“عطلة في حي النور” تكشف التحولات الجماعية والفردية في تونس

مشهد من مدينة تونس

يمضي الروائي التونسي الحبيب السالمي، في روايته “عطلة في حي النور” (دار الآداب) متقدماً بعمق نحو الواقع التونسي في سنوات ما بعد الثورة. يغادر صاحب “عواطف وزوارها” ببطله، من الأحياء الباريسية الهادئة التي عرفها القارئ في “الاشتياق للجارة” و”روائح ماري كلير”، وغيرها من رواياته، كي يتأمل في ما حل بمدينة تونس الخضراء وشوارعها وأحيائها.

يصل البطل من باريس إلى مجمع “الفل” السكني في حي “النور”، الذي اعتاد السكن فيه، خلال إجازة الصيف، فيجده في حالة عبث وفوضى، بعد أن انهارت بوابته الخشبية التي تميزه عن غيره من المجمعات السكنية، وتمت إزالة السياج، وذبلت شجيرات الورد والياسمين واكتسح الجفاف حديقته، ليبدو المشهد قاحلاً، عاكساً كل الانهيار الذي حدث رويداً رويداً.

لكن هذا التمهيد للتحولات المتوقعة في الواقع التونسي، يحدث منذ الوجود في المطار قبيل السفر، فالطائرة تأخرت عن الإقلاع ثلاث ساعات، من دون ذكر السبب، وعند الوصول إلى المطار تتوالى الأحداث منذرة بتغيرات سياسية واجتماعية وفكرية تكشف عن تصدعات طالت التكوين النفسي للفرد في تونس.

رواية السالمي الجديدة

في حي النور يستقبله عبدالله حارس المبنى الذي يعرفه منذ سنوات طويلة، يقول له في خضم حوار طويل: “لا يمكن أن تتصور ما عشناه، في أيام الثورة وبعدها”. يفوح الأسى الساخر من رواية السالمي، من خلال سرد مشهدي ينقل ما حدث من تغيرات كاشفة تعرض لها المجتمع وشروخات عميقة أثرت سلباً على السلوك اليومي الذي صار ممزوجاً بالعنف. فالجيران لا يعنيهم إلا ما يحدث داخل شققهم، والاختلاف البسيط قد يتصاعد إلى مشكلة كبيرة تنتهي بقدوم البوليس.

يندمج سرد الراوي بمونولوغ داخلي، وهذه إحدى سمات كتابة السالمي. يطرح الكاتب أفكار أبطاله من خلال مواقفهم الحياتية وحواراتهم من دون أن يتدخل فيها كثيراً، يظل منصتاً بعمق لما يدور حوله، مريم زوجة عبدالله تتحجب وتشجع حزب النهضة، طمعاً في دخول الجنة، أما زوجها فينحاز للجبهة الشعبية، ليس لأنه يعرف مبادئها، بل لأنها الجهة الوحيدة القادرة على مطالبة الحكومة بزيادة الرواتب.

 التصوير البصري

يقوم المعمار السردي في الرواية على صوت الراوي السارد عادل، الذي يقيم في باريس ويعمل مترجماً. يستند السرد إلى التقدم المتعاقب للأحداث. ينقل البطل للقارئ جل ما يدور حوله، من خلال تصوير بصري دقيق ومكثف للعالم الخارجي منذ لحظة وصوله.

يتوازى التصوير الخارجي للهيكل الاجتماعي وللأماكن وتحولاتها، مع الأوصاف النفسية للبطل السارد الذي يقدم المعلومات عن نفسه في سياق السرد، فيكشف عن علاقته بالأشخاص والأماكن، وميوله النفسية، وأسباب اختياراته للأشياء. فهو رغم الانهيار الذي طال مجمع “الفل”، يفضل السكن فيه والعودة إليه لأنه يألف الأماكن، ولا يحب الإقامة في الفنادق الباردة كأي سائح أجنبي. ويفضل أن يأكل الفجل في الصباح بدلاً من الفطور اللذيذ الذي تعده زوجته صوفي، ويميل إلى التحدث مع الأشخاص الذين ينتمون لطبقات اجتماعية أقل منه، وهو ينتمي إلى فصيلة من البشر يمكن تسميتهم البكائين، لأنه يستعين بالبكاء في لحظات إحساسه بالكآبة.

يغزو البطل شعور بالريبة على مدار النص، يتسلل ضمن السرد بشكل ضمني، ولا يبدده اللقاء بالصدفة مع زميلة الدراسة لمياء التي يطمع بمغامرة عابرة معها، ولا التجوال في المدينة القديمة، أو محاولة تخيل حياة الغرباء في المقاهي ومنحهم أسماء ومهناً. وتتصاعد هذه الريبة حين تقبض عليه الشرطة لمجرد أنه يقف في الشارع ليلاً كي يراقب نافذة لمياء، فيتم اقتياده إلى المخفر، والتحقيق معه بفجاجة، ثم إطلاق سراحه بعد ساعات.

الواقع المرئي

تحضر هذه التفاصيل ضمن التداعي السردي، القائم على ربط الواقع المرئي، بواقع آخر موجود في باريس أو يدور في ذهن البطل ضمن حواراته أو تأملاته الباطنية. فكل ما هو واقعي حوله، يقترن داخله بحركة سردية يوجد لها صدى في الماضي، وفي الوقت عينه تشير للخراب المكاني والنفسي، الذي يراه عادل بعمق. وهو يرى كيف يعجز الآخرون عن إيقاف توغله، بل إنهم وبشكل ما، يسهمون في حدوثه. مثلاً، مقهى الأمراء تدهور حاله، ورواد المقهى نظروا إلى البطل كما لو أنه غريب، لأنه يستخدم مفردات مثل “شكرا” و”سامحني”. جدران الشوارع صارت تعج برسوم الغرافيك بعد أن كانت ممنوعة في حقبة بن علي، وفي حي النور وضعت النساء غطاء الرأس وارتدين الملابس الفضفاضة، رغم أن بعضهن صرن يتحدثن بالسياسة. وأطال الرجال اللحى الكثيفة، بالتوازي مع انتشار ظاهرة الدعارة بسبب الفقر والتسيب واختلال الأمن. تغير المكان وظهرت فيه أكشاك صغيرة تشوه المنظر العام، لنقرأ هذا الوصف: “بعد الثورة، نبتت في كل مكان دكاكين لبيع خليط من السلع، أصحابها استغلوا ارتباك السلطة والفوضى وشيدوها من دون الحصول على رخصة من البلدية، وفي كثير من الأحيان على الأرصفة، غير عابئين بالإزعاج الذي يسببونه للمارة”.

يتضمن النص أيضاً حوارات يوظفها الكاتب لتعزيز السرد، فمن خلال ما يدور في الحوار الأول بين البطل عند وصوله من السفر والحارس عبدالله، يتمكن القارئ من إدراك بنية العلاقات الاجتماعية، وتحديد المكان والزمان، فالأحداث تقع زمنياً، بعد انتهاء وباء كورونا، كأن يقول عبدالله: “لقد نجوت من كورونا، لكن السكر سيقتلني”.

تميزت الحوارات الطويلة في النص، برصدها للقضايا التي ينشغل بها الأفراد وتسبب لهم القلق، مثل الحديث عن الهجرة، عن التدين، عن الفرق بين تونس وباريس، عن وضع المثليين في تونس، عن التغيرات السياسية، ثم يعلق البطل في مونولوغ داخلي: “فجأة، اكتشف التونسيون متعة أن يكون لك رأي في السياسة، والأهم من ذلك ألا تتفق مع الآخر، وأن تعبر عن هذا الرأي بحرية ومن دون أي خوف، فغرق البلد في جدل لا نهائي ونقاشات ساخنة، تنتهي أحياناً بالشتائم، وتبادل التهم، وحتى بالعراك بالأيدي والنعال. بل سمعت أن أزواجاً طلقوا زوجاتهم، بسبب هذه الخصومات الأيديولوجية، التي هبت على البلاد بغتة مثل إعصار”.

 

الرواية التي اتخذت مساراً زمنياً لها، يمتد خلال عطلة الصيف، تنتهي أيضاً مع انعكاسات كئيبة تخلفها النهايات الرمزية. وهذه التيمة أيضاً يستند إليها السالمي في رواياته، كما في رواية “عواطف وزوارها”، حين ينتهي الحدث وهو جالس على السلالم برفقة كلب عواطف. في هذا العمل أيضاً نجد منذ السطور الأولى حتى النهاية، حضوراً للقطط والكلاب، مع هذا التواصل الضمني المحمل بالإشارات والرموز على مدار النص، مثل تزامن التظاهرات من أجل زيادة الرواتب، مع القطط الجائعة التي تنبش الأكياس بحثاً عن الطعام أيضاً. في الجملة الأولى من النص يقول “القطط هي أول من استقبلني في مجمع “الفل” السكني. اقتربت مني وهي تطلق مواء خافتاً… عدد القطط تزايد كثيراً، البعض منها يرابط بالقرب من المدخل، في انتظار أن يمن عليها أحد الداخلين أو الخارجين بطعام ما”.

في الصفحات الأخيرة من الرواية يجد الراوي نفسه في المدينة القديمة، يسير فيها على غير هدى، تدور في ذهنه مقارنات بين الماضي والحاضر، كل شيء حوله يشعره بالريبة، الشاب الذي يندفع نحوه ليهمس في أذنه حول إمكانية تغيير العملة الأجنبية بسعر أعلى من البنك، يطالبه بألا يخاف، فالبوليس منشغل بالإضرابات والتظاهرات والاعتصامات، لكن البطل يتركه ويمضي، ثم يتوقف أمام تمثال ابن خلدون، يحدق به ويعترف أنها المرة الأولى التي يقوم بهذا، رغم عبوره الساحة مئات المرات، ولكن إلى ماذا يفضي هذا التأمل، سوى إلى رجوع عكسي من أجل مساءلة الأماكن عما آلت إليه حالها؟

تنتمي رواية “عطلة في حي النور”، إلى الأعمال السردية الروائية، التي تعمل على تفكيك البنية الاجتماعية، ضمن العلاقة مع الزمان والمكان. فبعد مرور ما يزيد على 12 عاماً، على ثورة الياسمين في تونس، يتقدم الروائي طارحاً رؤيته لبعض مما حدث من تحولات جوهرية في المدينة، وعلى المستوى الكينوني للفرد ظاهراً وباطناً.

د. لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى