“بوابة رحلة اللاعودة” رواية العشق الإفريقي الغامض

دافيد ديوب نجم في عالم الأدب لا يستهان بحضوره

مع روايته الثانية “شقيق الروح” التي صدرت في فرنسا عام 2018 ، استطاع الكاتب السنغالي الفرنسي دافيد ديوب احتلال مكانته في الساحة الأدبية العالمية، فقد نال عنها جائزة البوكر الأدبية الدولية لعام 2021، كما نال عن هذه الرواية حسنة الطالع جائزتي غونكور دي ليسيه وهي جائزة فرنسية خاصة بطلاب المرحلة الثانوية حيث يشاركون بالتصويت على اسم الفائز، وجائزة أحمدو كوروما في سويسرا،  وقد تُرجمت روايته إلى اللغة الإنجليزية تحت عنوان “في الليل كل الدم أسود”، وقد قامت بترجمتها عن الفرنسية الشاعرة البريطانية آنا موسكوفاكيس.

الذاكرة و شقيق الروح

“الذاكرة مهمة جدا لتحقيق التوازن”، يمكن لهذه العبارة التي قالها ديوب أن تكون مفتاحا مهما لقراءة وتحليل عالمه الروائي، ديوب الذي يعمل أستاذا للأدب الفرنسي في جامعة “باو” الواقعة جنوبي فرنسا، ينحدر من قارتين : أوروبا من جهة الأم، وإفريقيا من جهة الأب، لكنه في رواياته لم ينشغل في الكتابة عن أزمات تتعلق بالهوية أو الانتماء أو اللغة على نحو فردي، كما نجد في معظم الابداعات التي تصدر عن كُتاب ينحدرون من أكثر من عِرق إذ يذكر ديوب في أحد حواراته أنه لم يعانِ من أزمة هوية سواء في فرنسا أو السنغال لأن عائلته من جانب أسرة والدته ووالده تعاملوا معه بحب واحتضان، إلى جانب هذا كله لا يتحدث ديوب عن مواجهته لمواقف عنصرية في فرنسا، إنه كاتب منغمس في انشغال جاد بالتاريخ، لذا مكانة ديوب الأدبية تأتي من اختياره  الكتابة عن قضايا وجودية مختبئة في جوف الماضي الانساني الدامي، الذي تم التعتيم عليه وتتخذ فيه العنصرية وجوها أخرى أكثر تشعبا في الطبقات التحتية للصراع الإنساني الذي تكون فيه الغُلبة دائما للأقوى؛ حيث تظل ثمة أصوات خافتة تنتقل حكاياتها مع أغنيات النهر، وحفيف أوراق الشجر وسطوع نجمة بعيدة، هذه الحكايات التي تحمل تنهيدات أصحابها الراحلين نجدها في روايتيه “شقيق الروح” و “بوابة رحلة اللاعودة”.

تُشكل الحرب جزءا من موروث ذاكرة ديوب عبر ما سمعه من حكايات نُقلت إليه عن طريق الجد والأب،عن فرق المشاة المكونة من الجنود السنغاليين الذين شاركوا في الحربيين العالميتين، يسترجع ديوب في ” شقيق الروح” أحداثا حقيقية لا يعرفها القراء، يصيغها في قالب روائي يُقدم علاقة صداقة تجمع بين جنديين هما ” ألفا نادياي” و ” ماديمبا ديوب”  يخوضان معا غمار الصداقة وعذابات الحرب وجراحها الدامية جسديا ونفسيا. لعل أهم ما يفعله  الكاتب في عملية نبش التاريخ هذه أنه عبر الكتابة يقدم مواجهة مع ماضي فرنسا كقوة استعمارية كبرى سيطرت على السنغال، وأخذت آلاف الجنود السنغاليين ليقاتلوا في الصفوف الأمامية، ويواجهوا الجنود الألمان، ويقوموا بكل الفظاعات خلال الحرب. ويظل السؤال الضمني الذي تطرحه الرواية: عمن كانوا هؤلاء الجنود يدافعون، ومن أجل ماذا فقدوا انسانيتهم وحياتهم؟

لعل الإجابة تأتي نصرا للأدب للإبداع للرواية التي تعيد Yنصاف ضحايا التاريخ، نابشة قبورهم ليخرجوا من جديد ويحكوا حكاياتهم .باعت هذه الرواية أكثر من 170 ألف نسخة وترجمت إلى ستة عشر لغة.

بوابة رحلة اللاعودة

“بوابة رحلة اللاعودة”، هي الرواية الثالثة لديوب والمرشحة للفوز في جائزة الغونكور، عنوان الرواية مستلهم من الاسم المستعار الذي يطلق على جزيرة “جوريه”، التي تقع في المحيط الأطلسي بالقرب من خليج داكار،  مكان مُرعب مليء بالقصص المؤلمة والحيوات الممزقة، فمن هذا المكان بدأت رحلة النهاية لملايين الأفارقة الذين غيبتهم تجارة الرقيق السود، من هنا جاء الاسم للدلالة على أن الذي يغادر هذه الجزيرة لا يعود.

بطل روايه ديوب هو عالم النباتات ميشيل أدانسون، الذي يشبه أوريفيوس الإغريقي في الميثولوجيا اليونانية، أوريفيوس الشاعر والموسيقي والرحالة المغامر الذي أنقذ البحارة من غناء السيرانات الفتان.

يخوض أدانسون مغامرة السفر إلى السنغال بين( 1749 إلى1754  ) وله من العمر ثلاثة وعشرين عاما فقط، كان طموحه أن يتمكن من دراسة النباتات البرية، ويصبح عضوًا في الأكاديمية الملكية للعلوم في باريس. وخلال إقامته هناك يتعلم لغة “الولف”، وهي لغة محلية في السنغال، ويجمع القصص والأساطير ويسجلها في دفتر يومياته، بل إنه يتمكن من تسجيل لغة الولف بالأحرف اللاتينية ويشكل منها معجما لمن سيأتي بعده. من المهم أن نذكر أن شخصية أدانسون هي شخصية حقيقية تتبعها ديوب وكتب قصتها، يقول: ” لقد كان الباحث السنغالي في جامعة بازل عثمان سيدي مؤلف أطروحة عن ميشيل أدانسون هو الذي وضعني على درب مسوداته في المتحف في باريس”.

يلتقي أداسون مع مرام وهي فتاة إفريقية هربت من العبودية بعد أن تم خطفها من قريتها والاعتداء عليها جسديا وبيعها إلى مقابل بندقية، لكنها بقدرتها على التمرد والمقاومة تتمكن من الهرب والتنكر والإقامة في قرية بعيدة والعمل كمعالجة بالأعشاب، ثم تلتقي بالعالم الفرنسي القادم إلى بلادها من أجل أبحاثه، هذا اللقاء بينهما يغير مسار حياته ورحلته لأنه يقع في حبها أسير جمالها الخلاب ومعرفتها بالنباتات، وفي الوقت نفسه يُدرك في قرارة نفسه أن هذا  الحب من المستحيل أن يُكلل بالارتباط، يتساءل أدانسون : “كيف أجعلها مقبولة لمن حولي؟ هل سيغفر لي العالم الذي أتيت منه زواجي من زنجية؟!”، مرام أيضا كانت تدرك هذا، وربما لم تكن تريد الجهر بما بينهما علانية، رغم أنها أحبت هذا الرجل الأبيض، غير النمطي الذي يتحدث لغتها، ويعاملها بأسلوب مختلف عن سائر الرجال في قريتها.

هناك شخصية أخرى تقترب من أدانسون وهو مرافقه “ناداك”، الذي يصبح صديقه المقرب ويساعده في تعلم اللغة وجمع النباتات، ويكون حاميه في كثير من المواقف وصلة الوصل بينه وبين الآخرين، ويساعده في البحث عن مرام.

لم يقدر المجتمع الأكاديمي الفرنسي أدانسون حق قدره،وبالتالي لم يتمكن من دخول الأكاديمية، وعاش في حسرة طيلة حياته من هذا الأمر.. إضافة إلى تحسره واحساسه بالذنب لفقدان المرأة الإفريقية التي أحبها، وهذا هو وجه الشبه الآخر مع أوريفيوس حين تموت زوجته يوريدوس.

لعل السؤال المثير هنا في تداخل الواقعي مع التخييل السردي، في احتمالية أن تكون شخصية مرام وليدة مخيلة ديوب، أراد من خلالها منح الرواية قدرا كبيرا من الرومانسية المحكومة بقوانين القرن الثامن عشر، التي تم تجاوزها منذ عقود، دافيد ديوب نفسه هو نتاج زواج امرأة أوروبية، ورجل إفريقي، لكنه من خلال قصة الحب هذه وفشلها الذي لوع قلب أدانسون خاصة بعد غياب مرام، يضع نصب عين القارئ العديد من قصص الحب التي كان لها نهايات مشابهة بسبب الاختلافات العرقية التي لم يتمكن المحبين من التغلب عليها في ذلك الزمن. إلى جانب هذا أراد ديوب منح أدانسون نوعا من التكريم العلمي لمكانته وسعيه الحثيث في السفر وتعلم لغة غريبة وتدوين يومياته في دفتره الذي تكتشفه ابنته ” أجلا”، وفيه الكثير عن رحلته التي دامت خمس سنوات في السنغال، وما كان يدور ذاك الوقت في تجارة الرقيق، واستغلال الموارد الإفريقية، خاصة في تجارة خشب الأبانوس، والموارد البحرية أيضا.

من خلال قصة حياة عالم الطبيعة أدانسون، يعيد ديفيد ديوب خلق جمال وهشاشة وعنف الكائنات الحية بجميع أشكالها سواء في علاقته مع الطبيعة ونباتاتها وحيواناتها،أو عبر التناقضات التي عاشها بطله، في إدانته للعبودية، وعدم قدرته على اتخاذ موقف حقيقي منها جهرا، لكن ربما يكمن جمال شخصيته في لحظات الضعف تلك، وتجاذبات الرغبة بالتحرر والاحساس بالمساواة بين جميع البشر والعجز عن تحقيق هذا واقعيا. تؤكد هذه الرواية من جديد على قدرة ديوب الابداعية على الكتابة باحساس إنساني يلامس الروح، بحيث يجعل من أبطاله مرئيين ليس في فرنسا فقط بل في العالم كله، من خلال قدرته على تدوين ما عاشوه بصدق فني لطالما يبحث عنه القراء.

لنا عبد الرحمن

independentarabia.com

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى