هشام آدم : الكتابة الإبداعية لا تعرف الحدود ولا الجغرافيا

 

ينتمي هشام آدم إلى الجيل الشاب من الكتاب السودانيين، إلا أن تجربته الروائية سارت في نحو خارج عن المألوف بالنسبة لكتاب جيله ، ففي رواية ” أرتكاتا” تدور الأحداث في اسبانيا،  وفي  رواية “السيدة الأولى”نجد واقعا مشابها لما حدث خلال ثورات الربيع العربي، رغم أن الرواية صدرت قبل الثورات بما يزيد عن عام ونصف. أما في ” بتروفوبيا” فيتطرق الكاتب إلى حادثة تحطم البرجين في نيويورك، عبر معالجة درامية لقصة حب بين بطلين. يقدم  هشام آدم في كتابته رؤيته للذات من خلال الكتابة عن الآخر. لكن رغم هذا نجد أنه  عاد للكتابة الذاتية في روايته ” قونقليز” الحائزة على جائزة الطيب صالح، وفي رواية ” أرض الميت”.. حول تجربته الابداعية، ورؤيته للكتابة كان معه هذا الحوار :

 

– من المألوف أن يختار الكاتب الكتابة من منطقته، لكنك اخترت طريقا مختلفا في تشكيل عوالمك الروائية، لماذ  اخترت الكتابة عن الآخر في ثلاثة اعمال  روائية هي : أرتكاتا، السيدة الأولى، وبتروفوبيا؟

ليس هناك ما هو مألوف في الفن، والكتابة الإبداعية، باعتبارها نوعًا من الفنون، ينطبق عليها الأمر ذاته بصورة إجمالية. ليس ثمّة سبب مُحدد يجعلني أفرّق بين الكتابة عن الذات وعن الآخر من ناحية، وبين الكتابة عن منطقتي أو أيّ منطقة أخرى؛ فأنا أعتبر نفسي كائنًا كونيًا، وأعتقد أنّ أحد وظائف العمل الإبداعي هي التعبير عن الذات، ولكننا قد نتخذ، في سبيل ذلك، طرائق مختلفة. فعندما يكتب أحدهم عن الآخر، أفلا يكون قد فعل ذلك بصورة ذاتية؟ أعني ألا يُعبّر عن رأيه الذاتي والزاوية التي ينظر بها أو منها إلى الآخر؟ إذن؛ فهي كتابة عن الذات أو به أو له. المشكلة ليست في الكتابة عن الذات أو الآخر، بقدر ما هي القدرة على التخلّص من الدائرة الجحيمية التي نجد أنفسنا متورطين داخلها، والمُعبّر عنها في قولنا “من المألوف” إذ ليس ثمّة مألوف في الكتابة الإبداعية، وإلَّا لما كانت الكتابة عملًا إبداعيًا وفنيًا. بالإضافة إلى المقاربة الشديدة التي أراها بين الذات والآخر، فذواتنا، بالنسبة لذوات أخرى، هي آخر، وكلنا داخلون في دوائر التقييم من قِبل الآخر بطريقة أو بأخرى، ونحن أيضًا آخر بطريقة ما، ولكننا نحب دائمًا أن ننظر إلى أنفسنا على اعتبار أننا “معيار” والآخرون واقعون تحت دائرة هذا المعيار، دون أن نعلم أن معاييرنا الذاتية هذه مُستقاة أساسًا من حركة الآخر، وحركتنا نحن داخل هذه الدائرة الكبيرة المُسماة “الآخر”.

 

الآخر !

– لا تتنافى كلمة “من المألوف” مع فكرة  أن يكون العمل الابداعي تعبيرا عن الذات، بل إنه من هذا المنطلق نجد أن الكاتب السوداني يكتب عن بيئته وهي الأقرب إليه، وكذلك المصري، والمغربي…الخ. وما وجدته في أعمالك أنها تتضمن كتابة عن الآخر، وأنت ترى أن هذه الكتابة أتت أيضا اعتبارا من أننا “معيار” والآخرون واقعون تحت دائرة هذا المعيار، هل قصدت أننا كعالم عربي، أم ما الذي عنيته تحديدا؟

