مايكل كننغهام يستعيد ذكريات “كوفيد19” وآثاره

بعد تركه أثراً واضحاً في روايته المهمة “الساعات”، يبتعد الروائي الأميركي مايكل كننغهام عن التقاطعات الزمنية والشخصيات المركبة، كي يغامر في تناول موضوع قريب لا تزال آثاره وتبعاته تُخيم على ذاكرة البشرية جمعاء. فقد شكل الحجر الصحي العالمي، بسبب جائحة “كوفيد-19″، حدثاً استثنائياً مخيفاً على مستوى الحياة الواقعية، وفي عالم الأدب، فتح أبواباً واسعة أمام الكُتَّاب والكاتبات، لاستكشاف أبعاد ما حدث من خلال أساليب درامية ومجازية متنوعة. لذا ليس من المستغرب أن نشهد زيادة ملحوظة في الروايات، التي تتناول التغيرات الاجتماعية والنفسية التي رافقت هذا الحدث الجلل.

تنضم رواية “يوم” الصادرة حديثاً عن “راندوم هاوس” إلى هذه الموجة الحديثة من الروايات، التي تعالج ما حدث من تحولات في أوقات الجائحة. اختار كننغهام مدينة نيويورك لتكون مسرحاً لأحداث روايته، مع عائلة تعيش في منزل دافئ ومتماسك ظاهرياً، بينما تحت القشرة الخارجية الصلبة ثمة غليان داخلي يمور بين الأفراد. إنها رواية نفسية بامتياز، كسائر أعمال هذا الكاتب الذي يبرع في تشريح نيات أبطاله وأسباب إحساسهم بنوع من القلق الوجودي الذي يهيمن على حياتهم وتصرفاتهم. يرتبط دان مع زوجته إيزابيل بعلاقة مضطربة، ويسكن برفقتهما روبي شقيق إيزابيل، الذي يعيش في الدور العلوي، ويتعامل بلطف مع جميع أفراد الأسرة، بحيث يُشكل صمام الأمان ضد الانفجارات المحتملة، لكنه يفكر بمغادرة المنزل للالتحاق بصديقه الذي واعده عبر الإنترنت، ولأسباب عديدة سيشكل رحيله تصدعاً بالنسبة إلى الجميع؛ الأخت وزوجها، وابنهما ناثان البالغ من العمر عشر سنوات، والذي اتخذ خطواته الأولى نحو التمرد، والطفلة فيوليت، البالغة من العمر خمس سنوات، ونستكشف من ردود أفعالها الطفولية مدى إحساسها بالهشاشة والقلق داخل هذه الأسرة. يتساءل روبي بشأنها قائلاً: “كيف يمكن لفتاة تبلغ من العمر خمس سنوات أن تتطور لديها لمحة من الحزن المميت؟ هل يقوم البالغون بحماية الأطفال أم إنهم يزرعون داخلهم بذوراً يمكن أن تسبب لهم إحساساً بعدم الثقة مدى الحياة؟”.

الوعي الذاتي

من خلال تصوير دقيق للحياة اليومية لهذه العائلة، يقدم الكاتب تحليلاً درامياً للشخصيات والأحداث، وطريقة كل فرد من أفراد الأسرة في مواجهة التحديات الحياتية مع ما سبق مرحلة انتشار الوباء، وما تخللها من وقائع. وهذا عكس قدرته على رسم صور درامية للمشاهد والأماكن، حيث يمكن للقارئ أن يشعر بالمكان والزمان بشكل حي وملموس، إلى جانب تحليل الأبعاد النفسية العميقة للأبطال، في تكرار مشاهد التنافس والصراع بين الأفراد.

تدعو هذه الرواية إلى التفكير في معاناة البشر عند حدوث التغيرات والتحديات الحياتية، وكيف يسعى الأفراد إلى تحقيق التوازن بين تطلعاتهم، والواقع الذي يعيشونه. لنقرأ هذا الوصف، بكل ما فيه من تواطؤ وندية، لعلاقة روبي مع أخته إيزابيل، يقول: “تضرب إيزابيل كتف روبي بشكل هزلي، كما كانت تفعل دائما… لا يستطيع أن يتذكر الوقت الذي لم تفعل فيه ذلك. لقد كانت، هذه الحركة مثل دعابة بين رفيقين، لكنها تقوم بها دائماً بأسلوب فيه نوع من القوة، بما يكفي لجعل تلك الضربة مؤلمة، ولو بشكل عابر، كما لو أنها تؤكد على أن الأخوة والصداقة بينهما، يمكن أن تحتوي  أيضاً على آثار غيظ مكتوم”.

تعاني إيزابيل من الكآبة في كثير من الأوقات، لذا يحصل نوع من التقارب بين زوجها وشقيقها، فهما يربيان الأطفال معاً، ويقومان بكثير من المهام الحياتية التي تتملص منها إيزابيل. يؤدي اتحادهما هذا إلى استقرار حالة جميع الأفراد، لأنهما يدركان أن إيزابيل تصبح بعيدة جداً حين تسحبها موجات الكآبة. أما دان الزوج الذي هجر الموسيقى، وعانى في إحدى مراحل حياته من الإدمان، ولجأ إلى مصح لتلقي العلاج، فيبدو أنه متمسك جداً بالاستقرار الأسري، لكنه في الوقت نفسه لا يجد السعادة، ويحس أنه دفع ثمناً فادحاً في تخليه عن أحلامه من أجل نجاح الحياة العائلية.

تنعكس كآبة إيزابيل في قرارها، كتابة رسالة لابنتها، كي تقرأها بعد 15 عاماً، تحكي لها عما حدث خلال انتشار “كوفيد 19″، وكيف أدى الحجر الصحي إلى زيادة وزنها، تكتب عن قناعاتها ورؤيتها للحياة، وأنها تود التأريخ لمرحلة الوباء، وخلال حالة البوح تلك، تكشف إيزابيل أيضاً عن أسباب شعورها بالإخفاق العاطفي والأسري، وفقدانها للسعادة.

حياة سرية

في يوم الخامس من أبريل (نيسان) 2020، مع دخول العالم في حالة إغلاق، يبدو البيت وكأنه سجن. الطفلة فيوليت التي تتهادى شخصيتها بين البراءة والبصيرة، تطلب من الجميع إغلاق النوافذ، تبدو على رغم صغر سنها مهووسة بالحفاظ على سلامة عائلتها، بينما يحاول الصبي ناثان التمرد على قواعد الحجر. تتواصل إيزابيل ودان في الغالب بكلمات باردة وتنهدات محبطة. أما الخال روبي، الذي غادر البيت، فقد تقطعت به السبل، وحيداً داخل كوخ جبلي في آيسلندا، ليس لديه سوى أفكاره وحياته السرية على “إنستغرام”، بدت وحدته وعزلته وعدم يقينه من شيء في مرحلة الحجر، بمثابة تذكير لكيفية انقلاب الحياة والمجتمع والعالم رأساً على عقب.

هكذا تبدو جائحة الفيروس، الذي غزا العالم، وشكل المحور الرئيس للرواية، مجرد إطار خارجي لتناول قضايا إنسانية أكثر بعداً، إذ لم يذكر كننغهام الوباء صراحة وبشكل مباشر، بل تحدث عن الأجواء التي أحاطت بحضوره، تحديداً الحجر الصعب الذي يفرض الركود، ويؤدي لمضاعفة الكآبة والخواء على الأشخاص اليائسين.

بعد مرور عام كامل، وفي الخامس من أبريل 2021، بعد خروج الأسرة من أسوأ مراحل أزمة الحجر الصحي، تواجه العائلة واقعاً جديداً مختلفاً تماماً، بما تعلموه، وما فقدوه، وكيف يمكنهم المضي قُدماً، مع إدراكهم أن الحب، الخسارة، الأمل، التظلم، التحديات، الاختيارات، القرارات، النوايا الخفية، كلها عقبات يجب مواجهتها والتعامل معها، والتغلب عليها خلال الحصار اليومي، داخل مساحة محدودة، ضمت أفراد أسرة واحدة، يتكشف من خلال وجودهم سوياً أن عوائق الاضطراب الداخلي، هي عوائق إنسانية واقعية ومؤلمة؛ ومع ذلك يمكن التحكم فيها بالطريقة التي تكون فيها الحياة مقبولة. لأن جميع البالغين غير راضين عن حياتهم، حتى قبل الوباء، لذا يستعين الكاتب بالسخرية في كثير من المواضع، لتبرير التصرف الأنيق الخالي من التعاطف، كأن يقول على لسان دان: “العلاقات مع آباء أصدقاء أطفالك يمكن أن تكون مثل علاقات الأمراء والدوقات المتنافسين، الذين يُجبرون على الكياسة، فقط لأنهم ينتمون إلى نفس الطبقة الحاكمة”.

تتميز الرواية باعتماد الكاتب على بناء سردي دقيق، يبدأ يوم الخامس من أبريل، ويتكرر عبر ثلاثة أعوام متتالية: 2019، هو العام الذي سبق الجائحة، ثم 2020، و2021. تُنظم الفصول بذكاء وحنكة حيث تقع أحداث العام الأول في الصباح، والثاني في منتصف النهار، والثالث في المساء. وتعتبر إحدى السمات المميزة لأعمال كننغهام الأسلوب السردي السلس، فقد وصف النقاد كتاباته بأنها شاعرية وحميمة، مع اعتناء بالغ بالتفاصيل، وقدرة على استقراء نفسيات شخصياته، كاشفاً أعمق أفكارهم وعواطفهم بأناقة وتعاطف.

ساعات الحظ

عندما يتعلق الأمر بالأدب الأميركي المعاصر، يُعد مايكل كاننغهام واحداً من الكتّاب الذين قدموا صوراً دقيقة لتعقيدات النفس الإنسانية. من خلال سرد قوي وعميق، شكل بصمته في عالم الأدب. انطلقت مسيرته الأدبية بنجاح مع نشر أول رواية له بعنوان “منزل في نهاية العالم” في عام 1990، كانت هذه الرواية علامة انطلاقه في الكتابة عن الشخصيات المعقدة.

لكن روايته “الساعات”، التي نُشرت في عام 1998، هي التي حققت له مكانة أدبية رفيعة، بعد فوزها بجائزة بوليتزر. إنها عمل أدبي مذهل في تشابك خطوطه السردية، يُشكل حكاية استثنائية تربط بين حياة ثلاث نساء من فترات زمنية مختلفة: فيرجينيا وولف، مؤلفة “ميسيز دالواي”، لورا براون، ربة منزل، تعيش في لوس أنجليس في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ وكلاريسا فوهان، تعيش في نيويورك في زمن قريب. تكمن قدرة كاننغهام على ربط هذه الشخصيات الثلاث بسلاسة، مع استكشاف ثيمات الهوية والصحة النفسية وتأثير الأدب على الروح. وقد تم تحويل رواية “الساعات” إلى فيلم حقق نجاحاً كبيراً، من بطولة ميريل ستريب ونيكول كيدمان وجوليان مور.

د. لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى