بودابار وثنائية العالم ..في ندوة ورشة الزيتون

 

في يوم صيفي غائم قليلاً على غير عادة شهر يوليو في بيروت؛ وصلت دورا إلى حي الأمير، لم تتوقع أن جريمة قتل ستكون في استقبالها عند وصولها للسكن الجديد، الذي اختارته بناءً على نصيحة الدكتور يوسف صديق والدها، في هذا اليوم قيل أن جومانة قُتلت في شقتها الواقعة في الدور الرابع من مجمع عمارات ديبة، خلال سيرها في الشارع المضطرب من خبر الجريمة، تسارعت في ذهنها عدة أفكار حول هذا التزامن، لكنها واصلت خطواتها نحو الهدف الذي جاءت من أجله.”

بتلك المقدمة؛ بدأت فعاليات الندوة التي احتضنتها ورشة الزيتون بالقاهرة، لمناقشة رواية بودابار للكاتبة الروائية د. لنا عبد الرحمن، حيث شارك في الندوة التي أدارتها الكاتبة منى رامز، كل من الناقد د. محمد الشحات، والروائي د. محمد إبراهيم طه، والكاتب شعبان يوسف، والناقدة د. فاطمة الصعيدي، والكاتب علي قطب، ولفيف من المثقفين والمهتمين بالشأن الأدبي.

وخلال كلمتها الافتتاحية، قالت الكاتبة منى رامز: بودابار رواية تتكون من فصل يحمل رقم زيرو باللاتينية وسبعة وعشرون فصلاً وتقع في مائة وأربعة وستين صفحة؛ فهي رواية قصيرة تدور أحداثها في حي الأمير وهو أحد أحياء بيروت العتيقة التي كانت تقع على خطوط التماس في يوم ما، ودارت على أطرافها صراعات الحرب الأهلية تاركة آثارها على المدينة والناس، حيث يلتقي مجموعة من الشخوص المتباينين المختلفين، لتبدأ الرواية بوقوع جريمة قتل جمانة؛ المرأة الجميلة الغامضة في حضورها واختفائها، الرواية تعبر عن انكسارات مرحلة الحرب في لبنان وانعكاس تلك المرحلة على الأفراد.. الرواية لها دلالات رمزية، وبالأخص شخصية جمانة، التي ترمز إلى الجمال والفتنة؛ فيكتشف القارىء أن الجمال مصيره أن يُغتال في بيروت الفاتنة، وأيضًا في مجتمعات عربية أخرى حيث تتشابه الأحداث، وتتناول الرواية قضايا متعددة داخل المجتمع اللبناني؛ سردتها الكاتبة بلغة سلسة بسيطة هادئة تغوص في المشاكل اليومية بأسلوب سردي سريع وممتع في ذات الوقت. ويُشكل عنوان رواية “بودابار” للكاتبة لنا عبد الرحمن مفتاحًا للدخول إلى عالم الرواية، حيث تلتقي المتناقضات، ويجتمع أبطال الرواية على اختلاف انتماءاتهم لتتقاطع حكاياتهم عند لغز المدينة، وجريمة اختفاء جثة امرأة فاتنة.

الثنائية في العالم

وقال الناقد د. محمد الشحات: إن الذات هي مركز العالم، ومن خلالها تُكتشف الذوات، وأغلب الذوات في بودابار نسائية، إذًا العنوان هنا هجين قائم على هذه الهجنة أو هذا التجاور الدلالي والثقافي بين دالين متناقضين، أحدهما روحاني والآخر مادي؛ فبودابار تطرح فكرة الثنائية في العالم مثل ثنائية الجسد والروح، والذكورة والأنوثة، والمتعين والمحسوس والمجرد، فالرواية تشمل فكرة فلسفية لها علاقة بالفلسفيات الثانوية أو القائمة على التصور ثنائي البعد كالحياة والموت؛ فهذه الفلسفة الثانوية أو ثنائية البعد موجودة في الرواية في مناطق معينة مع بعض الشخصيات، لكن علينا أن نستحضر أثناء قراءة الرواية هذه الثنائية طوال الوقت، ونعيد طرح السؤال.. إلى أي من طرفي الثنائية سوف تقتصر الرواية أو الراوي ومن ورائه المؤلف؛ ففي بودابار أكثر من راوي في فضاء الرواية، التي تتكون من 27 مشهدًا سرديًا، فالمشهد الأول معنون برقم زيرو باللغة اللاتينية التي هي في الأصل عربية، ونجد المشاهد الأخرى مسلسلة من المشهد الأول إلى الثاني وحتى المشهد السابع والعشرين يحمل نفس الخط السميك؛ ليوازي أيضًا المشهد الأول رقم زيرو بالخط السميك، وهناك أيضًا فكرة العالم الذي بين قوسين أو بين مزدوجتين؛ فافتتاح الرواية بهذا المشهد الذي يضم جريمة قتل وجثة وحضور للشرطة يضع القارىء في أجواء تأملية؛ أما المشهد الأخير في الرواية فنجده استعادي أو استرجاعي، وسنجد أيضًا أن الرواية تبدأ بمفتاح آخر بعتبة أخرى صغيرة جدًا في الصفحة الأولى وهي: “ليس هناك صدفة”، إذًا ما يقع بين دفتي هذه الرواية في مشاهدها الـ27 يقع في إطار نقد الصدفة أو نفي فلسفة الصدفة.بودابار كرواية اعتمدت على عدد كبير من الشخصيات، لكن هناك تفاوت في وزن أو ثقل كل شخصية، وفي فاعليتها وتأثيرها في إثراء الأحداث أو إطفاء بعدًا حقيقيًا أو رمزيًا، لكن القارىء سيقف كثيرًا ليتأمل شخصيتين رئيسيتين هما : دورا وجومانة، لكن جومانة كانت الأسبق من حيث الذكر فدورها محفز سردي، لكن من حيث الثقل تنتهي الرواية بدورا،  وقد شعرنا في بداية الرواية أننا بصدد رواية بوليسية، حيث تبدأ الرواية بمشهد جريمة قتل واختفاء جثة؛ لتظل فكرة البحث عن القاتل مسيطرة على القارىء منذ بداية الأحداث، فالبحث لم يهدأ ولكنه سيفتر في وسط الرواية، وأحيانًا نتناسى ذلك البحث وننشغل ببيروت، فالرواية كما أقول تصنع توازيات متعددة، ومن يفكر في الحمولة الثقافية خلف الشخصيات والأحداث قد يجد أماكن كثيرة يعتمد عليها في تأويل بعض الأفكار.

كسر نمط السرد

وفي كبمته، قال الروائي علي  قطب، يحضر في بودابار التفكيك، وكسر النمط السردي، الذي يؤدي  إلى مغايرة أفق توقعات القارئ، والتحرك بحرية في الزمن، إلى جانب منح الشخصيات أن تقوم بدور الروي،مع إخفاء الحقيقة لأن الإنسان لن يعرف كل شئ.

وتحتوي الرواية على مجموعة واضحة من الأبعاد هي: البعد الكوني: أي أن الرواية تتجاوز فكرة أن الإنسان بمفرده في الكون الفسيح، فنحن نجد البيئة والطبيعة والبحر والكائنات غير البشرية ظاهرة بشكل واضح، وهذا البعد مشترك كسمة أساسية في الأدب اللبناني من غادة السمان لربيع جابر، فالأدب اللبناني لا يمكن النظر له بمعزل عن الكون.

– البعد العالمي: فلبنان حاضر، كذلك الشخصية العربية والأجنبية، الكل ممتزج مع المجتمع، فلبنان أشبه بمحطة للحافلات تلتقي فيها المذاهب والاتجاهات المختلفة.

– البعد المحلي والأقليمي: يتضح ذلك جدا من خلال عرض آثار الأزمة اللبنانية، فهذه الرواية تحتوي على بقايا الحرب الأهلية، صداها موجود ويتردد بقوة والأزمة تستثمر بشكل متجدد.

– البعد الفردي النفسي: تمتلك الرواية عددا وافرا من الشخصيات المختلفة في سياق واحد وكل منهم يرمز لاتجاه معين وهناك شخصيات تلتقي ببعضها وتتفاعل مع بعضها البعض، ولا يمكن في هذا الإطار أيضا إغفال سيميائية الأسماء في العمل الروائي.

مظلة الاغتراب

وقال الكاتب والروائي د. محمد إبراهيم طه، إن الفصل الأول بدأ بطريقة بوليسية أثارت انتباه القارئ وشغفه، وذلك باكتشاف جريمة قتل جمانة في شقتها بالدور الرابع من مجمع عمارات ديبة بحى الأمير ببيروت عن طريق خادمتها، التي شهدت بوجود عدة طعنات في رقبة وصدر مخدومتها القتيلة، وأسرعت لاستدعاء طبيب الحي، وحين وصل شاهد بقع دم على السرير ولم يجد الجثة وأثناء ذلك وصل الضابط الذي تولى التحقيق  في مكان الجريمة وبدأ بجمع المعلومات عن الجريمة وقام باستدعاء معظم سكان العمارة وسألهم عن طبيعة علاقتهم بالقتيلة، وتوقع القارئ أن تستمر الرواية على هذا الشكل البوليسي إلا أن المؤلفة قد خالفت توقعه ذلك مبتعدةً في سردها عن هذه الطريقة البوليسية التي بدأت بها وأرادت أن تكون جريمة القتل تعبيرًا عن حالة أو تمثيل رمزي للبنان وليس مجرد جريمة قتل وبحث للشرطة عن القاتل.

وتابع “طه”:كان شعور الفقد والاغتراب هو السائد والمسيطر على شخصيات الرواية؛ فجمانة القتيلة تنقلت بين دول كثيرة وعرفت لغات كثيرة، وكذلك رجال كثيرون؛ فهي روح معذبة كما يقول زوجها، وكانت أمها قد هربت مع شخص تزوجته وهو على غير دينها ضد إرادة أهلها وحرمها أهلها من ميراثها وانتهت حياتها منتحرة. لقد أجادت الكاتبة؛ تصوير الحرب الأهلية اللبنانية ببراعة فنية ومشاهد صورت فيها هذه الحرب الرهيبة، كما استطاعت المؤلفة أن تقتنص من هذا العالم الكبير المليء بالشخصيات والأحداث رسالة واضحة حيث اعتمدت على بناء روائي ممتع يعتمد على الأسلوب السهل الممتنع.

وخلال مداخلتها؛ قالت د. فاطمة الصعيدي، إن رواية بودابار تحتوي على عدد كبير من أسماء الشخصيات، ويظلل الرواية حالة شديدة من الاغتراب النفسي يمكن تلمسها عند جميع الأبطال، وإن حرصت الكاتبة على رصد التحولات الاجتماعية أيضًا وأثر الحرب الأهلية على الأبطال، ثم ايجاد توازن معنوي يجعل مثلاً من شخصية الطبيب يوسف رمزًا إلى الثبات في زمن التشظي، في مقابل حفيده يوسف الذي يعكس الاضطراب ورغبة الرحيل عند الجيل الشاب، وبجانبه تحضر شخصية فرح اللاجئة السورية التي تطمح لترك البلدان العربية والهجرة إلى الغرب بأي ثمن.

أيمن مصطفى

جريدة ( صوت البلد )

زر الذهاب إلى الأعلى