الموت .. مسار اجباري
الموت هو مسار إجباري في هذه الحياة، لا يرحم أي كائن.خلال اسبوع واحد ، تعاقبت أخبار الموت، في بداية الأسبوع غابت الفنانة صباح بعد أن غيبها الموت هذه المرة حقيقة وليست شائعة. رحلت صباح بكل هدوء تاركة وصيتها بأن يتم دفنها بفستان أبيض يليق بها وبأن تكون سيدة الفرح والبهجة. رحلت تاركة وصيتها بأن يغني ويرقص محبوها خلال وداعها.أن لا يمارسوا أي شعائر تقدس الحزن، بل أرادت لرحيلها أن يعبر عن الحياة المبهجة التي طالما سعت إليها. لطالما أثارت صباح دهشتي بثراء حياتها، وتنوعها،أكثر مما كنت مغرمة بفنها،كنت أكثر انحيازا لفيروز، ووردة الجزائرية، لكني أحببت مواويل صباح وأغنياتها باللهجة اللبنانية، أكثر منها بالأغنيات المصرية التي كنت أجدها متشابهة مع غيرها، ولا تحمل خصوصية إلا في صوت صباح نفسه ..لكن ظلت صباح بالنسبة لي مثالا حيا لحب الحياة ..وداعا يا سيدة البهجة.
* * *
لم تمر أيام على رحيل صباح حتى غاب الشاعر اللبناني سعيد عقل عن عمر 102 سنة. هذا الشاعر الفذ في اللغة والمواقف الغريبة، يشكل حالة خاصة وفريدة تستدعي التأمل لما فيها من تناقض، وجمال في الوقت عينه. هو الشاعر المسيحي الذي غنت له فيروز ” غنيت مكة”، ” يا قدس”، ” عمان في القلب”، ” سائليني يا شام” ، ” زهرة المدائن،” مر بي”، وغيرها من الأغنيات..كتب سعيد عقل باللغة العربية الفصحى، فأبدع، وجاءت قصائده بالعامية اللبنانية من أروع ما يكون. ويعد عقل شاهدا على التاريخ اللبنانى المعاصر ابتداء من سقوط الدولة العثمانية وخضوع لبنان للانتداب الفرنسى واستقلاله؛ورغم هذا كان لسعيد عقل موقفا معاديا من العروبة واللغة العربية ،منتصرا للبنان ولأصوله الفينيقية، وداعيا لاستخدام العامية اللبنانية كلغة رسمية، وهذا الموقف من ضمن المواقف التي أثارت جدلا.
لعل الموقف الأكثر إثارة للاستغراب في حياة هذا الشاعر هو موقفه من العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982، حيث مجد دخول الجيش الإسرئيلي واحتلاله لبنان من الجنوب إلى بيروت مطلقا عليه اسم ” جيش الخلاص” ، مقابل طرد آخر فلسطيني بل إنه دعا اللبنانيين إلى التكاتف مع الجيش الإسرائيلي ودعمه ليطهر لبنان من الفلسطينيين.
لم يكن موقف عقل يحمل أي نوع من الوطنية، ولم يعتذر عما فعله، بل ظل يدافع عنه، والأغرب من هذا أنه ظل يجد من يؤيد آراؤه؛ بل إن معظم القنوات الإعلامية التي قدمت تقريرا عن حياته تغاضت عن تقديم هذا الجانب الذي يكشف موقف الشاعر ورؤيته من الحياة.فهل من الممكن التعامل مع الشاعر أو الكاتب بتقديس نصه، والتغاضي عن موقفه السياسي في لحظة تاريخية حرجة؟! ليس من المطلوب محاكمة رجل ميت، لكن تجدر الأمانة حين نتحدث عمن نعتبرهم أعلاما تركوا بصمة ما، فكيف إذا كان شاعرا!
وداعا سعيد عقل.. يبدو أن لبنان يذكر قصائدك أكثر.
* * *
رحلت رضوى عاشور، صاحبة ” قطعة من أوروبا” و”أطياف” و”ثلاثية غرناطة”،وغيرها من الأعمال النقدية والإبداعية. مضت بصمت بعد رحلة طويلة مع المرض وضعتها في كتابها ” أثقل من رضوى”. كانت رضوى عاشور امرأة مقاومة حقا، ومقاتلة شرسة في وجه صعوبات الحياة. لم تهزمها الحدود الجغرافية التي باعدت في كثير من الأوقات بينها وبين زوجها الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، بل هزمها المرض الذي لا يرحم . كان لرضوى موقفا واضحا من رفض التطبيع مع اسرائيل، فقد رفضته بشدة. جاء أدبها محملا بنبرة انسانية عالية، ينتصر للفرد وإنسانيته وأوجاعه،يعبر عن المعاناة والظلم، وينبئ بوجود طاقة نور لابد أن تأتي بطريقة ما، هذا ما قالته في روايتها أطياف: “وجودك يحفظ لنا قيمة ما، ضوءا يؤكد أن الظلام لم يعد مطبقا و أن الفوضى و الشراسة والجهل و الظلم و الفساد و إن لم نستطع أن ننفصل تماما عنها ليست هي القانون المطلق للوجود … لا تغلقي هذه الطاقة يا دكتورة شجر”.
وداعا رضوى عاشور، لن ننسى كلماتك . وداعا أيتها المراة النبيلة.
د.لنا عبد الرحمن