عدنية شبلي تجرأت على كشف الحدود الدامية روائيا

"تفصيل ثانوي" أثارت حفيظة معرض فرانكفورت ولقيت تأييدا عالميا

فازت رواية الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي بجائزة “ليبراتور” الألمانية، التي تمنح للآداب القادمة من البلدان الأفريقية والآسيوية والأميركية الجنوبية، ولكن مع اشتعال الحرب في غزة، ولما كان من المفترض أن تتسلم الكاتبة جائزتها خلال معرض فرانكفورت للكتاب، ارتفعت أصوات تتهم الرواية بأنها معادية للسامية، كي تحول دون حصول شبلي على جائزتها. انقسمت آراء القائمين على الجائزة بين الرافضين والمدافعين عن الرواية الذين اعتبروا أن الجائزة ممنوحة لعمل أدبي إنساني رفيع، غير مرتبط فوزه بنشرات الأخبار. وقد دافع كتاب كبار عالميون، ومنهم فائزون بجائزة نوبل عن الكاتبة وروايتها وتبنوا قضيتها. هنا قراءة في الرواية.

بين الهامش والمتن، الثانوي والرئيس، المشهدي والضمني، يتشكل النسيج السردي في رواية “تفصيل ثانوي”، للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي، التي اختارت أن تبدأ روايتها من لحظة تاريخية مفصلية، بالنسبة إلى التاريخ العربي، إنه صيف عام 1949، بعد عام واحد من النكبة، التي أدت إلى تهجير وطرد أكثر من 700 ألف فلسطيني، وأدت أيضاً إلى ترسيخ كيان دولة وليدة، تدرك أن استمرار وجودها يقوم على المحو وإزالة هوية الآخر في بطش أعمى.

“تفصيل ثانوي” أثارت حفيظة معرض فرانكفورت ولقيت تأييدا عالميا

 تبدأ الرواية في الفصل الأول مع صوت الراوي العليم، والمكان في قلب صحراء النقب، تجتمع كتيبة لجنود إسرائيليين مذعورين وشبه عاجزين عن التأقلم مع ما يحيط بهم. من جهة يجدون أنفسهم وسط حر صحراوي خانق لا يطيقونه، ومن جهة أخرى يعتبرون ظهور أي كائن إنساني آخر لا يشبههم يسبب الهلع، لذا يسارعون إلى قتله، بعد أن تلقوا تعليمات مباشرة من قائدهم بإطلاق النار على أي كان. يعثر هؤلاء الجنود على شابة فلسطينية، يحضرونها إلى المعسكر ويسلمونها لقائدهم، فيتم اغتصاب هذه الصبية، ودفنها تحت الرمال. انطلاقاً من هذه الحادثة التاريخية الموثقة تبني شبلي روايتها التي تتراوح بين عالمين وزمنين، لا يمكن اعتبارهما مختلفين من ناحية الجوهر، إذ ما يفرق بينهما هو تباعد زمني لا يقل عن نصف قرن، بينما يظل ارتباطهما في المتن مقترناً بتلك الجريمة المفجعة.

مع الانتقال إلى ضمير المتكلم في الفصل الثاني، بعد مرور قرابة 50 عاماً، نجد شابة فلسطينية أخرى تعيش في رام الله، مفتونة بتفاصيل تبدو كأنها ثانوية، لكنها محفورة في عمق التاريخ، وتجد هذه الشابة نفسها مؤرقة بضرورة القيام برحلتها الذاتية، للكشف عن الرواية الحقيقية للفتاة الأولى، وتزامن قتلها مع ميلاد الساردة، التي تراوح في تأملاتها طوال الوقت بين الرئيس والثانوي، بين اللوحة الكاملة وبقعة متناهية الصغر لا يلتفت إليها أحد، بين انفجار قنبلة في مبنى مجاور لعملها وما يتركه هذا الحدث من طبقة غبار كثيفة على سطح مكتبها. لا تمنح شبلي اسماً لبطلتيها، لا تبدو الأسماء مهمة هنا، فالغرض هو القبض على اللحظات الإنسانية الدامية، الوارد حدوثها في منظومة العيش الفلسطيني مع أي امرأة.

   

 تعتني شبلي، وهي المتخصصة في مجال الفنون البصرية، بتقديم صورة مشهدية دقيقة حول الحرب والعنف والذاكرة، عبر اختيارها عبارات محددة، ولغة مكثفة تذهب إلى المعنى مباشرة، من دون أن ينتقص هذا من الدلالات الجمالية للنص. تسرد تفاصيل معاشة كي تلتقط التجربة الحياتية الفلسطينية، وكيف تمضي تحت الاحتلال الإسرائيلي.

دلالات رمزية

تحفل الرواية بعديد من الدلالات الرمزية، بعضها يأتي بشكل مباشر، وأخرى ضمنية، وبغية ضبط هذه القرائن تستعين الكاتبة بجمل دقيقة، تصف الخارج والداخل في آن واحد، من خلال عبارات قصيرة محكمة، محايدة، لا يوجد فيها أي اختلاجات عاطفية، أو مونولوغات، سواء بالنسبة إلى الضابط المغتصب، أو للضحية. يرتبط احتلال الأرض باغتصاب الفتاة، بالتوازي مع لسعة العنكبوت لساق الضابط، وترك بقعة حمراء دامية تتسع بمرور الساعات، وتفوح منها رائحة نتنة، بخاصة بعد انتهاء مشهد الاغتصاب. لنقرأ: “خلع قميصه، ثم بنطاله، وفجأة جمدت حركته. كان الورم فوق فخذه قد انبجس، وأضحى موضع اللسعة فجوة من اللحم المتآكل المتعفن، الذي امتزج فيه القيح الأبيض والزهري والأصفر، وفاحت منه رائحة نتنة حريفة”.

يمثل الوصف الخارجي للمكان الصحراوي عنصراً مهماً في السرد، تحديداً ضمن الجزء الأول من الرواية، التي تعج بمفردات تعبر بأسلوب مباشر عن المكان بكل أجوائه وتفاصيله، وتتكرر بعض الكلمات، بغية تأكيد الوصف، مثل: “القيظ، أشعة الشمس الحارقة، الأعشاب الجافة، التلال الرملية، بصيلات ضخمة الحجم، السهول الرملية الصفراء، موجة حر شديدة”.

وعند تناول عنصر اللغة، من المهم جداً الإشارة إلى أن الكاتبة برعت في تصوير الحدث المحوري الذي قامت عليه الرواية، بتكثيف معبر، لم يقلل من فداحة الحدث وعنفه، كأن تقول في ختام المشهد: “كانت يده اليمنى تغطي فمها، واليسرى تتشبث بصدرها الأيمن، حين راح صرير السرير يعلو سكون الفجر، ثم يحتد ويتكاثف، ليرافقه عواء الكلب في الخارج، وإذا همد الصرير أخيراً، لم يهمد العواء الحاد خلف الباب إلا بعد زمن”.

اعتمدت الكاتبة في الفصل الثاني على لغة مختلفة، مراوغة، متشككة، باطنية، تبدو أكثر اتساقاً في تعبيراتها عن المرحلة الزمنية، والحالة الذهنية المضطربة للبطلة الساردة التي تعيش في رام الله، وتتكلم بضمير المتكلم، تصف رؤيتها لفكرة الحدود المادية والنفسية والمنطقية بين الأشياء، فالذين نجحوا في التحرك وفق الحدود وعدم تجاوزها هم قلة، ولا تعتبر نفسها من بينهم. هي تندفع دائماً متجاوزة الحدود المرسومة لها مسبقاً، ليس عن رغبة مبيتة في مقاومة الحدود، إنما عن بلاهة تسبب لها شعوراً بالاضطراب، لذا قررت البقاء داخل حدود بيتها بقدر ما استطاعت، وهذا لأنها في أعماقها تحس بالخوف، وهي تمر في سيارة النقل العمومي عبر حاجز الاحتلال وترى الجندي يحمل بندقيته، تصيبها القشعريرة وهي ترى فوهة البندقية، على رغم إدراكها أنه لن يوجهها نحوهم، فإنها لا تتمكن من التخلص من الهلع الداخلي، فتطلب من الجندي أن يبعد بندقيته، وهو يطلب منها رؤية بطاقة هويتها.

تداخل المصائر

تتخذ رواية “تفصيل ثانوي” من الكتابة والسؤال والبحث عن حقيقة الفظائع التي طالها النسيان سبلاً للمقاومة، لتشكيل نص سياسي ثائر على الرواية الرسمية. قصة الفتاة المغتصبة تجدها الشابة المعاصرة في مقالة كتبها باحث إسرائيلي، وعندما تتواصل معه لتسأله عن مصادره يحيلها على المتحف والأرشيف. هكذا تمضي في رحلتها عبر الاستعانة بهوية صديقتها، كي تتمكن من الوصول إلى تل أبيب، التي تقع ضمن المنطقة المحظور عليها كفلسطينية تعيش في رام الله أن تصل إليها، لكنها لا تجد شيئاً يذكر، بل إنها تدرك في لحظة معينة أن كل ما عرفته كان بإمكانها الوصول إليه عبر الإنترنت، لكن ماذا تعني هذه الرحلة، سوى مساءلة التاريخ المهدد بالزوال، والجغرافية الدارسة في إيقاع سرد متوتر وقابض، يشي بنهاية مأسوية أخرى، لا يمكن إغفال تكرارها! بما يحيل القارئ على الجزء الأول من النص، كي يتحد العالمان عند النقطة المحورية ذاتها التي بدأ منها النص.

لكن الفرق بين الفتاة المغتصبة في الفصل الأول والشابة الباحثة في الفصل الثاني هو تفصيل في غاية الأهمية لا يمكن إغفاله، سواء على مستوى السرد جمالياً، أو في كينونة الوعي بالعالم، وهذا يتعلق بالاختيار. تواجه الفتاة مصيرها القاتم في الجزء الأول، من دون أن يكون لها أي إرادة، هي ليست فاعلة، بينما تمتلك الشابة الساردة في الجزء الثاني قرارها، وتختار بكامل إرادتها الذهاب إلى إسرائيل، استجابة لنداهة تستدعيها من فضاء غيبي كي تبحث في حكايتها. هكذا تمضي نحو المجهول، تتجاوز الإشارات الحمراء، وهي مسكونة بالخوف الشديد من أن يكتشف أمرها، إلا أنها تكمل رحلتها من دون ماء أو طعام، تتبع الخرائط التي في حوزتها، فتكشف لها عن القرى والأماكن التي زالت، لنقرأ: “تواصل السيارة اختراق المشهد بسرعة كبيرة، فوق طريق تكاد تكون مستقيمة تماماً. أتوه في ثنايا هذا المشهد الذي يشعرني بغربة كبيرة بعد غياب طويل، مع كل التغيرات الحاصلة له، مواصلاً تأكيد الغياب الكامل لوجود ما هو فلسطيني فيه، في أسماء المدن والقرى المخطوطة فوق اللافتات، وفي لوحات الإعلانات المكتوبة بالعبرية”.

تتداخل الحقيقة مع الخيالات في الفصل الثاني، ظلال امرأة في السقيفة، تلمحها البطلة الساردة، بينما تلتقي خلال رحلتها امرأة عجوزاً سبعينية، تخمن أنها ربما تعرف حكاية الفتاة القتيلة، لأن مثل هذه الحوادث يتم تناقلها من جيل إلى جيل. في سردها توظف عدنية شبلي كل التفاصيل السردية والثانوية في صالح الحدث المحوري، نباح الكلب الذي يتكرر حضوره في الجزء الأول، نجد صداه في الجزء الثاني، حالة الاضطراب والخوف والقلق، تبدو كما لو أنها مستنسخة من روح الفتاة القتيلة إلى الشابة المعاصرة. وكأن شبلي كتبت هذه الرواية لتعطي صوتاً لكل الأصوات التي رحلت عن هذا العالم بصمت، ولم يستمع أحد لصراخها، على رغم مواجهتها لأذى ساحق، إذ على رغم أن عبارة “الإنسان الذي سينتصر لا المدفع”، التي تقرأها البطلة في المتحف الإسرائيلي تتكرر ضمن السرد، فإن صداها يحضر خافتاً، مثل كثير من الشعارات.

تجاوز الحدود

لا يمكن اعتبار الفن بديلاً للحياة، بقدر ما هو وسيلة لإعطاء الإنسان توازناً في العالم الذي يعيشه، عبر تحويل الواقع الدامي والمفجع إلى كلمات مكتوبة أو صورة مرئية أو محكية تعبر عن أحوال الأنا وعن ذوات أخرى عاجزة عن التعبير، هكذا يحمل الفن الرسالة من العمق إلى السطح متجاوزاً الحدود.

تمكنت عدنية شبلي في “تفصيل ثانوي” من تفعيل نظرية “سايمون ديورينج” حول الأعمال الأدبية الجيدة، بأن لها قوة ثقافية تشبه السحر الدنيوي، بما تحدثه من تأثير في قراء مجهولين، تتغير رؤاهم وأفكارهم ومواقفهم، بسبب القراءة عن عالم افتراضي لا يعرفونه، ربما لا يكون التغيير إيجاباً في كل الأحوال، لكن ثمة تغيير لا بد أن يحصل، حين يحمل العمل الإبداعي قضيته بين الكلمات.

ولعل الموقف الذي أثارته عدنية شبلي يمثل اعترافاً واضحاً بمدى قوة تأثير الأدب، إذ ينتهي قارئ هذه الرواية بمعرفة تفاصيل تاريخية وجغرافية عن أرض اسمها فلسطين، ومرويات واقعية يومية عن حيوات بشر أبرياء مستباحة بسبب الحدود وسطوة آلة الدمار والعنف، حيوات محكومة بخوف أبدي.

د. لنا عبد الرحمن

www.independentarabia.com

زر الذهاب إلى الأعلى