عندما قلت إن الكتابة الإبداعية، كضرب من ضروب الفن، ليس به “مألوف” لم أكن أعني تحديدًا فكرة الكتابة عن الذات أو الآخر، وإنما فقط فكرة تنميط الكتابة الإبداعية في إطار ما تعارف عليه الكثيرون، فالفن في أساسه أو في جانب مهم منه هو الخروج عن المألوف وليس مسايرته، وإلّا فأين الإبداع؟ أذكر أن الفيلسوف بول سارتر في إحدى محاضراته عن الفن، دخل إلى القاعة محمولًا على نعش ووضع النعش على الطاولة وخرج المشيّعون دون أن ينطق أحدهم بكلمة واحدة، تاركين الطلاب في حيرة من أمرهم، وقبل أن يدب الصخب في القاعة فُتح النعش وخرج منه بول سارتر وهو يقول: “هذا هو الفن؛ الفن هو الإدهاش!” وانتهت محاضرتُه عند ذلك الحد؛ وسواء أصحّت الرواية عن بول سارتر أم لم تصح، فإن الفكرة إن الفن لا يُمكن أن يكون مما هو مألوف، بل هو على النقيض من ذلك تمامًا، فالأشياء المألوفة والمُنمّطة لا تثير فينا الدهشة، بينما ما يُثير فينا الدهشة فعلًا هو ما يقع خارج إطار هذا المألوف. والأنا المعيارية التي تكلمت عنها ليست هي بالتحديد الوطن العربي؛ بل يتعداه إلى ما هو أبعد؛ إلى أنانا الشخصية الفردانية (individually) وهي عبارة عن دوائر مُتداخلة ومتقاطعة بصورة مُربكة جدًا، فأنا، كفرد، دائرة مُستقلة بذاتها، ولكنها مُتداخلة مع دائرة عائلتي الصغيرة، وهي كذلك مُستقلة بذاتها، وفي ذات الوقت مُتداخلة مع دائرة أكبر وهي المجتمع النوبي المُستقل بذاته والمُتقاطع، في الوقت ذاته، مع دائرة أكبر، وهكذا حتى يكون الفرد ككيان مُستقل جزءًا من دائرة جهنمية كبيرة تُسمى المُجتمع البشري. عندما تقولين إن الكاتب يكتب عن مجتمعه لأنه يعرفه ولأنه هو الأقرب إليه، فهذا هو تمامًا “المألوف” الذي أعنيه، فما الذي يجعلنا نعتقد بأننا فعلًا نعرف مجتمعنا؟ أو أننا لا نعرف عن الآخر؟ هل لأننا لسنا راغبين في معرفته؟ أليست لنا منظومة من القيم نطلقها على مجتمعات بعينها؟ فكيف تسنّى لنا إطلاق تلك القيم عليها إن لم نكن نعرفها؟ وكيف نتأكد فعلًا بأننا نعرف مجتمعنا إلى درجة تجعلنا نكتب عنه وننتقده؟ ولماذا أو كيف، برأيك، قد تُؤثر رواية مثل “الحرافيش” لنجيب محفوظ في قارئ سوداني إن كان مُراد الكاتب في الأساس هو الكتابة عن المجتمع المصري فقط؟ ولماذا برأيك قد تدهشنا إحدى روايات ماركيز أو إيزابيل أليندي إن كانت “ظاهريًا” تبدو وكأنها لا تتقاطع معنا ومع واقعنا؟ الكتابة فعلٌ كوني، من حيث أن الكاتب، كفرد، هو في أساسه جزءٌ من هذا الكون وتلك الدائرة الجهنمية التي تحدثتُ عنها آنفًا.

 

– ثم كيف من الممكن أن نكتب عن الآخر من وجهة نظره، من رؤيته، لا من رؤيتنا. وغالبا كانت الكتابة من الضفة الأخرى أيا كانت تحمل كثيرا من الانتقادات، كما نرى في أعمال المستشرقين الذين يقدمون الشرق كما يرونه هم؟

عندما تقولين مثلًا: “الأناناس ألذ من العنب” تُرى كم شخصًا في هذا العالم قد يُوافقكِ الرأي، حتى وإن كانوا واقعين ضمن دائرة “الآخر” التي تعتقدين بوجودها؟ وماذا قد يعني لكِ هذا التوافق؟ وماذا إن وافق عددٌ كبير من مختلف دوائر الآخر على مقولة: “الزواج مُؤسسة اجتماعية فاشلة” ماذا قد يعني لكِ ذلك؟ في اعتقادي الشخصي إنه يعني لي إنّ الآخر هو وهم نخلقه نحن بأنفسنا، لنشعر بذواتنا وبفرادة هذه الذات، وهو تمامًا كوهم الحدود الجغرافية، الذي له تأثيرات سياسية تحدد سلطة الدولة وسيادتها، رغم أنها في النهاية حدود وهمية لا وجود لها على أرض الواقع فعلًا. الآخر ليس موجودًا إلّا عندما نرغب نحن في أن نكون خارجه، ولكننا في الواقع داخل هذا الآخر، ونحن بذواتنا المستقلة نسهم كثيرًا في تحديده، ولكن يطيب لنا كثيرًا أن نخرج عنه لنفترض سُلطة هي ليست لنا إلّا بدوافع إبداعية صرفة. وبطريقة أسهل أقول إنّ الذات هي آخر، والآخر هو ذات، ومن موقع رؤيتنا نحن للأشياء يتم تحديد ما إذا كان الشيء ذاتًا أم آخر، هكذا أرى الأمر بمنتهى البساطة والتعقيد.

 

الذات والابداع

– لكنك عدت للكتابة عن الذات، عن المحور الأول في روايتيك ” قونقليز” التي حازت على جائزة الطيب صالح، وفي  ” أرض الميت”، كيف تفسر الأمر ابداعيا؟

لا أعتقد أن “قونقليز” أو حتى “أرض الميّت” يُمكن أن تكون كتابة عن الذات إلّا من زاوية نظر “من المألوف” ولكن من زاوية نظري ورؤيتي الخاصة للأدب والفنون بصورة مجملة، فإن دوائر الذات والآخر متداخلة ومتقاطعة؛ بحيث تصبح الكتابة عن الذات والآخر شيئًا واحدًا لا يُمكن التفريق بينهما. وإذا تسنى لي الإجابة على هذا السؤال من وجهة النظر “المألوفة” فإنّ الكتابة عن “الذات” لا يُمكن أن تكون كاملة أو مثالية إن لم نستصحب الآخر معنا دائمًا، لأن الذات ليست متفرّدة ومستقلة كُليًا، ولكن إن كنتِ تعنين الكتابة عن الواقع السوداني، فإني أتساءل: ما هي القيمة الحقيقية للكتابة عندما يكتب كاتب سوداني عن المجتمع السوداني لقراء سودانيين؟ أو عندما يكتب كاتب عراقي عن المجتمع العراقي لقراء عراقيين؟ ولماذا قد يهتم قارئ سوري مثلًا بشراء رواية لبنانية أو مصرية أو سودانية؟ الفارق النوعي الذي أعنيه بين الكتابة عن الذات والآخر وتقاطعاتهما ربما يكمن في الإجابة عن هذه الأسئلة. الكتابة الإبداعية لا تعرف الحدود ولا الجغرافيا ولا حتى الذاتية المُفرقة، بل على العكس تمامًا؛ الإبداع الحقيقي هي في تجاوز حدود المألوف والمُتعارف عليه، لخوض تحدٍ من نوع الكتابة عن الذات كآخر، وعن الآخر كذات، فكلاهما شيء واحد إن نحن أردنا الإنصاف. علينا أن نرى الأمر من زاوية أوسع قليلًا؛ فالكتابة عن الإنسان هي كتابة إبداعية أيًا كان مُسمّاها: كتابة عن الذات أو كتابة عن الآخر، وحتى في الأعمال الدرامية أو السينمائية فإن العنصر الإنساني الذي نتقاطع فيه هو الذي يجعل أحد الأعمال عملًا عالميًا والآخر أقل من ذلك.

