أحمد الفخراني يواجه مأساة “اخضاع الكلب”
يمكن القول أن رواية ” اخضاع الكلب”( دار الشروق- القاهرة ) للكاتب المصري أحمد الفخراني، تتخذ من تيمة هزيمة الفرد لبنة أساسية لتشكيل عالمها السردي، ففي هذا النص الروائي يبدو الحدث الرئيسي لتشابك الخيوط الحكائية هو انتقال البطل هارون من القاهرة إلى مدينة دهب، بعد وقوعه في براثن مأساة عائلية : خيانة زوجته باربارا مع صديقه، وشكه بأبوة ابنه.
إثر هذا الحدث ينسحب هارون المصور الشهير من الحياة ككل، ويختار أن يكون غير مرئي في مدينة بعيدة يسكنها السياح، ويلجأ إليها من تقطعت بهم سُبل الحياة، ومن أتعبهم العيش في المدن الكبرى لأسباب شتى فيختارون العزلة.
لكن هذه الركيزة المهمة للرواية لا تبدو سوى مسرحا واقعيا، لتبرير كل ما سيقع من أحداث تبدو في ظاهرها متناهية البساطة، رغم أنها تستدعي غريب ألبير كامو، وسائر الروايات التي يختار فيها البطل الانعزال والانغلاق التام على مأساته، بدلا من محاولة التعافي. لكن بدل هذا يحضر الغرق في الشباك الداخلية عبر مونولوجات متواصلة، تستعين بتقنية المراوحة بين الداخل و الخارج بحيث تبدو تلك الحركة كما لو أنها انعكاسا مستمرا لكليهما، من دون الكشف عن واقع مغاير، فلا تبدو الحقيقة المتجلية في الصفحات الأخيرة من الرواية، قادرة على إحداث أي تغيير في المأساة الداخلية المُظلمة التي تقود هارون في متاهتها، وكأن الرواية تُتمم على اليقين المبثوث على مدار صفحاتها (153) بأنه لا خلاص أبدا.
تتلاعب هذه الرواية بفطنة القارئ، تستدرجه إلى مصيدة الإقناع ببساطة العالم الداخلي للحكاية عبر وصول الكلب “ونيس” إلى حياة هارون المصور المنعزل والذي كره حمل آلة التصوير ويمضي أيامه في عبث مطلق، لكن منذ هذه اللحظة بدأ تولد معان متموجة ومزدوجة في أكثر من اتجاه. إذ كيف من الممكن لوصول حيوان ضعيف أن يحرك الحياة الراكدة لانسان معزول، وفي نفس الوقت أن يُظهر مدى ظلام العالم الداخلي له، وفداحة الخسائر النفسية التي لا راد لها.
بسرد سلس امتاز بالتلقائية، والرشاقة الشديدة، مع لغة عذبة ومكثفة، يتم استدراج القارئ إلى تتبع نمو العلاقة بين “هارون” والكلب “ونيس”، وكأن العالم منغلق وفارغ من البشر، أو بعبارة أدق هذا ما أراده هارون لحياته، واقع خال من العلاقات الإنسانية، من الصلات، من التعالقات العاطفية أيا كان نوعها أو شكلها، والأهم من هذا كله أن لا يكون مرئيا من الناس، لنقرأ “هدم في بضعة أيام كل ما جاهدت من أجله منذ أن انتقلت إلى دهب، لقد جعلني مرئيا موضوعا للنظر، عالقا كالقذى في الأعين، ككارثة، كرجل كاذب يُطلق كلبا مؤذيا، أضعف من السيطرة عليه، وأجبن من الاعتراف بمسؤوليته عنه “.
الخسارة المفروضة والإرادية
تحفل الفصول الخمسة للرواية، بمتن سردي قائم على الاسترجاع، المواجهة، الندم ،الفقدان ،الجنون ،الهلاوس، مما يحملنا على الوقوف على الدلالات الحقيقية لهذه التشابكات التي ترتبط بالخطاب النصي الذي يتجاوز الحكاية الرئيسة إلى نقطة أبعد، إنه نص بطبقات متعددة. المحور هنا هو فعل ” الخيانة” الذي نتج عنه نكوص، وشلل حياتي تام، وعجز عن المواجهة، بيد أن رمزية خيانة الزوجة والصديق هنا تنطبق على خيانات كثيرة أخرى، لا يمكن حصرها، وتستدعي عند البطل مأساة ” أوديب”، ثم حواراته الفلسفية المتخيلة مع “الكلبة المرقطة البيضاء”. إذ تتحرك هذه الرواية بين واقعية سوداوية مفرطة، وبين طرح فانتازي للحياة، تجعل من العلاقة مع الكلاب سبيل آخر لإقامة حوارات وجودية مع الذات والآخر، سواء كان هذا الآخر انسانا أم حيوانا، ويمثل هذا المتن غاية في حد ذاته ضمن نص يشق طريقه بين عالمين : واقع بائس، وضلالات مفترضة، مما يُنتج قسوة سادية مفرطة تسوق غايتها لتعذيب الذات بلا رحمة إذ “عندما يصطبغ الجميع في ذهنك بمسحة الملائكة أو سمت الوحوش، لن تعدم المُبرر للقسوة، فمن يتحملها أكثر من الملائكة، من يستحقها أكثر من الوحوش”
تتدرج الرواية في تقديم مستويات الألم، من الطرح البسيط لرجل مطعون في كرامته وكبريائه، مهزوم في مهنته، إلى تورطه في رعاية كلب قادته الصدفة إلى بيته، مع أهمية الإشارة إلى علاقة هارون مع الكلب بأنها مدموغة بخوف شديد من الكلب في البداية. يتابع القارئ تحولات الخوف، و ترويضه، فإذا كان جل انشغال البطل ايجاد وسيلة لترويض كلبه ونيس، فإن متابعة تجليات مشاعر الخوف وتحولاتها من حالة الرعب من وجود كلب في الفناء الخلفي، والعجز عن تقديم الطعام له والإمساك بعصا لتقديم وعاء الماء، وصولا إلى التمكن من ضرب هذا الكلب بالسياط وتعذيبه وجرحه، ثم التآخي معه والنوم بجواره في نفس الغرفة، مما يدفع للتساؤل عن هوية الضحية هنا!
يُمثل الجانب النفسي في هذه الرواية المحور الأهم من أي تفصيلات سردية أخرى، ليس الواقع الحدثي المؤدي إلى سيرورة الآلام وتناسلها إلا حُجة لتبرير الحضيض السلوكي والنفسي الذي انزلق إليه البطل مكرها في جانب منه وبإرادته في جانب آخر، هذا ما تعكسه تفاصيل تمرين الكلب واخضاعه، مع التنبيه إلى حضور الوعي الإنساني في شخصية هارون عبر قدرته على التعذيب وايجاد مبرر لنفسه للقيام بهذا الفعل، مثل كل الساديين في العالم، يجدون مبررات لدوافعهم، لنقرأ ما يكشف ازدواج الخيط الواهي بين السادية والمازوشية : ” تأملت ندبته الأولى التي صنعتها عندما شججت جبينه بدراجتي، وقد صارت جافة ومضيئة وأبدية، داعبتها بحنان، وعند موضع مماثل برأسي حفرت بالسكين جرحا، طأطأ برأسه كمذنب حقيقي، احتضنته كقديس، سالت دموعي مختلطة بدمي، لكن تلك المرة ليس عن شعور بالذنب، فجراحه الآن مقابل جراحي.”
يبدو سائر الشخوص في النص مجرد أشباح، رغم حضور عالمهم وتفاصيلهم الصغيرة إلا أنهم يظهرون على مسرح الأحداث ليؤدوا دورا عابرا ويمضون مبتعدين، بما فيهم الشخصية النسائية الوحيدة ” أسما” التي تتواصل مع هارون وتكون سببا في وصول الكلب إلى بيته، تبدو قصتها في النهاية غامضة، ومشكوك بحقيقتها ككل. فالعالم الضبابي الذي صاغه هارون حول نفسها يسوره موات روحي مرعب، لا يمكن أن يحتمل وجود أي كائن بشري إلى جواره.
تحضر أيضا شخصية بربارا الزوجة المتهمة بالخيانة، ورغم صغر المساحة السردية عنها، واقتصار البطل في حديثه عن حياته معها على كشف رؤيتها وقناعاتها الحياتية إلا أن صورتها الذهنية بدت أكثر وضوحا من شخصية أسما، رغم الحضور الجسدي للأخيرة.
تبدو هزيمة البطل ومكابدته لشقائه في الرواية مرآة عاكسة لانتهاء فكرة ” الحب”، في داخله، الحب بمفهومه الأشمل الذي يضم تحت مظلته التعاطف والرحمة والعطاء، وسائر المشاعر النبيلة. انتهاء الحب يؤدي إلى جرح ينزف باستمرار ويجعله عاجزا عن رؤية الحياة سوى من منظور الايذاء، لعل أكثر ما يكشف هذه الحقيقة حواراته الفلسفية الثرية مع الكلبة المرقطة البيضاء، فقد استعان الكاتب بهذا النوع من الحوارات للإضاءة على عالم بطله الداخلي، والكشف عما لا يستطيع مواجهته والبوح به، إذ تبدو المعادلات كلها مقلوبة في النتيجة، وكأن عالمه وصل إلى نهايته وانغلق عليها.
د.لنا عبد الرحمن
اندنبدنت عربية