتنتصر المرأة بموسيقاها، التى تشع الدفء فى الأمسيات الحزينة.
هكذا استبطنت الكاتبة عالمها الشعورى وأحالته إلى مشاهد كولاجية تحرك العالم فى حشد من الصور المتراكمة، التى تقدم سرداً حداثياً جديداً يمزج الصور المرئية والمسموعة فى جو انفعالى خاص يجعلك تشعر بالموقف من خلال سرد الحكى وسرد الصورة المرئية.
التجربة التى تقدمها لنا عبد الرحمن فى مجموعتها الجديدة “الموتى لا يكذبون” كما لاحظنا تجربة استبطانية، تسرد فيها الكاتبة قراءتها لمشاعرها، فتعمد إلى رصد صور هذه المشاعر وحكيها فى متواليات من المشاهد التى تعتمد على أسلوب قطع المونتاج فى المونتاج الإلكترونى الحديث.
ومن الطبيعى أن تكون هذه التجربة تجربة استبطان داخلى فهذه سمة أساسية فى الخطاب السردى النسوى المعاصر الذى يقدم معاناة بطل مأزوم يعانى مأزقاً حقيقياً على المستويين الواقعى والإنسانى ومن ثم فلا سبيل أمامه سوى الاحتماء بنفسه ومشاعره يعيده بها تشكيل صورة العالم فى ملحمة الخلق الجديد.
—-
نشر 02 أيلول/سبتمبر 2006
موقع البوابة