 

– في رواية ” السيدة الأولى” هناك احداث تشبه الى حد كبير ما حصل في الربيع العربي من ثورات، رغم أنك كتبتها قبل قيام الثورات العربية، ورغم أنها تتناول كما توحي أسماء الأبطال فيها بأن البلد المقصود هو أحد بلدان أميركا اللاتينية، هل هذا صحيح؟

ربما كان ذلك من نوع المُصادفة غير المقصودة، ولكن القيمة الأساسية التي حاولتُ تضمينها في نص “السيّدة الأولى” هي الثورة واشتراطاتها؛ حيث أنني أزعم بأن الثورة الفعلية ليست هي مُجرّد السعي لتغيير نظام دكتاتوري ما، وجعل ذلك هدفًا عامًا للثورة، وإنما هي ثورة التغيير من الداخل، وجعل فكرة تغيير النظام وسيلة لتحقيق هذا الهدف، وليس هدفًا قائمًا بحد ذاته. وربما الناظر إلى مآلات ما يُسمى بالربيع العربي يرى بصورة جلية، إلى أين قد يُفضي الأمر حين تكون الثورة في حد ذاتها هدفًا يسعى إلى إليه الثوار. علينا أن نسأل أنفسنا: “هل نحن مؤهلون لمرحلة الديمقراطية؟” أم أن ثورتنا لتغيير نظام دكتاتوري سوف تنتهي بتخليق نظام دكتاتوري آخر وجديد؟ السيّدة الأولى (ليلاتيا) فهمت أن الثورة الحقيقية هي تغيير الذات كمرحلة أولى وأساسية؛ لذا فإنها كان يجب أن تلتصق بالجماهير، وأن تحاول التخلّص من إحساسها بالغربة عنهم، وذلك بالانتماء إلى هذه الطبقة. لابد للقيادات الثورية أن تكون جزءًا أصيلًا من القاعدة الجماهيرية. لابد أن تكون الثورة الشعبية مصحوبة بوعي سياسي ومدعومة برموز سياسية، حتى لا تكون ثورة مشوّهة وغير معروفة الأهداف. إن الشعار الذي تبنته ثورات ما يُعرف بالربيع العربي: “الشعب يُريد تغيير النظام” يُمثل الجانب العاطفي للثورة، والثورة لا تقوم بالعواطف، وإنما كذلك بالفعل السياسي المنظم والتخطيط المُسبق، ولهذا فإن الفراغ السياسي الذي نتج عن سقوط بعض الأنظمة كان تعبيرًا حقيقيًا عن عدم وجود أهداف واضحة للثورة، لأن هدفها كان في أساسه هو “إزالة النظام” ولكن لم يتساءل أحد عن مرحلة مابعد إسقاط النظام وإزالته!

 

– في بتروفوبيا، كتبت عن حادثة تحطم البرجين، عبر قصة حب بين شاب وفتاة أميركيين، لم؟ ما الذي اردت قوله من وجهة نظرك ككاتب عربي؟

أنا لا أرى أحداث الحادي عشر من سبتمبر أحداثًا مأساوية فقط، بل هي تعبير فعلي عن أزمة فكرية وآيديولوجية على مستوى أعمق بكثير. هي في الواقع تمظهر مادي مُريع لتصادم ثقافتين (مادية وروحية) وكان لابد من النظر للأمر من هذه الزاوية لفهم ما جرى، ولفهم تداعياته فيما بعد. “بتروفوبيا” محاولة لتقريب وجهات النظر، محاولة لفهم الآخر عبر فهم الإنسان نفسه، فأنا لا أعتقد أن الفارق بين الثقافة العربية والثقافة الغربية متمثل فقط في الجوانب المادية والتكنولوجية، وإنما كذلك في الجوانب القيمية والأخلاقية. إنها علاقة واضحة لحركة الأخلاق، وعلاقتها بحركة الإنسان داخل مجتمعه الذي يُمثل منظومة مُتكاملة من القيم والمعايير الأخلاقية. إنها فجوة حضارية، والحضارة هنا لا أعني بها ذلك الشكل المادي للثقافة وإنما أعني ثيمة “التحضر” باعتباره تصالحًا مع الذات والتماهي معه، ولذا كان لابد من خوض تجربة خطيرة كتقمص شخصية الآخر، لنعرف كيف ينظر إلينا الآخر المختلف. وعلى الرغم من أنني لا أكاد أعترف بفروقات كبيرة وجذرية بين الذات والآخر، إلا أن هذه الرواية فرضت نفسها على هذا النحو، لمن أحب أن يرى الأمر من زاوية النظر “المألوفة” إلّا أنها عندي ليست كذلك على الإطلاق.

  د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى