“سرقة أدبية” تفضح عجز النقاد عن كشف مسروقات الكتّاب
رواية مكسيكية تقدم اللعبة في سياق بوليسي تشارك فيها الزوجة انتقاما
تثير كلمة سرقة أدبية فور سماعها، حالاً من الفضول والدهشة والتساؤل، إذ تجمع بين كلمتين وحالتين متناقضتين،”السرقة” بالتجاور مع “الأدب” الذي من المفترض على من يمارسه أن يتحلى بصفات نبيلة مبدئياً. فهل صحيح “أن السرقة الأدبية أخلص أشكال الإعجاب”، كما يرد في رواية الكاتب المكسيكي إيكتور أغيلار كامين “سرقة أدبية”، دار الخان، ترجمة حسن بوتكى؟ تتخذ الرواية من هذه القضية محوراً لمعمارها السردي، من خلال كاتب يروي منذ الصفحة الأولى حكايته مع السرقات، وكيف يقوم بها، وما هو مغزاها الخفي، مع وجود فرضيات أخرى خلف حالة السارق لا تتعلق فقط بالرغبة بنوال الشهرة، والظهور والانتشار في الأوساط الأدبية، بل تتعدى إلى إحساسه بالعجز والدنو الذاتي مقارنة بالمبدع الحقيقي.
تبدأ الرواية بضمير المتكلم، وبأسلوب بوليسي مشوق يضع القارئ في قلب الحدث، فما أن تكتشف السرقة الأدبية حتى تتم الإطاحة بالكاتب من قبل أصدقائه المقربين الذين قرأوا مخطوط النص قبل نشره، ومن قبل نقاده الذين أهينوا بسبب عدم اكتشافهم للسرقة. يقول ” ذات إثنين، أعلنوا أنني فزت بجائزة مارتين لويس غوثمان، والثلاثاء اتهمت في الصحافة بأنني سرقت بعض المقالات الصحافية. يوم الخميس، اتهمت بأنني سرقت أيضاً موضوع روايتي الفائزة. وفي الإثنين من الأسبوع الموالي، وقع تسعة وسبعون كاتباً رسالة ضدي. صباح ذاك اليوم اكتشفت أن زوجتي قامت بالتنسيق السري بين أولئك الذين اتهموني”.
فضيحة مدوية
اختار كامين استخدام ضمير المتكلم بدلاً من الراوي، وفي هذا الاختيار دلالة شديدة الأهمية، فهو أراد من خلال صوت بطله الذاتي دفعه لسرد حكايته بصدق مع الكتابة، منذ بداياته الأولى كما لو أنه في مونولوغ داخلي طويل، يهدف إلى إماطة اللثام عن ذاته الداخلية الجامحة إلى الشهرة أكثر من الأدب، وإلى السلطة الثقافية أكثر من الثقافة، وإلى النساء أكثر من القراء. ولا شك في أن هذا الوصف أيضاً ينطبق على كثيرين من “مهاويس” الأدب في العالم كله، المسحورين بصورة الكاتب لا بالكتابة نفسها.
تتطرق الرواية إلى علاقة الجوائز الأدبية بالحكومة، فالجائزة المشار إليها في النص جائزة “مارتين لويس غوثمان، من الكُتاب وإلى الكُتاب”، ظاهرها من تمويل غير حكومي، لكنها ضمناً نتاج دعم سري من الحكومة لخلق هذه الجائزة التي حظيت بنجاح كبير، وهذا ما جعل فوز الراوي بها، ثم اكتشاف سرقته الأدبية، فضيحة مدوية في الأوساط الأدبية.
يعترف بطل الرواية أنه بدأ الكتابة بدافع الحسد، وأنه لا يستطيع كتابة نص مماثل، يقول ” كنت أنقل مقاطع لكتاب يبهرونني، فيتولد لدي من ذاك الضوء الذي تشعه نصوصهم، غرور باكتشاف عيوبها وغواية تغيير ما كنت أنقله. كنت أغير هنا وهناك بخجل في البداية، ثم بوقاحة في ما بعد، إلى أن أحصل على نص يكون هو الذي يبهرني. هكذا أصبحت كاتباً”.
سرقة دون كيخوته
تستمر المسيرة الأدبية للراوي على هذا المنوال، من نص إلى آخر، حتى أنه حول الصفحة الأولى من رواية “دون كيخوته” إلى فصل من روايته “رجل مضطهد” ونال عنها جائزة. استطاع الجميع أن يدرك أن روايته مستلهمة من رواية دون كيخوته، ولكن لم يميز أحد قط، ولا السارق نفسه، أيها تكون الجمل المسروقة، إلى أن جاء كاتب سماه البطل “فولتير”، بسبب تأثيره القوي فيه، في مقارنة طريفة مع الكاتب فولتير الفرنسي الذي يرى أنه فتح المجال واسعاً أمام المعصية الحديثة.
فولتير المكسيكي هذا، لامس قلب الرواية الفائزة وكشف بأنها مسروقة من “مارتين لويس” نفسه، الكاتب الذي حملت الجائزة اسمه. لكن هذه الحقيقة لا يكتشفها فولتير بنفسه، بل كان من المحتمل أن تظل خفية إلى الأبد، لولا أن البطل السارد اعترف في لحظة حميمة بما يقوم به من سرقات أدبية لزوجته داليا، فقامت بغرض الانتقام، بالتحالف مع فولتير وكشف سر زوجها، بل وإظهار نسخة الكتاب الذي سرق منه عبارات حرفية، وضع سطوراً تحتها.
إن طريقة الكشف عن السرقة الأدبية الملغومة والمدسوسة بدافع مؤامرة مشتركة، تدفع القارئ للتنبه إلى إشارات الكاتب حول قصور النقد الأدبي عن اكتشاف الانتحالات والسرقات. فالكاتب يكشف بوضوح أن فعلته لم تكن لتكتشف لولا اعترافه التفصيلي لزوجته، ووضع الجمل المنقولة، يقابلها ما كتبه هو بتحريف طفيف مثل تغيير ترتيب الفصول، أو تعديل التدفق السردي، أو تبديل الأماكن والأزمنة.
لا تتوقف الرواية عند حد تعرية حادثة سرقة أدبية بعينها، بقدر السعي إلى كشف خبايا الأنشطة الثقافية. فالناقد الأدبي الشهير “ماتورانا”، يعيش مرتزقاً من دور النشر التي تدفعه لامتداح كتب وتعليتها على حساب كتب أخرى. وفي الوقت عينه يقوم هذا الناقد بكل ذكاء بالدمج بين ما يتم تكليفه به، مع آرائه الشخصية، مما يجعل من وحشية هجماته وامتداحاته أيضاً قابلة للتصديق.
العبقري الخفي
في مقابل الكاتب المنتحل، هناك كاتب حقيقي مبدع. تتبنى الرواية نظرية أن هذا الافتراض موجود في كل زمان ومكان. هناك طوابير من المكررين مقابل عدد قليل من المبدعين الحقيقيين، و”تاريخ الأدب، في عمقه ليس سوى تاريخ سلسلة من الكتبة الذين يحاولون تقليد ما أحبوه في مؤلفين آخرين”. وهنا يعتبر أن من لقبه بفولتير الحديث، هو الكاتب الأصلي، لأن نضجه الأدبي كان واضحاً، ولم يكن يميل للتصنع مضموناً وأسلوباً، كما أن كلماته ترن من دون تكلف.
ولكن تبدو حادثة قتل فولتير، واتهام البطل بها، جريمة زائدة على الرواية، وتحمل رمزيتها أيضاً في تمكين الزيف من العلو على الحقيقة. هذه الجريمة يستعرض من خلالها سلاسل متصلة من الفساد الحكومي، والجامعي، والأدبي أيضاً. يتجلى هذا في الفصل الأخير ضمن حوارات الراوي مع سالادريغاس، الذي يطلب منه مواصلة الانتحال والسرقة الأدبية، حين يعطيه دفترين كتبهما فولتير بخط يده.
إلى جانب هذا ثمة صراع جندري على مدار النص، فالمرأة لها دور فاعل في الأحداث الأدبية التي يذكرها البطل من وجهة نظره، سواء كانت زوجته داليا التي غررت به، أو زوجة الناقد التي قامت بإغوائه، أو حديثه بسخرية عن الكاتبات اللواتي ارتبط معهن بعلاقات جسدية، قائلاً “من بين تسعة وسبعين كاتبا وقعوا من أجل الإطاحة بي كانت هناك تسع عشرة امرأة. ومن بين هؤلاء النساء التسع عشرة، عشر سبق لي أن نمت معهن، أما التسع المتبقيات فيكبرنني بكثير، أي بما يكفي كي لا يغرينني كما أغرتني مارثيلينا ذات زمن”. يتمثل الصراع في رؤيته الدونية للمرأة الكاتبة، مما يعبر عنه صراحة في أكثر من موضع من النص.
اختار الراوي أن يختتم سرده بأبيات شعر لفولتير تقول “أنا الآن من لم أكنه ولن أكونه، / بل إني كائن كذلك، شخص يعيش/ وهو لا يفهم أنه يحتضر”.
يتضح من اختيار الأبيات المعنى المزدوج الذي أراد إيصاله، سواء في ما يتعلق باختيار الأبيات من قصائد فولتير، بما يتضمن معنى الاحتضار سواء الواقعي أو الإبداعي. لعل أهمية هذه الرواية تكمن في السرد الفطن والقدرة على التركيز والتوغل عميقاً في تناول مفاهيم شائعة عدة تجاور الأدب، وتستخدم كثيراً في الكتابات النقدية ، مثل، التناص، والمحاكاة، والتأثر والتأثير، وما سماه المؤلف بـ “النقل العميق”، الذي لا يمكن اكتشافه إلا من قبل ناقد فذ يعرف الرموز السرية للنصوص التي تمكنه من الدخول إليها بيسر، وكشف ما في طبقاتها التحتية من انتحال.
لنا عبد الرحمن
independentarabia