عائشة سلطان تكتب “هوامش في المدن والسفر والرحيل”
لا تنتهي حكايات السفر، بل تؤلف ديمومتها من عين لماحة تلتقط تفاصيل لا يراها الآخرون، حيث يحضر صخب المدن، ثلوج الجبال، هدير البحار، اختلاف الوجوه، صخب الشوارع، ازدحام المقاهي، وشوق المسافر، ليشتبك هذا كله في حكايات تُشعلها الذاكرة والمخيلة والحقائق المكانية كما يراها الكاتب. فالكتابة الحساسة عن المكان تُقدم للقارئ أكثر مما ينتظره، لأنها تحمل مواجهة مع الذات وأسئلة كثيرة تنسال بلا هوادة حاملة تدفقها الخصب عن الأمس واليوم، عن الهوية، السفر، الوحدة، الغربة، الألفة.
تنبثق هذه التساؤلات بأشكال شتى في كتاب ” هوامش في المدن والسفر الرحيل”(الدار المصرية اللبنانية) للكاتبة الإماراتية عائشة سلطان، وتمضي هذه الأسئلة لتطرح رؤيتها في السياسة والتاريخ والسفر والكتابة. تمنيت لهذا الكتاب أن يطول أكثر، وأن أستمر في الارتحال مع صفحاته من مدينة إلى أخرى، فكل مقالة منه تقدم عالما منفردا بذاته.
غواية السفر
لا يقع كل البشر في غواية السفر، ولا يعرف هذه الغواية إلا من وقع في غرامها، فصار يُجند من أجلها كل ما يقدر على بذله من جهود مادية ومعنوية بغرض تلبيتها، المسافر الرحال المغرم بصعود الطائرات وركوب القطارات ليصل إلى وجهته، يدرك أن السفر في جوهره هو نداء ملح يأتي من الأعماق لرؤية سماوات جديدة، وهذا ما أكدت عليه الكاتبة على مدار الصفحات، منذ الجزء الأول، الذي اختارت أن تضمنه حكاياتها عن دبي، المدينة الرحم، ” أبجدية البحر والحياة، مدينة سهلة كنهار عميقة كنظرة وصعبة كصحراء مكشوفة وواضحة كالضوء”. بدت الكتابة عن دبي، حميمية للغاية، رقراقة ومتدفقة في مراجعة الذاكرة والصور وما رواه الآباء والأجداد عن حكايات الأماكن وتحولاتها، ونموها.
تحضر تفاصيل سردية تؤلف قصة قصيرة في بعض المدن، كما في الحديث عن العجوز الإنجليزية ” شيلا”، بدا الوصف للشخصية دقيقا، مفعما بالحيوية، مرئيا للقارئ، يمكن تخيل تلك السيدة وهي تقود دراجتها وتمضي لشراء حاجياتها، مع الاحساس ببرودها الإنساني المزعج الذي لم ترتفع حرارته لأنه جزء من طبيعتها. تتحدث المدن عن أهلها، تكشفهم أمام أعين الزوار ببساطة، ولو حسبنا أن المسافر الزائر لأيام لا يمكنه معرفة طباع سكان مدينة ما، فسوف نكون مخطئين، إذ تكشف ارتحالات النصوص في المدن ووصفها لأبنائها عن عادات وطبائع تشكلت بفضل الثقافة والسياسة، والأحوال الاجتماعية والاقتصادية المتحولة التي تفرض سطوتها على البشر.
في مدينة ” براغ” التي تشهد تدفقا سياحيا مخيفا، تجلس الكاتبة في مقهى “سلافيا” حيث اعتاد الشاعر العراقي الجواهري الجلوس يوميا أثناء إقامته في براغ، تعبر جسر تشارلز، تزور الكنائس والقلاع بطرزها المعمارية ذات التاريخ العريق، لكن هذه المدينة رغم فتنتها لا تبدو السياحة فيها سهلة حيث لا يعرف أهلها أبرز معالمها السياحية، كما أنها لا تبدو ودودة مع الغرباء، تقول : ” براغ مدينة جميلة جدا، لكنني لسبب ما تمنيت لحظتها لو كنت في بيروت”.
هويات المدن
ليست هويات المدن هي الحاضرة فقط عند تدوين حكايات المكان، بل وجوه الناس وملامحهم وأحزانهم العابرة التي لم يُخمنوا أبدا أن ثمة من رصدها في تلك اللحظة، واقتنص تفاصيلها في يومياته، إنها عين الكتابة التي تُسجل ما لا يراه الآخرون خاصة في لحظات الوحدة، وفي مدينة مثل ” بادن بادن” يمتد فيها الجمال ويسري داخل القلب، يستوقف الكاتبة رجل وحيد لا يأبه لكل الجمال من حوله ” ظلت عيناي في ما تبقى من أيام لي في ذلك المكان تتبعان ذلك الرجل الوحيد…أيقنت فيما بعد أن الرجل قادم من مشكلة أو أزمة، يبدو أن وجعه أكبر من قدرة المدينة على مداواته”.
في كتابتها عن بيروت ” لبنان كما لم أعرفه” يتلقف القارئ احساس بالحزن منذ الكلمات الأولى،إذ لم تتمكن سلطان من تلافي الشجن على حال لبنان، رغم أن الكلام يرجع لمرحلة تسبق ما وصل إليه الآن، لكن المقدمات تعطي النتائج، تقول : ” زرت لبنان كما لم أزر أي بلد عربي آخر، أحببته كما أحبه كل العرب”، وفي ارتحال سريع إلى مدينة جبيل تنتقل الكاتبة في غمضة عين إلى بيروت 1937، وإلى حوار مع سيدة أرمنية عجوز تقول وهي تعرض صور بيروت زمان : ” أنا عشت هذه المرحلة” إنها الماضي حين كان لبنان كما غنته فيروز، لكن صوت فيروز اختفى من على مدارج بعلبك وبيت الدين… وصارت الخطب السياسية الجوفاء، أكثر من إصدارات الكتب”.
يستوقف القارئ أيضا الجزء المتعلق بالكتابة عن القاهرة، المحبة المتدفقة للمدينة، واحساس غامض بالانتماء، إلى جانب مراوحة بين الماضي والحاضر في رؤية المكان،مع التوقف قليلا أمام التغيرات التي عصفت بمصر في السنوات الأخيرة، في حين أن الكتابة عن مدينة الاسكندرية اقتصرت على التاريخ مع حكاية الفيلسوفة ” هيباتيا”.
لم يقل الحديث عن القاهرة حميمية عن سردها لتفاصيل عن الكويت وسوق المباركية، وعلى الرغم أن الكتاب في جوهره عن السفر، وتضمن الحديث عن ستة عشر مدينة، بينهم أربع مدن عربيةفقط، إلا ان ثمة شعور بالانتماء إلى الواقع العربي يحضر بقوة في فروع من الحنين الممتد، سواء في الحديث عن سنوات الصبا والعلاقة مع المدينة الأم “دبي”، أو في التوقف أمام التحولات الزمنية التي حدثت لمدن مثل القاهرة وبيروت والكويت، أيضا في اختيار الكاتبة أن لا تكمل دراستها في لندن ، وتقرر العودة إلى وطنها.
الجزء الذي حمل عنوان ” مفكرة مسافر” تضمن رؤية الكاتبة للمدن، للساحات، للتغيرات التي يُحدثها فينا السفر، لحركة الطقس وكيف يغيرنا مناخ المدن ويؤثر على أحوالنا النفسية ، ولفكرة السفر عموما، فالمدن لا تجامل عشاقها، من المحتمل أن نقع في حب مدينة لم يحبها الآخرون ممن نعرفهم وسبقونا إليها، وقد يحدث العكس. إن اختلاف أمزجة السفر والمسافرين أمر واقع وحتمي حتى بين الأصدقاء المقربين، لذا ترى أنه ” الأفضل أن تذهب إلى المكان بلا تصورات… الحقيقة المؤكدة هي أن الناس لا يجمعون على حب مدينة أو الإعجاب بها بالقدر نفسه، فالأمكنة والمدن والنساء لا يمكن الاتفاق عليها أبدا.” يحضر حسا فكاهيا لمفارقات السفر المضحكة الموجعة، كما في مقالة ” ذاكرة الريف والمدينة”، حيث المقارنة بين الريف الأوروبي ونظيره العربي، أيضا مع التوقف أمام لسعات السفر في سرقات محكمة وعاجلة تحدث للمسافر في غمضة عين.
تكمن جمالية الكتابة في نصوص السفر هذه، في قدرتها على اختزال المرئي والذاتي والأدبي والسينمائي ضمن حيز واحد مع التاريخ والجغرافيا والفلسفة، تتداخل التفاصيل الخارجية مع ما تراه العين وما يشغل الخاطر، وما يحضر في الذاكرة من أفلام وروايات، في محاكاة رشيقة تؤلف بين الماضي والحاضر، فلا يمكن اغفال تاريخ المدن وانعكاسه في مرايا ذات مسحورة بنداء الأماكن، ليس بامكاننا إلا الوقوع في غواية حكاياتها.
لنا عبد الرحمن
independentarabia.com