“سارقة الأرواح” رواية تنتقد قسوة الحياة المهنية 

عندما يعيش الموظفون عبودية جديدة داخل الابراج

لوحة للرسام الإسباني ميكال بارسيلو (صفحة الراسم – فيسبوك)

 لعل من أكثر ما يشغل الإنسان المعاصر هو طبيعة تحققه العملي، نوع المهنة التي يمارسها، وما إن كان لها أفق واضح، يُرضي طموحه في نظام العالم الجديد، بحيث يستطيع من خلالها أن يضمن حياة آمنة، مرفهة، تتماشى مع متطلبات الحياة المتطورة يوماً بعد يوم. لا يطرح محمد إسماعيل في روايته الثالثة “سارقة الأرواح” (دار العين – القاهرة) هاجس البطالة بأسلوب مباشر، بقدر ما يُظهر كيف يتحول البشر إلى تروس في آلة ضخمة، تقدم لهم المال، لكنها تسرق منهم الوقت والعلاقات الأسرية والاجتماعية الحقيقية التي تمنح الأمان. يصل أبطال الرواية جميعاً إلى مأزق اكتشاف حالة التشظي التي يعيشون بها، المال متوافر حقاً، لكن ثمة ما ضاع منهم في خضم رحلة الحياة الطويلة. يُهدي الكاتب روايته إلى صديقه الراحل، يبدو الإهداء غير مفصول عن النص، يقول: “إلى كل من حصدت الوظائف أرواحهم، إلى روحك يا نور الدين أهدي هذه الرواية. إلى كل المُهمشين الجدد: الموظفون، عسى الله أن يرحمنا أحياء وأمواتاً”.

هذا الإهداء، يستدعي تأملاً طويلاً في فكرة علاقة الإنسان بالعمل منذ الماضي وحتى قيام الأنظمة الحديثة التي وضعت قوانين راسخة لتنظيم العلاقات المهنية، سواء بين الموظف ورب العمل، أو بين الفرد والمهنة أياً كانت. هذا إلى جانب التفكير بما سوف يستجد على كثير من الوظائف في المستقبل، من تهديد بسبب سلطة التكنولوجيا التي نقلت العديد من المهن إلى قائمة النسيان، وأحالت ممارسيها إلى البطالة. فالرواية تُعتبر شهادة معاصرة عن طبيعة ممارسة الحياة العملية في مرحلة زمنية محددة، طرأت عليها تحولات منذ عام 2020، وظهور كورونا، وبداية العمل من المنزل. منذ هذا التاريخ لم ترجع العديد من الشركات إلى ما كانت عليه من قبل، واستمرت في تفضيل قرار “العمل عن بعد”، لما فيه من تخفيض للنفقات. وفي الغد القريب، من المؤكد أن التحولات العملية مقبلة مع الطفرات الحاصلة مع الذكاء الاصطناعي الذي يهدد مهناً أخرى بنهايات وشيكة.

زمنياً، تدور الأحداث في حقبة التسعينيات وتمتد حتى الزمن الحاضر. تختبئ تحت قشرة السرد التلقائي، حالة من السوداوية غير الظاهرة، بل تتكشف في ذاك البناء الضخم، ومن في داخله من الموظفين، الذين يمضون فيه ساعات طويلة، تستهلك أيامهم وهم منفصلون عن العالم الخارجي وفاء لالتزاماتهم العملية. هذا يؤدي إلى تكرار شهور وسنوات متشابهة تمضي بلمح البرق، فلا يُدركون مدى الخسارة إلا في نهاية المطاف. تصف الرواية البطلة المحورية نيفين، حياتها العملية والشخصية والتغيرات التي تعرضت لها، وكيف يتقاطع معها جميع الأبطال لنقرأ: “ليس لنيفين حياة خارج هذا المبنى، هذا ظنهم، لا يقولونها صراحة أمامي ولكنها جلية في أفكارهم، ولهذا لا يتوقع أحد قبولي للتقاعد الحق، هم مصيبون في ما يخص حياتي الشخصية فهي باختصار صفر كبير، أنا فعلاً لم أخبر الحياة خارج تلك الجدران”.

يمكن أبطال رواية “سارقة الأرواح” أن يتواجدوا في أي شركة كبرى يخضع فيها الأفراد لواقع أيديولوجي رأسمالي، يُطوع قانون العمل لمصلحته، ويُعلي من القيم المادية التنافسية المحضة على حساب أي شيء آخر. فالدخول في السباق الوظيفي للحصول على المكاسب، تجعل من الأفراد في حالة لهاث مستمر، تلك الحالة التي تُصبح جزءاً من الشخصية بحيث لا يجد الإنسان ذاته خارج حدود مكتبه، لذا أطلق علم النفس تسمية علمية على هذه الحالة وتم ربطها بالإدمان مع كلمة: Workaholism.

يمكن اعتبار حالة إدمان العمل التي تماهت معها البطلة “نيفين” طواعية، نوع آخر من العبودية الحديثة، هذا يمكن رصده في نمط الحياة الغربية، إلى جانب نماذج الشركات المتعولمة المنتشرة فروعها في كل الدول، تقدم الكثير من المال، لقاء أن يمنح الموظف لها الجزء الأكبر من وقته، وفق معادلة: “الوقت يساوي المال”. تطرح الرواية هذه الأزمة المسببة لتعاسة نفسية مريرة، إلى جانب كل الخروق الداخلية المسكوت عنها، حيث المؤامرات والدسائس والمكائد بين الموظفين أنفسهم، فلا يتورع زميل العمل عن إلحاق الضرر بزميله بغرض أن يشغل منصبه، مبرراً ما يقوم به تحت مسميات شتى.

بين اليوم والغد

تركز الرواية في خلفيتها على طبيعة العلاقة المؤرقة مع الزمن، مرور الشهور والسنوات، تسلل الأيام من بين الأصابع، ثم الانتباه مع انتهاء الخدمة، إلى ابتلاع العمل لأجمل سنوات العمر. بعض أبطال الرواية مضت حياتهم في وحدة قاتلة، كما هي حال “نيفين”، التي يبدأ معها السرد، إذ بعد انكسارها في قصة حب مع زميل لها، تندفع نحو العمل بكليتها فتمضي ستة وثلاثين عاماً في أروقة الشركة، حتى تصل إلى منصب كبير، محسودة عليه. تمر بها السنون وتقترب من سن التقاعد، وتكتشف أن المال الذي في حسابها البنكي لن يمنع عنها إحساس الوحدة، لا السفر ولا النزهات، ولا المجوهرات والأزياء الباهظة التي تخفف عنها ثقل الليالي الطويلة. لكنها في لحظة صفاء وصدق تطلق حكمتها قائلة: “لا شيء يدوم”، مدركة أنها قد أمضت عمرها في عبودية الوظيفة، هاربة من انكسارات الحياة الشخصية، وهزائم العاطفة.

استندت الرواية إلى تقنية المرايا العاكسة، يكشف كل فصل إحدى الشخصيات من جانب ما، ثم نرى انعكاس سلوك الشخصية وتحولاتها الدرامية في موقف آخر، مما يقدم جانباً خفياً غير مرئي للجميع.

بنى محمد إسماعيل نصه على شكل فصول، غالباً ما يكشف العنوان عن مضمون الحدث، كما في “قرار التقاعد”، “مهزلة قاعة رأس غارب”، “صداقة تنشأ”، “طرق أخرى للاختلاس” أو أن تحمل الفصول أسماء الأشخاص كما في “سوزي”، “نيفين تحكي”، “خطة رامي تنجح”، “يارا تفرح أخيراً”. ومن خلال اختيار الكاتب للعناوين المباشرة بدا أنه يأخذ بيد قارئه داخل غرف الشركة الكبيرة التي يتحدث عنها. يحكي عن الشخص معنوناً الفصل باسمه، كما لو أنه يمهد لمساحة دخوله في قلب الأحداث وإظهار دوره وتأثيره فيها. تقترب كتابة محمد إسماعيل أكثر في “سارقة الأرواح”، من روح الدراما، من جانب المشهدية والحوار وتعدد الشخوص، والقدرة على الانتقال بين الأحداث، على رغم أن مساحة السرد ظلت محصورة ضمن نطاق عالم الشركة بكل مفرداتها، مع عودة فلاش باك إلى الماضي، أو انتقالات سردية ترافق الأشخاص في تحركاتهم المكانية. أما لغة السرد فجاءت سلسة ووصفية، متماهية مع المضمون الحكائي الذي يصف صراع الشخصيات الرئيسة من أجل الوصول إلى الربح العملي والمادي بشتى الطرق، بالتوازي مع الجهود اليائسة للنجاة من الإخفاقات النفسية التي تؤدي بهم في ختام الرحلة إلى شارع مغلق.

تناولت الرواية أيضاً التطلعات الطبقية في المجتمع، كما في وصف شخصية سماح عاملة البوفيه داخل الشركة، التي تطمح إلى تعلم الإنجليزية والكمبيوتر، قائلة: “أنا بحاجة إلى تطوير نفسي. أريد أن أحظى بعمل أفضل. إن بقيت كما أنا لظللت عاملة بوفيه حتى سن المعاش. أبحث عن راتب أفضل، أريد أن أجلس على تلك المكاتب لا أن أكتفي بتنظيفها”. نموذج شخصية سماح يمكن اعتباره من أحد النماذج المهمة التي ساعدت على كشف التحولات الاجتماعية الكبيرة التي طاولت المجتمع المصري في العقود الأخيرة.

لنا عبد الرحمن 

independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى