ماتت… عاشت إيلينا فيرانتي رغم إطلاق الإشاعات

الروائية الإيطالية الأكثر شهرة عالمياً تصر على البقاء مجهولة الاسم والهوية

“المرأة المجهولة” لوحة للرسامة أندي هودسن

لا يعرف سوى القليل عن الروائية الايطالية إيلينا فيرانتي منذ بداية حياتها المهنية عام 1991، مع نشر كتابها الأول “حب غير مريح”، فهي تتبنى مقولة “الكتب بعد أن تُكتب ليست بحاجة إلى كتابها”، وتكتفي بأن تراقب من بعيد ما يقال عنها وما يثار حولها من أقاويل وإشاعات.

تتحرك فيرانتي بين الجموع بهوية مستعارة فلا يعرف أحد من هي حقاً، هل هي كاتبة سبق أن نشرت ولم تحظ بالنجاح فقررت المغامرة بإعادة الكتابة من جديد باسم مستعار؟ هل هي رجل؟ هل هي امرأة متحولة؟

لا أحد يجزم بالضبط من تكون حقاً، لكن غموض فيرانتي لم يتوقف عند هذا الحد، فقد سرت أخيراً إشاعة وفاتها عن عمر يناهز 79 عاماً، فهي من مواليد 1943، والإشاعة أطلقها صحافي إيطالي يدعى توماسو دي بينيديتي مهتم بالنميمة، ونقلتها عنه صحف أخرى ثم تبين كذب الإشاعة. حدث هذا بعد نشر الخبر عبر حساب مزيف يتظاهر بأنه ناشر إيلينا فيرانتي، الأمر الذي أعاد طرح الأسئلة حول هذه الروائية الأكثر مبيعاً وترجمة في العالم، وحول هويتها المجهولة من جهة، وحول مطلقي الإشاعات الكاذبة الذين يصل بهم الأمر حد تمني الموت للآخرين.

           “رباعية نابولي” بالترجمة العربية

في حال فيرانتي ربما من قام بإطلاق الإشاعة طمح إلى تحقيق خبطة صحافية تؤدي إلى خروج الكاتبة إلى النور والكشف عن هويتها بسبب ما حققته من شهرة مدوية تثير الغيرة في الأوساط الأدبية الإيطالية، وتدفع كثيرين إلى البحث عن سبل شتى لكشف القناع عن تلك المجهولة، ولكن من الحري القول إن الشهرة الكبيرة التي حصدتها هذه الكاتبة عالمياً عبر ترجمة رواياتها إلى أكثر من 50 لغة وبيعها ملايين النسخ، لم تغير من حقيقة رغبتها في أن تظل مجهولة تماماً لدى القراء.

لا صورة حقيقية لها ترافق كتبها، لا حفلات توقيع، لا ندوات، أما الحوارات القليلة التي أجرتها في الصحافة فتمت عبر ناشرها، واختارت الحضور عبر رواياتها فقط مغيبة وجودها الجسدي، وهذا مناقض تماماً لما يفعله الكتاب في العالم، إذ يقومون بالترويج لكتبهم عبر التعاقد مع وكالات أدبية تتكفل بترتيب ندوات ولقاءات وحفلات توقيع في أماكن عدة ومناسبة، مثل الجامعات والمنتديات الثقافية، بيد أن حال فيرانتي استثناء فريد يشذ عن القاعدة، إذ ظل ناشرها يقوم بالدور الإعلامي الذي ينبغي على فيرانتي القيام به.

“رباعية نابولي”

                             الرباعية بالإيطالية 

حققت فيرانتي شهرتها من خلال “رباعية نابولي” وتتألف من “صديقتي المذهلة” و”حكاية الاسم الجديد” و”الهاربون الباقون” و”حكاية الطفلة التائهة”. عربياً قام المترجم معاوية عبدالمجيد بنقلها إلى العربية بترجمة رشيقة، وحاولت كاتبات تقليدها سواء في نشر أعمال من أجزاء عدة أو في تقليد أسلوبها واعتماد أجوائها، لكن لم يحالفهن الحظ كما حدث مع فيرانتي.

تدور أحداث الرباعية في إحدى حارات نابولي وتتناول حكايات عالم متكامل عبر العلاقة بين صديقتين هما إيلينا وليلا. إنها صداقة مركبة من مجموع مشاعر إنسانية معقدة وملتبسة تتقاطع أنواع العواطف المتضاربة بين الصديقتين من المحبة والبغض والنكران والاحتياج والنبذ والإيواء. تسرد فيرانتي هذه الحكايات المحتشدة بكثير من التفاصيل ربما لتبيان مقدار غرق النفس الإنسانية في دهاليز مظلمة، لا يمكن اضاءة ظلماتها كلها ومعرفة ما فيها من أسرار، لكن الرباعية تحكي أيضاً عن تاريخ إيطاليا في الستينيات والسبعينيات والصراع الدامي بين الشيوعين والفاشستيين.

لعل السؤال الذي يطرح نفسه بعد تحقيق فيرانتي النجاح الأدبي، فهل هي مجهولة حقاً؟ هل هي مجهولة في نظر الدار التي تقوم بنشر أعمالها؟ أم أن ثمة تواطؤاً مكتسباً ضمنياً بالمحافظة على الصورة الرائجة بدلاً من تحطيمها وخروجها للعلن، مما يؤدي إلى إطفاء بريق الهالة من حولها؟

الكاتبة المتوارية تماماً

تثير رباعية نابولي الشكوك في أن المؤلفـ/ـة من نابولي، وفي المقابلات التي تمت كتابة ومن خلال الناشر، قالت الكاتبة إنها تفضل الاسم المستعار على الظهور الإعلامي، ففي عام 2016 نشر الصحافي كلوديو غاتي مقالة “يكشف فيها أن فيرانتي هي المترجمة أنيتا راجا المتزوجة من الكاتب دومينيكو ستارنوني، وهي من أم ألمانية يهودية انتقلت إلى إيطاليا بعد الهولوكوست”، ثم عادت الشكوك واتجهت نحو دومينيكو ستارنوني نفسه على رغم أن سرد الرباعية يدور حول علاقة صديقتين، وبدا من المستبعد أن يكون الكاتب رجلاً.

ربما كان من الممكن أن يكتشف “غاتي” هوية المؤلفـ/ـة من خلال ملاحقة كشوف رواتب الناشر، إذ سيظهر اسم أنيتا راجا مرات عدة بتحويل مبالغ مالية كبيرة تتزامن مع ذروة مبيعات كتب فيرانتي، ومع ذلك لم يتم تأكيد أي شيء على الإطلاق، ولا يزال اللغز قائماً وراء هوية فيرانتي على رغم أنه تم إنتاج روايتها “صديقتي المذهلة” عام 2018 في مسلسل قامت بعرضه شركة HBO، لكن لم يكشف بشكل جازم إذا كانت العقود والأرباح قد ذهبت لمصلحة أنيتا راجا.

حين قال مطلق الإشاعة “أود أن أكون بطل الكذب في إيطاليا”، فهذه الجملة قالها الصحافي توماسو دي بينديتي الذي يستفيد في كذبه من وسائل الإعلام القديمة والجديدة، وبينديتي من مواليد عام 1969، يعيش في روما ويعمل في التدريس ومعروف بنشره لأخبار كاذبة عن عمد، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينشر فيها مثل هذه الأخبار.

هل “أكاذيب وطلاسم” لمورانتي هي رحم روايات فيرانتي؟

بدأ دي بينديتي وهو ابن لوالدين يعملان في الصحافة، مسيرته المهنية بشكل طبيعي، ولكن انتهى به الأمر إلى اتباع خطوات مختلفة عن عائلته، ففي عام 2010 كشفت إحدى منشورات صحيفة “نيويوركر” أن جميع المقابلات التي أجراها بينديتي وبلغت 60 مقابلة كانت مزيفة، وقد ضمت أسماء مهمة وشهيرة عالمياً مثل ميخائيل غورباتشوف والدالاي لاما وفيليب روث، كما استخدم بينديتي أيضا تغريدات مزيفة لإعلان وفاة بابا الفاتيكان وفيدل كاسترو وبيدرو المودوفار، وفي حوار معه لصحيفة “غارديان” عام 2012، قال إن تغريداته المزيفة كانت مدفوعة برغبته في كشف مدى ضعف وسائل الإعلام في إيطاليا. عمل دي بينديتي في بداياته ككاتب مستقل يبيع المقابلات الوهمية للصحف المحافظة لأنها غالباً ما تنشر مقالات من دون التحقق من خلفيتها، وبغرض تعلم أسلوب التحدث إلى الأشخاص الذين يحاورهم وهماً، كان يقرأ كتبهم بعناية ويعرف طريقة تفكيرهم ويصوغ الأسئلة والإجوبة من خلال ما قرأه عنهم.

ويرى بعضهم في دي بينديتي شخصاً مخادعاً يسبب الاضطراب عبر استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي ونشر أخبار كاذبة تشيع البلبلة، وللمفارقة يجد هذا الصحافي من يتناقل أخباره، فقد أصبح ماهراً في خداع الجميع وإحراج مؤسسات إعلامية عريقة.

أما إيلينا فيرانتي فلنعرفها حقاً علينا أن نقرأ هذا المقطع من “صديقتي المذهلة” الذي يتقاطع مع رؤيتها للحياة واختياراتها، وفيه تصف الشخصية الرئيسة صديقتها بهذه العبارات، “قالت لي مراراً خلال أكثر من 30 عاماً إنها تريد أن تختفي من دون أن تترك أثراً، ولم يخطر في بالها أن تهرب أبداً ولا أن تغير هويتها، ولم تحلم بأن تبدأ حياة جديدة في مكان آخر، ولم تفكر في الانتحار إطلاقاً. كانت نيتها في أمر مختلف كلياً، وكانت تريد أن تتبخر وأن تتلاشى كل خلاياها، حتى يستحيل أن يعثر أحد على أي شيء يخصها”.

لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى