أبطال سمير الفيل يواجهون هواجس الواقع المصري
"دمى حزينة" مجموعة فازت بجائزة الملتقى للقصة القصيرة
في مجموعته القصصية “دمى حزينة”، الحاصلة على جائزة الملتقى للقصة القصيرة في دورتها السادسة، يميل الكاتب المصري سمير الفيل إلى اختيار القالب الحكائي ليطغى على القصص، مع تنويعات في الدمج بين السرد الكلاسيكي والفانتازي ضمن قالب سردي واحد، يتضافر في بنية ملتحمة للوصول إلى المعنى. فالبطل السارد يبدو في معظم القصص نموذجاً يتكرر وجوده في مراحل عمرية مختلفة. وعلى رغم أن التاريخ الزمني لكتابة القصص متقارب، فإنها تستند إلى الذاكرة، عبر استدعاء مواقف من الزمن الماضي ورصدها بدقة، مع ما تركته من أثر في الذات.
بين الحياة والموت
في القصة الأولى “تلك الحواجز”، يحضر الصراع الوجودي بين الحياة والموت وما بينهما، يواجه البطل تحدياً للتخلص من المكان الضيق الذي يعيش فيه، والتحرك إلى ممر معتم، ينبغي عليه المضي فيه، ولا مناص من عبوره منفرداً. تحمل القصة نبرة سرد صوفي تستدعي رموزاً مألوفة، فهناك شمس واحدة وأربعة أقمار، خفافيش تعلو رأس البطل، قرد يعترض طريقه كي يفسد خطته في سباق الحياة، وذئب يسبب له الرعب. لنقرأ: “الآن أنا في مواجهة أصعب عقبة. تذكرت سيدي الحسين فدعوت بعلو حسي أن ييسر الله أمري. حينها بانت القبة الخضراء، وضعت كفي اليمنى على سور المقام. وجدته يعترضني، بفكين مفتوحين عن آخرهما. تمساح ضخم لم أر له مثيلاً”.
نجد أيضاً في قصة “السير في ممر معتم ضيق”، تسللاً لأفكار مشابهة عن الموت والحياة، عن المقابر والجنازات والترنيمات الغامضة الملتحمة مع شكوى من الواقع المعاصر والتاريخ الماضي، الذي يستدعيه مع حضور صورة الملك فاروق، ثم ركوبه يخت “المحروسة” وإطلاق 21 طلقة عند مغادرته. ضمن الكاتب هذه القصة مجموعة من المشاهد المتجاورة لمراحل مختلفة من تاريخ مصر، محاولاً أن يجمع بينها في محاكاة تدمج بين الزائل والآني، بين الحي والميت، يقول: “اندفع المشيعون لأخذ ثواب حمل النعش. اقترب من حفرة الدفن. تبتدئ الرحلة ثم يجاهد الشخص طول عمره للنجاة من فخاخ الناس، ثم يحمل على خشبة ويدفن في وجود الأهل والأقارب. تأخرت خطواته، لأن الحفار قال له لا تنظر من الفجوة. هناك أسرار لا يجب أن تعرفها”.
وتقدم قصة “الزرقة المخيفة” صورة أخرى للموت، مع تخيل جسد رجل مسجى في سريره، بينما يدخل ملاك الموت إلى حجرته، ويقوم بمهمته ببساطة في سحب روحه والمغادرة بسرعة تاركاً ابنة الرجل تحتضن الجسد الهامد وتبكي في التياع.
هذا التداخل بين الحقيقي والمتخيل، يحضر أيضاً في قصة “محاولة لرسم مشهد خيالي”، منذ الجملة الأولى “خطبت أميرة”، يبدو كما لو أن أميرة هي فتاة تحمل هذا الاسم، سرعان ما تنكشف اللعبة في استدعاء رموز من “ألف ليلة وليلة”، حضور عبد زنجي وحارسين في جنب كل منهما سيف في غمده، ثم الأميرة والقصر، كل هذا بالتوازي مع الصبي يوسف ابن أخت البطل الراوي المصاب بالسرطان، كما لو أنه يمثل شخصية دنيازاد، في “ألف ليلة وليلة”، وهذا ما يظهر مع الجملة الأخيرة “قفز يوسف، وجدته ملتصقاً بصدري، أمنعكم من قتله. أخرجونا من قصركم، فنحن غرباء عنكم”.
الذات والعالم
تضمنت قصص عدة في المجموعة حالات إنسانية يحضر فيها الواقع اليومي متضافراً مع المتخيل الذاتي، إذ ثمة عالم مرئي تدور فيه الأحداث، وآخر باطني يختاره الأبطال للفرار إليه، بمحض إرادتهم، لأن الأزمات المطروحة داخل البنية السردية ترتبط مباشرة بتفاصيل حياتية تسبب معاناة للشخوص مثلاً في قصة “القنفذ” يقرر البطل الاختباء من العالم لأنه لم يعد يستطيع الاستمرار في العيش، فلا هو متحقق داخل بيته بسبب قسوة زوجته، ولا في عمله حيث يتفنن زملاؤه في قهره، مما يجعله يتصور نفسه قنفذاً كي يحمي نفسه من الأخطار. يدخل في نفسه ويتلاشى، إلى أن يحيطه الشوك من كل جانب، ويحوله إلى شخص آخر قادر على التسبب في الأذى والانتقام.
يأتي عنوان المجموعة مع قصة “دمى حزينة”، ليحمل سؤالاً: “كيف يمكن للدمى أن تكون حزينة؟ هذا التجسيد الذي أراده الكاتب، في استدعاء صريح لمعاني الحزن النافذة، يحكي قصة فتاة صغيرة وفقيرة، اعتاد السارد أن يشاهدها وهي تأتي إلى بيتهم كل يوم برفقة دمى كثيرة مصنوعة من قماش وبقايا القطن. تصف القصة الواقع الاجتماعي البائس للبنت الصغيرة، التي تتركها أمها عند الجيران كي تذهب لتبيع الفول في الشارع وتحصل على بعض النقود، وبالتوازي مع هذا يحضر التعاطف بين البطل والطفلة، مع رمزية حضور فكرة الثعبان في قلب البيت، والتفافه حول الدمية الكبيرة كي ينام في حضنها نصف ساعة.
نساء معذبات
أما قصة “ذهبت إلى البحر”، فتصف الواقع المعيش لامرأة تدعى شريفة تعمل في التمريض، تزوجت بالعربي سحتوت، الذي وعدها بحياة كريمة، لكنه بدلاً من هذا سلبها ذهبها وأقنعها بضرورة أن يتقاسما معاً نفقات المعيشة. يرسم سمير الفيل من خلال شخصية بطله “العربي”، نموذجاً تقليدياً للرجل الشرقي الذي يجلس مع رفاقه في المقهى، ويحكي لهم أن الرجل القوي هو من يجعل زوجته “كالخاتم في إصبعه”. أما شريفة فكانت تتطلع إلى القمر من سطح بيتها، وتحلم بأن تزور البحر، وتذهب إلى السينما، وتعود قريباتها المتزوجات حديثاً. تطرح على نفسها أسئلة روتينية كثيراً ما طرحتها النساء من قبل، كأن تقول “لماذا كانت عيشتي في القرية سعيدة؟ وهل يعني الزواج عذاباً خفياً تحت طبقات العادات اليومية؟”. زوجها العربي سحتوت، وقد استخدم الكاتب كلمة “سحتوت” في إشارة ساخرة لاسم الزوج، دلالة على البخل الشديد، يقنعها بأن البحر خلق للرجال فقط. ولكن في لحظة تمرد خارقة، تقرر شريفة الذهاب إلى البحر. تأخذ إجازة من المستشفى، وتركب في ميكروباص وتشق طريقها نحو البحر، كي تجلس وحيدة تتأمل الأمواج في مدها وجزرها، بيد أنها رغم قيامها بهذا التصرف سراً، فإنها لم تقو على الصمت، فقد أرادت الجهر بما فعلته بلا خوف من غضب الزوج، لنقرأ: “حين دفع الباب بقدمه، آمراً إياها بتجهيز طعام الغداء، لم تدر بنفسها إلا وصوتها مجلجلاً، بلا انكسار أو وجل: أنا ذهبت إلى البحر”.
تمضي قصة “ضوء مهتز”، كي تقدم عالم المرأة من زاوية مشابهة لقصة “ذهبت إلى البحر”، مع سيطرة التراث الاجتماعي للحكاية، يتم التعبير عنه من خلال شخصية غادة الطويل، المرأة القصيرة للغاية، التي تعمل في التدريس، وتقرر أن تستقل براتبها عن زوجها شندويل البرعي، بخاصة بعد أن اكتشفت غدره بها، وزواجه من امرأة أخرى. لذا تقرر هي في أعماق ذاتها رفض القبول بظل رجل. هي لا تحتاج إليه، “يكفيها ظلها الذي تراه كل يوم حين تغادر مدرستها في اتجاهها إلى البيت، حيث يكون أطفالها في انتظار طلتها”.
استند الكاتب في أسلوبه السردي ضمن البناء القصصي إلى دور المراقب الخارجي للأحداث، وسردها من قلب الذاكرة، كما في قصة “مآسي السيدة ب” التي وصف فيها حياة البطلة التي انتهت بمأساة السجن، أيضاً قصة “سبعة تصورات لوردة”، وقد قدم فيها مجموعة من الشخصيات في صور متجاورة.
واعتمد على اللغة الوصفية لتقديم أفكاره، مع استخدام أساس لصيغة الفعل الماضي، لما تتضمنه القصص من استدعاء للموروث الجمعي الشعبي من جهة، وبغرض توضيح العلاقة الملتبسة في الإحساس بالزمن وتحولاته وأثره في الشخوص والأماكن، في تداخل مباشر بين الواقعي والفانتازي.
لنا عبد الرحمن
independentarabia