إيزابيل الليندي تستكشف معنى الهجرة في العالم المعاصر
شخصيتان تتواجهان عن بعد في رواية "الريح تعرف اسمي"
يرتحل أبطال إيزابيل الليندي في رواية “الريح تعرف اسمي” (في الترجمة الإنجليزية التي أنجزها فرانسيس ريدل – دار بلومزبري) بين جغرافيات متنوعة، في أوروبا وأميركا الشمالية وأميركا الوسطى، بحثاً عن شعاع أمل خافت يظهر غالباً في أحلك الأوقات. تتقاطع أحداث الرواية حول شخصيتين رئيستين، تفصل بينهما عقود وقارات، لكنهما تشتركان بالتوازي في حدوث وقائع دامية في حياتهما.
الشخصية الأولى، هي فتاة صغيرة تدعى أنيتا دياز، من السلفادور. تجد نفسها في قبضة سياسة الفصل العائلي على الحدود الأميركية، في عام 2020 أثناء الجائحة، إنها ضحية للصراعات السياسية الحديثة التي تنتزعها من حضن أمها، وتدفعها إلى فوضى مراكز الاحتجاز والهجرة. لنقرأ: لقد نسيت تماماً ما يتطلبه الأمر لرعاية طفل يا سيد بوجارت. وهذه الفتاة مصدومة، تفتقد والدتها، لقد تم إبعادها عن كل ما تعرفه، عائلتها وأصدقائها ومدرستها ومجتمعها ولغتها. هل يمكنك أن تتخيل كيف يكون حالها؟“.
الشخصية الثانية، صاموئيل أدلر، البالغ من العمر خمس سنوات، صبي يهودي يعيش في فيينا خلال الثلاثينيات. يختفي والده وتفقد عائلته كل شيء. لذا تؤمن له والدته مكاناً في قطار” كيندر سبورت”، كي يغادر النمسا المحتلة من النازيين، ويرحل إلى إنجلترا. يصعد على متن القطار وحده، لا يحمل سوى بعض ملابسه وآلة الكمان، التي يحبها كثيراً.
هذا الانتقال، الذي ينقذ صاموئيل من تهديد النازيين، يغرقه من جانب آخر في إحساس الشك والعزلة والغربة. تقول: “كان والده واحداً من القلة من المواطنين الذين لم يتوجهوا إلى الشوارع، ليهتفوا للقوات الألمانية في اليوم الذي ضمت فيه النمسا. لم يتماش مع أولئك الجنود الذين يسيرون بخطوات الأبطال. كان تعلم من الخبرة أن يشعر بالشك تجاه الحماس الوطني“.
الأصل بالأسبانية
تتناول الليندي في الرواية، من خلال بطلها الطفل الصغير الناجي من الهولوكست، ما حدث لليهود بسبب النظام النازي، في الوقت عينه تبدو الكاتبة التشيلية متابعة جيدة لما يحدث حولها في العالم، إذ صرحت أخيراً في أحد حواراتها بأنها تخشى انفجار الوضع في الشرق الأوسط، بسبب ما تفعله إسرائيل من عمليات عسكرية مروعة في غزة.
يتابع القارئ قصة صاموئيل حتى يصل إلى سن البلوغ، ثم انتقاله إلى الولايات المتحدة، وتأثير موهبته الموسيقية في الحياة التي بناها لنفسه. ومن الشخصيات المهمة التي تضمها الرواية، سيلينا، وهي محامية مختصة بشؤون المهاجرين، وتسعى إلى العثور على والدة آنيتا. وهناك ليتيسيا، وهي امرأة تنتمي لأسرة من أصول مهاجرة من أميركا الوسطى، وتعمل على الحفاظ على تراثها الثقافي. كانت ليتيسيا في السابعة من عمرها عندما فقدت كل أفراد عائلتها، باستثناء والدها، وذلك في مذبحة الموزوتي في عام 1981. فرت ليتيسيا ووالدها من السلفادور، عبروا نهر الجراندي للدخول إلى أميركا، إذ أقاموا طوال حياتهم.
يتجسد استخدام الليندي للغة وصفية حيوية ودقيقة، في قدرتها على نقل الحقائق العاطفية العميقة، إنها عناصر أساسية في أسلوبها السردي. كما أنها تمزج بين التاريخي والخيالي بسلاسة، لذا يبدو التناوب بين قصة أنيتا وصاموئيل مشوقاً ومحافظاً على متانة السرد، خصوصاً في التوازيات الحياتية التي تحصل بينهما. تقول: “كانت الطبيبة النفسية حذرت ليتيسيا وصاموئيل بأنه على رغم أن آنيتا، بدأت في قبول ما حدث وكانت مستعدة للمودة التي يقدمانها لها، فإنه سيكون من الصعب جداً عليها التغلب على خوفها من التخلي، لأنها مرت بعديد من الخسائر مبكراً في سن صغيرة. ومع ذلك، كان وصاموئيل أكثر تفاؤلاً، لأن الفتاة كانت تقضي ساعات على البيانو، غارقة في النغمات، وكان يعرف أفضل من أي شخص آخر قوة الموسيقى. فقد خففت من مرارة طفولته، وإحساسه بعدم اليقين، كما أعطت معنى لوجوده. لذا كان يأمل أن تفعل الموسيقى الشيء نفسه مع آنيتا“.
تحضر في الرواية، مشاهد وصفية ملهمة، من الطبيعة الزاهية في السلفادور إلى شوارع لندن الباردة والضبابية، هذا الوصف للأماكن يبدو في بعض المشاهد متحداً مع مشاعر الأبطال، وفي مشاهد أخرى يأتي مناقضاً، بل منقذاً للقارئ من قتامة الأحداث وسوداويتها.
تجارب اللجوء
تقدم الرواية مجموعة متنوعة من الشخصيات التي تجسد مختلف الثقافات والخلفيات، في شمولية وتنوع ثقافي يحضر في معظم روايات الليندي الأخيرة، مثل “العاشق الياباني” و”ما بعد الشتاء”، وربما هذا مرجعه لتأثرها بالحياة في أميركا، التي سمحت لها بالاطلاع والتواصل مع هويات متعددة، هذا إلى جانب أنها أنشأت مؤسسة لرعاية النساء ضحيات العنف والتهجير.
وفي “الريح تعرف اسمي”، تواجه كل شخصية تحديات فردية، تعكس القضايا الأوسع التي تتناولها الرواية، كالنزوح وأزمة الهوية والمصير المجهول. تغوص اللندي عميقاً في تجارب أبطالها وحكاياتهم، وقدرتهم على تخطي الصعاب، بمزيج من القوة والإرادة التي تتجاوز الحواجز الثقافية والتاريخية والجغرافية.
لا تكتفي الليندي بسرد الأحداث، بل تغوص عميقاً في الآثار العاطفية والنفسية للفراق. قصة أنيتا بالغة الأهمية في مناخنا السياسي الحالي، في زمن تتضاعف فيه أعداد المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، الذين ينتظرون دورهم أمام بوابات مراكز اللجوء. تبرز الرواية الواقع القاسي الذي يواجهه عديد من الأطفال المهاجرين، وتنتقد سياسات الهجرة المعاصرة، وآثارها المدمرة في العائلات، من خلال رحلة أنيتا عبر نظام الهجرة، وكفاحها للحفاظ على الأمل، ونضالها من أجل إعادة الانضمام إلى والدتها، كل هذا يكشف عن الظروف القاسية، التي تتعرض لها بسبب اللامبالاة والبيروقراطية.
ومع تقدم السرد، نتابع آنيتا وليتيسيا وصاموئيل حيث تتلاقى قصصهم، ثلاث حيوات، تتأثر بظروف متشابهة، على مدى عقود. يتأثرون ببعضهم بعضاً، في رحلة مشتركة ومحاولة للشفاء النفسي.
الترجمة بالانجليزية
تصور الرواية أيضاً الخسائر الشخصية العميقة التي غالباً ما تغفل عنها السرديات الكبرى للتاريخ، كما تتعمق في موضوع الهوية، تكافح الشخصيات الرئيسة في العمل للحفاظ على تراثها الثقافي، على رغم المحاولة المستمرة للتكيف مع بيئات جديدة، تضمر العداء، ولا ترحب بالغرباء، القادمين من العالم الثالث. تظهر الليندي في هذا العمل الطبقات التحتية المعقدة لتجارب اللاجئين، واختبار الإنسانية والتحديات التي يواجهونها، ففي قصة صاموئيل، التي تجري خلال فترة مظلمة من التاريخ الأوروبي، تقدم الكاتبة عبرها تأملاً تاريخياً في معنى تشظي الهوية، والاغتراب. تجسد قصة صاموئيل أيضاً الطرق المختلفة للتكيف مع الحياة، التي تتنوع بين ظهور النماذج اللطيفة في حياته، وبين من يضمرون الكراهية للأجانب.
ولا تقل ألماً عن حكايته، رحلة آنيتا من بلدها، وخسارتها العاطفية وإحساسها بالغربة، حتى تجد بعض الشخصيات التي تدعمها، لنقرأ هذا الحوار: “تعلمين، يا ليتيسيا؟ أنت الشخص الأكثر فرحاً الذي قابلته في حياتي، كل شيء يمكن أن يمتعك، تطبخين وأنت تغنين، وتستخدمين المكنسة الكهربائية وكأنك تمشين على إيقاع رقصة الرومبا”. – “هكذا نحن السلفادوريون. في الماضي قيل إن السلفادور هو بلد الابتسامات، لكن أفترض أنه منذ الحرب الأهلية، لم يعد للابتسامة حضور بالقوة نفسها“.
استخدمت الكاتبة في هذا العمل، تقنيات سردية لم تستخدمها من قبل، إذ اعتمدت في معظم رواياتها على المضي في خط سردي واحد، مع راو عليم، في “الريح تعرف اسمي” تحضر نقلات زمنية، مع تنوع في الأصوات، واستخدام الراوي العليم.
تمزج الليندي بين العمق التاريخي، والكثافة العاطفية والفكرية، المشتبكة مع بصيرة ثقافية نافذة، أرادت من خلالها أن تنبه القراء إلى تأثير الحرب في الأرواح البريئة، وإلى خطر الصراعات المستمرة التي يواجهها المهاجرون واللاجئون، مما يجعل من نصها هذا حاملاً بشكله الأدبي مساهمة عميقة في الحوار الثقافي حول حقوق الإنسان والكرامة، وكأنها تشجع القراء على تعميق الفهم والتفاعل مع هذه القضايا العالمية الحيوية، في رواية مؤثرة تجمع بين الماضي والحاضر، وتدعو القراء إلى إدراك التأثيرات المستمرة للفراق والنزوح والاغتراب المكاني والنفسي، سواء في الماضي أم في اللحظة الآنية المعاصرة.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia