الروائي المصري وحيد الطويلة يدخل عالم الزواج والخيانة

"الحب بمن حضر" وما روي من حكايات غرائبية

اختار الروائي المصري وحيد الطويلة أن يبني عالم روايته الجديدة “الحب بمن حضر”، بين الغرائبية والواقعية والرمزية، والموروث الأسطوري، متحرراً من الزمان والمكان بقصدهما المحدد. يقوم معمار الرواية على أعمدة عدة، تتمثل في شكل قضايا وجودية محورية، يستند إليها نسيج السرد، القائم على لغة شديدة الخصوصية، وغير متشابهة في اختياراتها.

يمكن اعتبار الحب، الذي يحضر في عنوان رواية وحيد الطويلة الجديدة “الحب بمن حضر” (دار بتانة) بمفهومه المجرد والبدائي، ممثلاً في علاقة المرأة بالرجل، أحد محاور الرواية الأساسية، لكن الأسطورة بحضورها الغائر زمنياً، والاغتراب بمفهومه الواسع الذي يشمل المكان والذات، يشتبكان معاً في ضفيرة سردية تمنح الراوي سلاسة وتشويقاً، يزداد تأثيره مع تقدم القراءة.

يفتتح الكاتب نصه بمقولتين عن الحب، الأولى مأخوذة من أغنية أفريقية تقول كلماتها: “الحنان أن تحب بغير عنف، أن تهجو بغير قسوة. أن تخاصم حبيبك من دون أن تكسر ضلوعه، الحنان ليس كالحب، الحب أن تملأ المعدة بكلامه، الحنان ألا تشبع من كلامه، حتى لو لم يقل شيئاً”. المقولة الأخرى من رواية “لا تمت قبل أن تحب” للكاتب محمد الفخراني، وهي “لا سلطة لنا على قلوبنا، هي تنبض لمن أرادت”. لكن النص يبدأ مع الجانب الأسطوري، في “راو على الناي”، ومع جملة موغلة في سرد عتيق هي “كان ياما كان”، نعرف منها حكاية العجوز السبعيني الذي يصنع الطوب، ويسكن في القمينة، التي لا يعرف لها صاحب، بل إن من يدخلها يمضي به العمر من دون أن يحس إلا بأنه صار عند حافة الرحيل، ويكون عليه أن يسلم القمينة لغريب عابر، كي يستمر في صنع مكعبات الحجر وصور أخرى من الطين. لنقرأ: “عجوز مشوش، قولوا مرعوب، آه والله مرعوب، لكن أنا أحب أن أخفف عنكم، ولا أصدمكم مرة واحدة، الحكاية طبقات، والدنيا نفسها طبقات، مذعوراً أن يموت قبل أن يأتي غريب ليتسلم منه القمينة وإلا قامت القيامة، قيامة المكان، واختفى كأنه لم يكن، هكذا تقول النبوءة”.

موعود وبهجة

يصل موعود وهو شاب في الـ15 من عمره إلى القمينة، يتلقفه العجوز الباحث عن وريث لحياته، لمكانه وطينه وأسطورته. هكذا يصير الغريب المجهول من أهل المكان، يتعلم محاكاة الطين، وصناعة الطوب. يقول العجوز لموعود: “القمينة هي روحك يا ولدي، مخزن روحك، تصهد من الداخل، تصهد كبركان، وتحن من الخارج ككف الأم على أبنائها، ككف الريح على بناتها، القمينة عمياء، لكن قلبها خارجها، لا يموت ما دام هناك من يحب، وأنا أنجبتك في الحلم قبل أن أموت”.

يصيب الهوى قلب موعود حين تقع عيناه على بهجة، فتاة في مثل سنه تسكن مع أبيها الأرمل، تعبر من أمام القمينة كل يوم، وكلما رآها موعود شعر بطعم النار مع الحلوى، مزيج الخوف والاشتياق، يحس أن طاقة نور تنفتح في قلبه كلما مرت به، لذا صنع لها عروسة من طين، وشوش لها بكلماته وهو يصنعها لحبيبته، لكن العجوز نبهه بأن: “آدم وحواء صنعا من طين القمينة أيضاً، وأن الطين يحب من يحبه، لكنه قلاب مثل البشر يا ولدي”.

يتشكل نسيج حكاية موعود وبهجة بقوة خيوط الحرير، التي تجمع في تكوينها عناصر الطبيعة، في حكايتهما تحضر الشمس التي تمنح سخونة دفئها للطين، والماء الذي يتغلغل به منذ البدء، والنسيم الذي يحمل ذرات الوله في الطوب الذي يصنعه موعود، ويكتب عليه اسمه واسم محبوبته، التي “حام حولها كشمس، وسكنت في جواره كظل”. لكن هل أحبت بهجة موعود؟ يطرح الراوي هذا السؤال على مدار الرواية، وبسببه تحضر الريبة، والشك في كل الطمأنينة التي سادت بينهما منذ صباهما الأول.

بهجة، تصبح طالبة في الجامعة، تدرس الفنون، أما موعود فيظل في القمينة، يصنع القلل والجرار، والأواني الفخارية، تدرك بهجة أن أنامله مغموسة بالفن، وتتحسر في داخلها عليه لأنه لم يلتحق بالمدرسة. تسأله عن قالب الطين الذي صنعه باسمها ممَّ صنعه، فيجيبها ببراءة: “صنعته بالمحبة، بالنار والنور”. لم يسأل موعود نفسه إذا كانت هذه الفتاة تحبه، فقد صحا من الطين ذات يوم فوجد حبها في حضنه. لكن لا أحد يعرف إن كانت تحبه أم لا. بهجة ترى أن موعود طاقة نور لروحها، لكن ربما هي تحب الطريق معه، تحب الحالة التي يخلقها وجوده، لكنها لا تريد أن تنغمس لآخرها في هواه.

تحفل الرواية بدلالات رمزية كثيرة، ترتبط بأسطورة الخلق، بآدم وحواء والغواية، بكينونة البشر، بكل أبعادها، “إذ لا بد للنار من أن تقضي مشيئتها، ثم حين تنتهي من الوعد تبدأ من جديد”، هذه العبارة تبدو في النص كما لو أنها ترتبط بالحياة المتتالية لقوم يرحلون، ثم يأتي غيرهم وهكذا، أيضاً المشهد الذي يقدم فيه موعود لبهجة كرة من طين مصمتة، ويقول لها: اكسريها. تسأله: “هل بها ثعبان؟”. هكذا ثمة كثير من المشاهد التي يمكن تأويلها حسب وجهة نظر المتلقي، فإنها تظل حمالة لأكثر من وجه.

رسائل ملعونة

تحضر تيمة الرسائل بدلالتها الواقعية والتخيلية، لتؤلف بين الرمز والحقيقة تصل الرسالة الأولى عبر الشرفة إلى واحد من أهالي البلدة، لتكشف له خيانة زوجته، الرجل الذي يعاني صدمة واقعية يستنجد بصديقه المقرب، يحكي له عن مأساته، وما وجده في الرسالة من كلمات مسمومة، فيكون رد الصديق بطمأنته بأن اسمه غير مكتوب في الرسالة، لذا ربما لا تخصه، وأنها سقطت على شرفته سهواً.

انطلاقاً من هذا الحدث، يتعاقب سقوط الرسائل، على شرفة الصديق، والجار، وسائر رجال البلدة، جميعهم يتلقون كلمات تكشف لهم ما لا يعرفونه عن خيانات الزوجات. هنا يمكن استدعاء مقولة السيد المسيح: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”، إذ سرعان ما يتوالى انكشاف الخطايا التي يتستر عليها الجميع، مع وصول رسائل مماثلة إلى أيدي نساء البلدة، تقول إن الرجال يخونون زوجاتهم أيضاً، وفي كل رسالة ينكشف سر محجوب عن الأعين، يدين صاحبه بالخطيئة.

لا تتعلق الخيانات فقط بخطيئة الأجساد، بقدر ما ترتبط بفضح علل النفوس وخرابها. لكن يظل السؤال الحائر والمعلق، هو: من يرسل الرسائل؟ من الذي يعرف أسرار أهل البلدة بنسائها ورجالها، ماضيهم وحاضرهم، ما يقولونه علناً وما يضمرونه سراً في باطنهم؟ المرسل يقيم بينهم، يراقبهم ويتابع ما يحدث لهم من مخاوف وشكوك، لكن لا يتمكن أحد من كشف هويته… ومثل رواية “ثم لم يبق أحد” لآغاثا كريستي، تتوالى الأسباب الغامضة، وتحوم الشبهات حول أسماء عدة، جميعهم لديهم من الدوافع الخفية ما يجعلهم يقومون بهذا الفعل.

ويتخذ حضور الرسائل بعداً فانتازياً، حين يصير العثور على الرسائل في أماكن غير متوقعة، إذ يعثر عليها أحدهم في محفظته، أو في قلب دولابه، أو في أي مكان يستحيل أن يصل إليه أحد.

تصل الرسائل إلى كل أهالي البلدة، فيما عدا بهجة ووالدها، ربما لأن الأب أرمل، وزوجته ماتت منذ زمن بعيد، لذا ليس هناك مبرر من اتهام زوجة راحلة بالخيانة. لكن بهجة يصل بها حيز الشك إلى اتهام موعود بأنه من يقوم بكتابة الرسائل وإرسالها.

مفارقات قدرية

قسم الطويلة روايته، إلى فصول صغيرة معنونة حتى نصف الرواية، بعنوانين هما “راو على الناي” و”موعود وبهجة”، ويتم تبادل السرد بينهما، بين الراوي العليم الذي يحكي في سرده عن البلدة وأسطورتها وأهلها، ثم يصف قصة الحب الوليدة بين الشاب والفتاة، منذ لحظة وصول موعود إلى البلدة، ثم يظهر فصل بعنوان “مسعد”، يحكي فيه الراوي عن مسعد سائق العربة الوحيد، مدمن الحشيش الذي صعد إلى المنبر ليخطب الجمعة بدلاً من شيخ الجامع، إنها مفارقة أخرى تمتد حتى نهاية الرواية، إذ يتكرر صعوده إلى المنبر في لمحات ساخرة، كأن يبدأ خطبته ملمحاً لقضية الرسائل التي تشعل البلدة قائلاً: “أيها الناس، الدنيا راكب ومركوب”. لذا تحوم الشبهات حول مسعد بأنه يقوم بإرسال الرسائل، فهو يعرف كثيراً من أسرار البلدة، كما تحوم التهمة حول الحاجة صباح المصنفة الأولى في فك أصعب أنواع السحر، فهي تملك الصندوق الأسود للمكان وسكانه، وفي جعبتها خبايا وأسرار.

تتجرد رواية “الحب بمن حضر” من الارتباط بمرحلة زمنية أو مكانية محددة، الزمان شبه مبهم، لولا إشارات طفيفة لبعض الأغنيات، والمكان يظل بلا اسم، كل الحكايات التي تقع على أرضه، ممكن حدوثها في أي قرية أو بلدة، وضع الطويلة أبطاله في مكان ما، تنطبق تفاصيله على كثير من الأماكن، مما يعطي النص صفة الشمولية، لتنطبق الأسطورة على كل زمان ومكان.

لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى