فيروز التي تحترف الحزن والأنتظار
يتردد صوت فيروز” كانوا يا حبيبي….ثلج وصهيل وخيل …..مارق عباب الليل
وكانت أصواتن تاخدنا مشوار،صوب المدى والنار”
لطالما سألني أصدقاء غير لبنانيين” مين اللي كانوا” ومن تقصد فيروز ب” كانوا”،لم أفكر بالامر الا حين سئلت عنه، وأذكر انني في كل إجابة لي كنت ابتدع أحدا ما ليكونوا ” هم ” الذين تقصدهم فيروز،ولم احس ابدا أنني بذلك أزور التاريخ، او أنسب لفيروز والرحابنة شيئا لم بقصدوه، اذا لطالما ظلت فيروز بالنسبة للبنانيين إرث وطني لا خلاف عليه،فيروز التي ظل الجميع في زمن الحرب الأهلية، متفقين على ان يبدؤا صباحهم بها،لذا ظلت فيروز تلك القديسة التي تمسح أحزان الجميع،ويطرق بابها الجميع،لتفتح لهم وهي تغني” يا قلبي لا تتعب قلبك…..وتروح وترجع عبعلبك” اذ لطالما بهذه الإغنية ظلت بعلبك هي القبلة التي ترجع إليها قيروز،ويتوهج اللبنانيون نشوة لدى سماعهم صوتها حرا ينطلق مع المدى مؤكدا أنها ” بتغيب وبترجع على بعلبك”
وفيروز التي إحترفت الحزن والأنتظار عشرين عاما، تنتظر الآتي ولا يأتي،عابرة من بوابة الدموع الى صقيع الشمس والبرد،ظنا منها أنها وحدها في زاوية الحنين ،لا تدرك أنها بشالها الأثيري،وسحرها الغامض،بارتجافاتها التي تترك ظلا منها على الأرض،تستوطن تلك الأرض،وقلوب سكانها الذين يرددون بفرح طفولي عابث ” يا قمر مشغرة ،يا بدر وادي التيم،يا جبهة العالي،ومسورة بالغيم،قولوا انشالله القمر،يبقى مضوي القمر،لا يطال عزه حدا ولا يصيب وجه ضيم” وكأنها بهذا الدعاء الذي تردده هي لقمر مشغرة،يردده الجميع مرة أخرى لها.
يتمكن المسافر،الغريب،من رؤية وجه فيروز الحقيقي أكثر في عيون محبيها،يتمكن اللبناني البعيد عن البحر والجبل،الذي لا يصادفه صوت فيروز الا لماما في تلك البلدان التي يعيش فيها،من معرفة كيف يرى غير اللبنانين فيروز أكثر،وتغدو الصورة أكثر حزنا عندما تصبح فيروز طرفا فقط في معادلة ” الجبل والبحر،وبيروت” فيروز العرافة المتشحة بالأبيض لطالما ظلت رمزا لحب غائب،وألفة يبحث عنها الجميع، بشموخها الذي لا ينكر ” أنا فزعانة تقوم عنجد تنساني… يمكن حبك جد بس أنا فزعانة”،من هنا يبدو من العسير على غير اللبناني، او غير المنتمي لبلدان الشام أن يتلقى فيروز بدقة المتعايش اليومي مع أغنياتها، تبدو الصور المركبة في أغانييها أيام الرحابنة مشوبة بالغموض والأرباك للمتلقي الذي لم يعتاد سماعها،وتمر الصور متجاوزا للحكاية التي تحملها، يتلقى اللبناني الغريب،صدمة عدم الأدراك لصور جمالية،وحكايا حزينة تمر بأغاني فيروز ولا تستوقف أحدا،حينها يداهمه حزن فيروزي عتيق حين يتذكر انه في قهوة عالمفرق،في موقدة وفي نار،نبقى انا وحبيبي ،نفرشها بالاسرار…….ويا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر……تخلص الدني وما في غيرك يا وطني….وبتضلك طفل صغير
.في خجل مراهق تجلس فيروز في القهوة البحرية،قريبا من الشاطئ،لا تشرب القهوة، لان فنجانها مكسور،تكتفي بتأمل حبيبها المأخوذ بالموج، الحبيب الذي كتبت أسمه على الحور العتيق،وكتب أسمها على رمل الطريق،لا تهمس بشوقها له،وتكتفي بأن تشرب من عينيه،ناقلة بصرها بين الموج الأزرق،وعينيه اللاهيتين عن سؤالها” لو بعرف حبيبي بتفكر بمين” ترحل هي تاركة الحبيب وحيدا،تسير في شوارع بعيدة،يتبعها صدى عميق يكشف عن حزن أزلي يصدح “الله معك يا هوانا يا مفارقنا” وهي إذ تنأئ بجراح روحها الشقية تركض بعيدا فلا تلتفت للوراء ولا لصوت يهمس لها” بحبك حتى نجوم الليل نجمة ونجمة توقع” لا تثق بكلمات هذا العاشق الراحل دوما،لأنها تيقن ان الحب سيخلص كالاحلام،وان القلب عندما يتذكر الوعد سيسخر بوجع من النجوم التي إنطفئت آخذه معها بريق حب خبا.
وفيروز الدافئة التي تفاجئك برعشة برد عندما يهلل صوتها ” رجعت الشتوية…ضل أفتكر فيي..رجعت الشتوية” تعرف سر الحكاية وأن الأحباء “تحت الشتي تركوا بعضن” وأنهم سيبقوا وحدن مثل زهرة البيلسان ،تلك المرأة التي انتظرت في مواسم العصافير، وتركت قلبها مشرعا على المدى لتردد” شايف البحر شو كبير ،كبر البحر بحبك” ستسمع صوتها كلما سرت على كورنيش بحر بيروت،وسيفاجئك أيضا شريط لها مع سائق تاكسي عجوز،هي المتغربة مع قصص الريح،مع الحزن،والزهر،والصيف والبحر،ستجبرك على الانتظار معها أيضا وهي تحكي لك قصة ” شادي” الذي ذهب مع الثلج ،ولم يرجع،هذه المرأة التي دقت على الشباك ليطل الورد وتسأله عن الحلوة الغائبة،تعرف جيدا أنها وحدها ستبكي مع الورد،وأن ما من أحد سيشاركها حكاية حلوة الحلوين التي خطفها الموت،هي التي تذكر الورد بطول الحكاية التي رحلت صاحبتها تاركة عطر ما في هذا الكون.
فيروز التي تجعلنا في حالة تساؤل دائم عمن يقتل الآخر اولا ” الوقت أم الحب”، لم تتعال أبدا عن ذاك الأنتظار الدائم الذي تمارسه، هي رهينة للزمن،للانتظار ، تقرع الأبواب ولا تجد أحدا،تمر بالشوارع بالمقاهي،وكلها يقين،أن الشوارع ربما لن تعرفها لانها كبرت وهي بعيدة عنها،تلك المرأة السبعينية الشابة،الطفلة،التي تهلل “بتمرجح بقلبك” وهي تسعى لتحليق أعلى لترى القمر عبر مرجوحتها… تلهو تحت المطر بصخب كرنفالي لا تخجل منه تعلن بلا مواربة ” أديش كان فيي ناس ،عالمفرق تنطر ناس،ويحملوا شمسية،وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني”” هذا هو الأنتظار الدائم الذي يسحب فيروز اليه ” لتهتف ” نطرت مواعيد الأرض وما حدا نطرني” ” وصار لي شي مية سنة مشلوحة بهالدكان،ضجرت مني الحيطان”،إنه عتاب موغل في غربته لأناس لن يأتوا ويكتفوا بأن يجعلوا منها إمرأة تنتظر مواعيد الأرض على”..عموقف دارينا” إنها تمارس هذا الأنتظار بلا غرور أنثوي مراوغ ومترفع، تؤلف العناوين لمن غابوا…وعناوين أخرى مجهولة، وتغني لانها لا تريد أكثر من البوح،البوح والقول أنها وحيدة بلا منتظر،هي التي تنتظر دائما،وكأن الإنتظار صار عندها لذة ممتعة، يشوبها غموض المجهول ،جماله ورونقه، تنتظر الاشياء والأيام،وليالي الشمال الحزينة، هي عصفورة الساحات المنذورة للغيم والطرقات تحكي قصة أبواب ابواب ،شي غرب ،شي صحاب،شي مسكر،شي ناطر،تايرجعوا الغياب،هذا الأنتظار الصوفي ،المباح به،والمتورد بخجل في سماء رمادية يتحول مع فيروز من انتظار مرهق في ماديته،الى كيان يضخب بالحنين والحب،الحب الدائم الذي أعطته فيروز للعالم،وظلت هي في عزلتها تنتظر.
—
* الحوار المتمدن – العدد: 1172 – 2005 / 4 / 19
د. لنا عبد الرحمن