كلاريس ليسبكتور تنحاز إلى الفطرة في مواجهة شر العالم
"قريبا من القلب المتوحش" رواية برازيلية ترصد الحياة المضطربة
من خلال سرد غني ومتعدد الطبقات، تقدم رواية “قريباً من القلب المتوحش” أبعاداً فلسفية ونفسية تدعو القارئ إلى التأمل في القضايا الوجودية والإنسانية، وترسم صورة عميقة للتحول الروحي والفكري عبر النظر في شؤون الحياة والحب والبحث عن المعنى.
هذه الرواية الصادرة عن دار الآداب بترجمة صفاء جبران، اعتبرت عملاً فارقاً ومؤثراً في حياة مؤلفتها كلاريس ليسبكتور التي كتبتها بين مارس (آذار) ونوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1942، ونُشرت في عيد ميلادها الـ23 تقريباً. وضعت هذه الرواية، من خلال أجوائها ولغتها الثورية، المؤلفة الشابة غير المعروفة في مكانة بارزة في الأدب البرازيلي وحصلت بفضلها على جائزة “غراسا أرانها” المرموقة. “إنه اليقين بأنني قادرة على الشر”، تصف هذه العبارة جوانا بطلة الرواية التي تعيش حياة داخلية متقلبة، تتأرجح بين السعادة المضطربة والحزن النبيل، بين الروتين الممل الذي يستحضر الموت والحياة البرية المثيرة والمخيفة والموحشة.
الرواية مكتوبة بأسلوب تيار الوعي، وتتمحور حول الطفولة والبلوغ المبكر لشخصية جوانا، إنها امرأة شابة تتقاطع أفكارها وتساؤلاتها مع المفكريين الوجوديين مثل كامو وسارتر، تفكر في معنى الحياة وحرية المرء في أن يكون على طبيعته وما الغرض من وجوده في هذا العالم.
لا يقوم البناء السردي للرواية على حبكة تقليدية، بل يتشكل في فصول تكشف ومضات من حياة جوانا، بين حاضرها كامرأة شابة، وماضيها في طفولتها المبكرة، مع تركيز مكثف على الحالات الذهنية الداخلية والعاطفية الممزوجة بتقلب الأهواء والتردد والجمع بين نقيضين. تعيش جوانا حالاً من التأمل الدائم وشغف إيجاد المعنى، مما يجعلها تتنقل بين مشاعر الوحدة والاغتراب والبحث عن الحرية. تقول “شعرت بوجود حيوان مثالي في داخلها. تشمئز لمجرد التفكير بإطلاق سراحه. ربما تخوف من نقص في الجمالية، أو هو خوف من الوحي… لا… لا، يجب ألَّا تخافي من الإبداع، تكرر لنفسها. لكنها في أعماقها ما زالت ترغب في إرضاء شخص قوي مثل عمتها الميتة”. تستدعي صفة الوحشية الحاضرة في العنوان دلالة المشاعر الفطرية الطليقة، المتحررة من القيود، وهذا ما تمثله جوانا. اختارت الكاتبة أن تفتتح روايتها بعبارة جيمس جويس “كان وحيداً، مهملاً، سعيداً، قريباً، من القلب المتوحش”. لكن كيف يكون القلب الذي ينبض داخل صدر الإنسان متوحشاً؟ وما هي أمارات وحشيته؟
الرواية مقسمة إلى جزءين، وفي كل جزء تضع الكاتبة فصولاً قصيرة معنونة بما يكشف عن مضمون كل فصل، فالجزء الأول، عناوينه تبدو بحسب ظهور الشخصيات مثل “الأب” و”الأم” و”العمة” و”أفراح جوانا” و”أوتافيو”، أما الجزء الثاني، فتتنوع عناوينه بين الشخصيات والأماكن والأحداث مثل “الزواج” و”المأوى في الرجل” و”المأوى في المعلم” و”الأسرة الصغيرة” و”ليديا” و”الرحلة”.
الحرية والحقيقة
تقدم كلاريس ليسبكتور عالماً من الأسئلة الوجودية والتفكير العميق في غاية الحياة ومعناها وفي الحرية والهوية وعلاقتهما بالأنا. ترفض جوانا فكرة الحقائق الراسخة وأن يكون هناك مسار واحد للعثور على الإجابات. تتساءل وماذا بعد السعادة؟، هذا السؤال ينعكس على حياتها ككل لأنها تدرك أنه ليس ثمة وصفة سحرية للعثور على السعادة إلى الأبد، ومن هنا نراها ناقمة على الفكرة التي تتكرر في نهايات كتب الأطفال التي تصف الأبطال بأنهم عاشوا في سعادة أبدية. كما يُظهر مفهوم جوانا للزواج فهمها للمعضلة الإنسانية، ويوضح عدم رغبتها في الخضوع الأعمى لـ”السعادة” التي تقيد حريتها، من هنا يبدأ صراعها مع زوجها أوتافيو.
تكشف معظم شخصيات الرواية عن تعقيدات الطبيعة الإنسانية وتفاعلاتها مع المحيط الذي تعيش فيه، وهذا لا ينطبق على جوانا فقط، إذ في مقابل جوانا البرية المستقلة التي لا يمكن أن يمتلكها أي شخص، هناك ليديا المرأة التقليدية التي تشاركها حب أوتافيو الذي يتنقل بين ليديا المستقرة الآمنة وزوجته جوانا.
أما أوتافيو زوج جوانا السابق، فهو يمثل الرابط بينها والعالم الخارجي في علاقتها مع الجنس الآخر، ويظهر تناقضها الداخلي من خلال علاقتها به لأنها تكافح كثيراً بين رغبتها في الاستقلال عنه والحاجة الملحة إلى الانتماء. وتجنح الطبيعة الذاتية لأوتافيو نحو التقليدية والرضا بالحياة الاعتيادية والقيم الاجتماعية الراسخة، مما يتعارض مع روح جوانا الحرة والمستقلة، ويؤدي إلى ظهور ليديا عشيقة أوتافيو التي يترك جوانا من أجلها. تمثل ليديا النقيض لجوانا من حيث الشخصية والاهتمامات، وترمز إلى الحياة العادية والقناعة بالأمور السطحية من الوجود، في مقابل التساؤلات الجوهرية والبحث العميق الذي تقوم به جوانا. الشخصيات الثلاث تجسد تناقضات الطبيعة الإنسانية وتحديات البحث عن الهوية والمعنى في الحياة. لنقرأ “أين تذهب الموسيقى عندما لا تُعزف؟ تتساءل… تستسلم… فليصنعوا قيثارة من أعصابي عندما أموت… يا عمتي، اسمعيني، لقد تعرفت إلى جوانا التي أحدثك عنها الآن، حاولي أن تفهمي بطلتي يا عمتي، إنها غامضة وجريئة، إنها لا تحب. وليست محبوبة”.
ويعتبر استخدام تقنية تيار الوعي من السمات المميزة لأسلوب كلاريس ليسبكتور اللغوي، إذ يمنح القارئ إمكان الغوص في أعماق شخصيتها الرئيسة جوانا، فيتم تقديم الأفكار والانفعالات بطريقة التدفق الحر، مما يعكس التداخل العميق بين الوعي واللاوعي.
استندت الكاتبة بصورة كبيرة إلى لغة شعرية رفيعة في استخدام المجازات والصور البلاغية لإيصال التجارب الداخلية لجوانا، وهذا الأسلوب منح النص غنى تعبيرياً وسمح بتعدد التأويلات. ويسود أيضاً في الرواية الحوار الداخلي، مما يسهم في تعزيز الشعور بالاغتراب والتفكير الفلسفي، إذ تعزز الحوارات الداخلية من وجود حال الصراعات النفسية وتساؤلات حول الوجود والذات عند جوانا تحديداً. واعتمدت الكاتبة كذلك على تجاهل سيرورة الخط الزمني الكلاسيكي، إذ تتداخل الأزمنة وتتقاطع الذكريات مع اللحظات الراهنة بصورة تعكس التجربة الذهنية الواقعية للشخصية.
وتمثل الوحدة والاغتراب ثيمتان أساسيتان في الرواية، فيعبران عن الفجوة بين الذات والعالم الخارجي. واعتمدت الكاتبة على رموز عدة داخل نسيج النص، مثل رمز الماء كدلالة على التطهر والبدايات الجديدة والتحول الداخلي، وأيضاً رمز المرآة التي تعكس الصراع الداخلي لجوانا،وتشير إلى البحث عن الهوية الحقيقية وراء الأقنعة الاجتماعية، والقلب المتوحش رمز للجوهر البري والأصيل للإنسان الذي يظل محتفظاً بفطرته السليمة على رغم تأثيرات الحضارة والمجتمع، ويشير إلى الحرية الأساسية والغريزة التي تعيش في قلب كل فرد.
آلام عميقة
لعل من المهم التوقف قليلاً عند حياة كلاريس ليسبكتور التي انعكست بصورة جلية على كتابتها، ودفعت الكاتب بنجامين موسر إلى تناول حياتها في كتاب سيرة ذاتية حديثة بعنوان “لماذا هذا العالم؟”.
ولدت كلاريس في بودوليا، غرب أوكرانيا، لعائلة يهودية، ثم انتقلت إلى البرازيل وهي رضيعة نتيجة للكوارث التي اجتاحت موطنها الأصلي بعد الحرب العالمية الأولى. فارقت والدتها الحياة عندما كانت في التاسعة من عمرها. وخلال سنوات مراهقتها انتقلت العائلة إلى ريو دي جانيرو. وأثناء دراستها في كلية الحقوق في ريو، بدأت كلاريس بنشر أول أعمالها الصحافية والقصص القصيرة. وقفزت إلى الشهرة في سن الـ23 بنشر روايتها الأولى “قريباً من القلب المتوحش” التي كتبتها كمونولوغ داخلي، لكنها لاقت الاستحسان بسبب استخدامها للغة إبداعية جديدة.
بعد زواجها من دبلوماسي برازيلي، غادرت البرازيل عام 1944 وأمضت سنوات في أوروبا والولايات المتحدة. وعندما عادت لريو دي جانيرو في 1959، بدأت بكتابة أشهر أعمالها بما في ذلك “قصص الروابط العائلية” و”الشغف وفقاً لـ ج. هـ” و”قناديل البحر”، لكنها تعرضت لتجربة قاسية في حادثة سير عام 1966، وأمضت بقية حياتها تعاني آلاماً مزمنة، ومع ذلك استمرت في كتابة الروايات والقصص حتى وفاتها المبكرة عام 1977.
لنا عبدالرحمن
independentarabia