أمير تاج السر: أكتب كثيراً لأنني صاحب مشروع

في روايته "فوتوغرافي" تختفي الشخصيات بعد التقاط صور لها

الروائي السوداني أمير تاج السر

لا يبدو أن كلمة فوتوغرافي تحيل دائماً على فكرة الصورة الخارجية فقط، بل تتسلل في شكل باطني لتكشف عما يدور خلف الإطار الخارجي، أبعد من الوجه والملامح والجسد، كي تعكس الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا في لقطة عابرة تمر بخفة، تاركة حكاية صاحبها عالقة في صورة واحدة تعبر عنه، كما لو أنها المصير.  تمكن الكاتب أمير تاج السر في روايته “فوتوغرافي”، الصادرة حديثاً عن دار تشكيل، من إضفاء علاقات جديدة حول فكرة التصوير، ومع الاستعانة بكلمة “غليان الصور” في العنوان، بدلاً من احتراقها تتعزز فكرة اشتعال الأفكار وانطفائها كما الحياة والموت.

البطل السارد هو عبدالكريم، شاب مرهف، باطني، حساس، شبه منعزل، يمسك دفة السرد منذ البداية إلى النهاية، يعمل في استوديو “فوتوغرافي” وهو المدير في الوقت نفسه ويكره أن يناديه أحد بـ”المصوراتي”، إذ يشعر كما لو أنه يشتمه. تساعده على العمل رندا، فتاة تفتقر إلى الأنوثة، وتتطلع إلى الحب الغائب عن حياتها. يعيش البطل في قلب العاصمة الخرطوم، مع أخته وأسرتها ويتحمل المشاركة في نفقات معيشته.

لا يشي هذا الإطار الواقعي للسرد بما ستمضي إليه الأحداث، لكن العلاقة مع فكرة الصورة تبدو متأرجحة من النقيض إلى النقيض، لأن الأشخاص الذين يقصدون استوديو “فوتوغرافي” للتصوير، يعبرون عن أفكارهم بطرافة فريدة. إحدى الشخصيات تأتي إلى الاستوديو برفقة حمار، وتطلب أن يتم التقاط صورة لها برفقته، لكن صاحبة الصورة لا تعود لأخذها، ثم يتبين موتها في ما بعد.

عبث وجودي

تتميز كتابة صاحب “إيبولا” بحضور الغرابة الواقعية في معظم رواياته، إنها نوع من الإحالة على مجهول غير مدرك، ولكن ضمن إطار الواقع الفعلي للأبطال فلا يمكن نكرانه. مثلاً، يأتي إلى البطل السارد عبدالكريم شخص يدعى “السلبي”، ويطلب منه أن يلتقط له صورة وهو بزيه الرسمي، لأنه يريد نشرها مع نعيه في الجريدة. هكذا بكل بساطة يتم التقاط الصورة، لكن المفاجأة في رؤية عبدالكريم الصورة منشورة في الصحيفة في اليوم التالي مع نعي لـ”السلبي”، ثم يتجمع عدد من الأشخاص بمن فيهم الراوي للتساؤل عن حقيقة موته.

       فوتوغرافي- غلاف

مثل هذا الحدث يرتبط مباشرة بنوع من العبث الوجودي يتحرك سردياً ضمن حيثيات اللامعقول، لكنه يبدو في النص حقيقة فعلية، فهل “السلبي” انتحر مثلاً؟ أم مات بالصدفة بعد أن التقط له عبدالكريم صورة نعيه؟ هذا التساؤل يظل مفتوحاً، لكنه محوري في السرد، إذ من خلاله يتحول البطل إلى فكرة الكتابة، يقتني عشرات الكتب التي تساعده على التحول إلى كاتب، وهو يدرك في أعماقه أنها ستظل مركونة على الرف.

ويمثل اختيار الكاتب اسم “السلبي” ودوره في الحدث انعكاساً رمزياً واضحاً حين يكرر البطل ما فعله “السلبي”، يذهب إلى الاستوديو، ويطلب من الفتاة المصورة إيمان أن تلتقط له صورة نعيه بالبدلة الرسمية، فيبدو كما لو أن “السلبي” كما هو اسمه، رمز للمرارة والفشل والإحباط، إذ على رغم رحيله الغامض يترك انعكاساته على الآخرين بعد تفشي حالة السلبية في المجتمع ككل.

تمتد المفارقات الحدثية في النص وتطال اللغة أيضاً، وكيفية اختلاف استخدامها في الأوساط الطبقية، لنقرأ “أقصى ما تقوله صديقتي السابقة سهلة، حين تريد مدحي: وغد، سافل، كانت كلمة وغد أو سافل، مدحاً متعارفاً عليه في الطبقات الفقيرة، تماماً مثل كلمة بشع ومرعب التي تطاول وصف الجمال”.

لا يتحدث الكاتب مباشرة عن التغول الرأسمالي بقدر ما يقدم تلميحات ساخرة ومضحكة. مثلاً، كي لا يشتري صاحب العمل كمبيوتراً جديداً، يوهم الراوي بأن الكمبيوتر القديم يحتفظ به من أجل الحظ، أما الراتب الضئيل الذي يحصل عليه البطل فتخصم منه ضريبة تسمى ضريبة “حوش البقر”، التي لم يفهم معناها، يقول “استفسرت من أصدقاء يعملون في استوديوهات تصوير أخرى عن هذه الضريبة، وأنكروا جميعهم وجودها، قالوا هناك ضرائب أخرى عندهم، عددوها لي وكانت أسماء شبيهة بحوش البقر، وفي النهاية اقتنعنا جميعاً، نحن المصورين العاملين في الاستوديوهات، أننا ملزمون بدفع جزء من مرتبنا للاشيء”.

                                        رواية كل سنة تدل على غزارة أمير تاج السر

على رغم أن الرواية تستخدم ضمير المتكلم فقط، فإن الكاتب يستعين بأساليب سردية أخرى تتنوع بين الاسترجاع والتخييل والحوار، كما تتقاطع مصائر مجموعة من الشخصيات تشكل دائرة صغرى حول البطل عبدالكريم. تبدو هذه الشخوص شبحية وعابرة، لكنها تترك بصمتها في حوارات شيقة مع البطل، تتكشف من خلالها طبيعة تفكيره ورؤيته للحياة. هناك رندا زميلته في العمل، ودرة الخير بائعة الشاي في الشارع التي تحلم بمستقبل أفضل بأن تمتلك مقهى. نرجس العجوز اليونانية صاحبة محل الورد، وقد بلغ عدد أزواجها الراحلين ستة، وجميعهم أطباء بيطريون. فتاة مراهقة مخبولة تنادي على البطل “المهرج بطة”، فتسبب له اضطراباً بالغاً يجعله يتساءل إن كان عمل في السيرك ذات يوم. سائق الركشة الذي يكتب عليها عبارة: “كن لطيفاً مع عبدالخالق”. عمار يحيى صاحب الاستوديو، الملقب بعمار المطاطي بسبب طول قامته الفارع الذي يدفعه إلى الانحناء، عاد بثروة مشبوهة من ليبيا سمحت له بأن يستثمرها في مقهى شعبي واستوديو تصوير، ومحل تصفيف شعر للنساء. أما مريم فهي صحافية في جريدة مغمورة يقع البطل في هواها، ويكتشف أنها متزوجة من ضابط شرطة حين يذهب لزيارتها في المستشفى حاملاً الورد والشوكولاتة، فتطلب منه أن يترك الورد وينزع عنه البطاقة المكتوب عليها اسمه.

هكذا يشتبك السرد مع حالة عميقة من السخرية، إنها المحور الأساسي والمشترك بين الراوي وجميع هؤلاء الشخوص، الذين يبدون هامشيين ظاهراً، لكنهم يشبهون نيغاتيف الصورة الحقيقية، هم انعكاس لحالة البطل السارد، بل إن كل شخص منهم يعبر عن نفسه بلغته الخاصة، ويتم توظيفه للكشف عن حدث مهم اجتماعياً أو ذاتياً. وتمتد ألعاب السرد، حتى أن يقف البطل عبدالكريم في مرآة مواجهة للكاتب، منتقداً رواياته، قائلاً: “قضيت تلك الإجازة في غرفتي، قرأت رواية (366) لأمير تاج السر، لم أحب أجواءها، كانت كلها كآبة ودموعاً”.

الإنسان والحرية

تمضي رواية “فوتوغرافي” في النسق الإبداعي ذاته للكاتب، إذ ينشغل تاج السر في رواياته بالمزاوجة بين تقديم الحكاية السردية بالتضافر مع قضية أيديولوجية أو نفسية. في روايته “زهور تأكلها النار”، تناول بسلاسة سردية عالم الحرب والتدمير والتشرد، وكيف تتحول الأماكن الآمنة إلى بؤر رعب وخرائب، وتصير النساء سبايا ضمن الفوضى الكبرى والتجرد من الإنسانية. أما في رواية “حراس الحزن” فيجسد الحزن حالة وجودية رمزية يتم غزلها في ضفيرة واحدة مع السخرية والعبث، فنرى تجليات هذا الحزن بتمدداته الشاسعة عبر الشخوص، كي يتخذ من اللعب الساخر في السياق والمفردات والأحداث أحد أعمدة السرد الأساسية والممتعة في آن واحد.

تميز تاج السر بغزارة إنتاجه وتنوع موضوعات رواياته، فهو ضمن قلة من الكتاب الملتزمين بشدة نحو أعمالهم الإبداعية، ويعتبر أن انشغاله بالسرد الروائي وتقديم عمل جديد كل عام أتى منذ البدايات الأولى مع الكتابة، يصف هذا بقوله “أحس بأنني صاحب مشروع لا بد من إنجازه، مشروع خاص بالإنسان والحرية، وتسليط الضوء على كل أنواع الظلم، إضافة إلى ولعي الشخصي بالكتابة وإحساسي أنني ولدت لأكتب. وبالطبع ذلك لم يمنعني من الدراسة والعمل كطبيب لكسب العيش، وهذا متعب طبعاً. أعتقد أنه كي يكتب الشخص سنوياً كتاباً عليه احترام الكتابة واعتبارها مهنة، حتى لو لم تكن هي المهنة الأساسية. لذلك كلما كانت لدي فكرة أجلس لأكتبها في ساعات محددة في اليوم، وبالجهد نفسه الذي أنجز به عملاً آخر. هكذا أنجزت ولا أعتقد أن ذلك عيب، فأنا لا أكرر نفسي أبداً ولا أعيد كتابة الأفكار التي كتبتها من قبل”.

هذا الاحتشاد في الأفكار يدفع إلى التساؤل عن تجربة الكتابة بشكل عملي بالنسبة إلى كاتب غزير مثله، عن منبع الفكرة، كيف تأتي، ومتى يكون بمقدرة الكاتب أن يشرع في الكتابة. يكشف تاج السر عن أن الفكرة تأتي فجأة من أي شيء يمكن تخيله، ربما من مشهد صغير في الشارع، أو عنوان في خبر في صحيفة، أو حين يقرأ في التاريخ. بعد ذلك يبحث عن بداية ملائمة فإن عثر عليها يبدأ الكتابة بشكل يومي، إلى أن ينتهي النص من دون أن يخطط لكتابة فصل كامل، أو أن يضع شخصيات مسبقة، بل كل شيء يأتي وحده أثناء الكتابة.

ويعتبر الخوف من التكرار في ظل غزارة الإنتاج هاجساً مخيفاً بالنسبة إلى أي كاتب، لكنها لا تسبب له القلق، يعلق على هذه النقطة قائلاً: “عندي روايات كثيرة لم تتكرر فيها أي شخصية إطلاقاً، إلا لو كانت امتداداً للنص السابق مثل ميخائيل القبطي في “توترات القبطي”، وفي “زهور تأكلها النار”، ومثل شخصية الروائي في “صائد اليرقات” و”طقس”، لكني أعمل على الحذف في حال وجدت هناك تشابهاً مع شخصية سبق أن قدمتها”.

الأدب السوداني

يتحدث أمير تاج السر عن مكانة الأدب السوداني في هذه المرحلة، معتبراً أنه يمر في أفضل مراحله، فقد شق طريقه إلى الانتشار، وظهرت دور نشر سودانية كثيرة في السنوات الأخيرة، اهتمت بالمنجز السوداني ونشرت للأجيال الجديدة، وأوصلتها إلى القراء العرب وفي العالم أيضاً. يقول “الآن هناك كتاب من جيلنا والجيل الذي بعدنا، حصلت أعمالهم على الانتشار والجوائز، بمعنى أن الأدب السوداني لم يعد ذلك الأدب المغمور الذي يختبئ في الأزقة الخلفية مثلما كان سابقاً. وبالطبع أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تحرره من العزلة كثيراً”.

يقود الحديث عن الأدب السوداني دائماً إلى التوقف أمام الشهرة الكبيرة التي حققها الطيب صالح، وقد استطاعت بالفعل أسماء عدة، من الأجيال الجديدة ترسيخ عوالمها الإبداعية، وحققت نجاحاً كبيراً على المستويين العربي والعالمي، ولكن هل تمكنت هذه الأسماء حقاً من تجاوز ظاهرة الطيب صالح؟

يوضح تاج السر وجهة نظره قائلاً: “في الماضي جاء الاحتفاء الكبير بالطيب صالح، لأن الطيب إضافة إلى موهبته التي يتفق عليها الجميع كان قادراً على الوصول إلى المحافل العالمية بحكم وجوده خارج السودان. وبذلك حدث موضوع تسمية الأديب الواحد، أولئك الذين ألغوا الأدب السوداني عدا الطيب، لم يهتموا بالحفر عميقاً، ولم ينقبوا عما يمكن أن يوجد من ثروة إبداعية هناك. وكما قلت، الآن مع التقدم التكنولوجي، لم يعد الوصول إلى العالم صعباً، لذلك حقق كثر ممن يستحقون الظهور شهرة ووصلوا إلى القراء في كل مكان”.

د.لنا عبد الرحمن

independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى