أحمد زين يكشف عن وجوه أنثوية في الحرب اليمنية

"رماية ليلية" رواية المرأة التي خاضت حربا طويلة من أجل البقاء

يضع الروائي اليمني زين في روايته الجديدة “رماية ليلية” الصادرة حديثاً عن “منشورات المتوسط”، الطاقة الأنثوية الباعثة على الحياة والمتمثلة في بطلتيه “فائزة” و”ليلى”، في مواجهة طاقة الذكورة المشعلة للحرب الدائرة في اليمن والمؤدية بالبطلتين إلى مآلات المنافي، والتي تضع كلاً منهما في مسار مختلف ظاهراً ومتشابه ضمناً في التشظي ذاتياً ومكانياً. وإذا كانت للحرب وجوه عدة عرفنا تفاصيل بعضها وغابت تفاصيل أخرى بين جثث الضحايا، فإن وجه الدمار الحاضر في حياة المرأة اليمنية يمثل عالماً كاملاً مخفياً، لأن المرأة تخوض حرباً طويلة من أجل البقاء والمحافظة على توازنها الذاتي في مواجهة نيران لا ترحم.

أقنعة الحرب

تجسد الحرب حالاً من الصراع، لكن المرأة لا تقف في المتن داخل هذا الصراع بل تشغل مساحة الهامش، بيد أنها في الوقت عينه رهينة امتزاج الهم الشخصي بالسياسي والذي أدى بها إلى مغادرة وطنها، ومحاولة إيجاد موطئ قدم في مدن أخرى، إنقاذاً لإنسانيتها المهددة بمزيد من التدهور، لذا يعتمد الكاتب في بعض مقاطع السرد على نقل مشاهد عادية من الحياة اليومية لبطلتيه، “فائزة” تبرد أظافرها و”ليلى” تتفرج على التلفزيون وتشاهد فيلم مديحة كامل “الصعود إلى الهاوية”، تأكل سلطة الفواكه لكن ذهنها منشغل، وتفكر إلى متى ستبقيان فارتين أو لاجئتين؟ بدت الاستعانة بكل هذه التفاصيل الواقعية مثل رموز الغرض منها التورية لتقديم الحاضر الآني، وما يحمله من تشظي مفرط لا يستثني أحداً، لأن التناحر والدمار سيدا الموقف.

وعلى مدار السرد هناك ارتباط قسري مع الوطن، يتجسد في الرصد المستمر لما يحدث هناك، سواء عبر قنوات التلفزيون أو عبر التقاط مفردات متناثرة من الوافدين الجدد، أو مناقشات “ليلى” و”فائزة” مع ياسين صديق الأخيرة.

تمثل “فائزة” التي تعمل في أحد الفنادق الفخمة شخصية الفتاة الجريئة والمتحررة، تعيش حياة حافلة بالغموض ربطت وجودها بعلاقة مع رجال يعملون في السياسة، جنرالات وأمراء حرب، يدعون الوطنية والشهامة، وفي داخلهم خواء مطلق وجبن وانتهازية. تتمكن “فائزة” من تعرية هذه الحقائق حول شخصياتهم، ويشكل اختفاؤها الغامض وجهاً آخر للحرب الصامتة التي يحملها أصحابها على أكتافهم أينما ذهبوا، أما “ليلى” المذيعة فهي تشكل النقيض لشخصية “فائزة”، وعلى رغم انتقالها للإقامة معها فإن المساحة المشتركة نفسياً بين الفتاتين جعلها الكاتب محدودة جداً وخالية من تعالقات الصداقة الوطيدة بين النساء.

                                                                      رماية ليلية

تنقل الرواية في تصوير مشهدي دقيق عالم كل منهما، “فائزة” المولعة بالثياب والعطور والحياة الباذخة، في مقابل “ليلى” التي تبدو متفرجة أكثر على ما يحدث حولها، يحركها دائماً إحساس بالتوجس والخوف، فهي تعرف أنها وحيدة وغريبة ومنفية خارج بلدها، لذا يبدو عالمها الداخلي أكثر احتداماً من واقعها الخارجي.

في مقابل هذه الكتلة السردية تحضر شخصية المجند الذي يسترجع حكايته متذكراً ومتأملاً في ماضيه وما حدث معه وله، حاملاً خطاباً سياسياً غير معني ببيان الجانب الأيدولوجي للحرب، بقدر حرصه على تقديم سردية الإنسان البسيط المتورط فيها، سواء كان جندياً كما هو الحال معه، أو أعزل مجرداً كما هو الحال مع شخصية المرأة القروية التي تقدم العون للثوار فتضيع حياتها.

يشتغل أحمد زين بدقة على تصوير المشهد السردي والصراع الدائر طوال الرواية، يحمل غلياناً داخلياً وغضباً لا يترجمه الكاتب إلى عنف مباشر، بل يقتطع لقطات بعينها للتركيز على الحدث المراد كشفه، ويعمل بالتوازي على تقشير الطبقات السطحية لأبطاله بغرض النفاذ إلى خباياهم والكشف عما يخفونه في جيوبهم النفسية. لنقرأ ما يقوله الجندي في مواجهته مع الآخر الذي قتله: “رأيتك يومها، ربما هكذا خيل لي، تغالب قواك التي خارت دفعة واحدة كي تفتح فمك، فهل رغبت في قول شيء لي، في وسعي التذكر أن نظراتي توقفت عند شفتيك الجافتين وهما ترتخيان ببطء، هل تكون شعرت بالعطش ومنيت نفسك بجرعة ماء؟ لعلك أدركت قبلي أن الذهاب إلى الحرب قد لا يعني شيئاً سوى تحقيق غاية واحدة، وضع حد لحياة شخص آخر”.

مغامرة خطرة

بدت المهن التي اختارها الكاتب لبطلتيه “فائزة” و”ليلى” سبيلاً إلى تورطهما بالمعرفة والقدرة على كشف الزيف. تعمل “فائزة” في فندق فخم يتردد عليه أدعياء نهبوا ثروات الوطن وهم يتشدقون بالوطنية، أما “ليلى” المذيعة فترى أن صوتها يعطي النازحين الذين دمرت بيوتهم أملاً ولو صغيراً بالعيش، أو وعداً ببلاد تنهض من تحت الأنقاض، لذا تواصل عملها على رغم أنها تشاهد وتسمع كيف يتحدث مدعو الثورة عن وطنهم، وتعرف أن وجودهم قائم على التعصب ورفض الآخر، مما سيغذي باستمرار واقع الحرب المستمرة.

                 الروائي أحمد زين

لنقرأ، “ليس في مرمى بصرها ما يتكلفونه من تصرفات غبية بداعي البروتوكول. ترى فقط أشخاصاً يتعثرون في برك الدم. في أجساد بلا أطراف. يتراءى لها قادة انسحبوا وتركوا خلفهم رايات منكسة ومعارك بلا محاربين، وساحات تنعق فيها جوارح هرمة، وتحدق في أعماق نفسها فلا تلمح سوى صورة باهتة لشيوخ القبائل، كأنما في رقصة طويلة، لكن بلا طبول أو وحتى راقص واحد، وسيتعين عليهم أن يكونوا هم الطبالين والراقصين معاً، تعاني كثيراً بينما تفكر في كيفية تجعلها تستوعب كل ما تراه، في فقرة طويلة ضمن برنامجها الأسبوعي، كما أمر المدير المسافر أبداً… تحكي لـ “فائزة”، ما إن تعود عن حفلة الاستقبال لفارين جدد، عن كلمات فضفاضة سمعتها غير مرة حول بسالة مقاومين، وعن قرب تحرير صنعاء”.

“فائزة” بدورها تعرف أنها تغامر في اللعب مع أشخاص نافذين، لكنها ترى أن ما تفعله هو الانتقام بعينه من كل هؤلاء القتلة والمتاجرين بالوطن، و”ليلى” تدرك أن شيئا خطراً تفعله “فائزة”، لكنها تأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تتكشف لها التفاصيل.

هم مجرد قطيع من الأكباش محشور في مجرى ضيق، على هذه الهيئة تراهم “فائزة”، وتمضي قائلة إنها تستدرج ذلك القطيع على مهل، “كانت ستعيش مطمئنة بعيداً من الثأر منهم، هي لا تهب نفسها لأحد وإنما تتركهم يدورون في محيطها الجاذب”.

تظهر في الرواية شخصيات نسائية أخرى مثل “سلوى” التي تلتقيها “ليلى” في إحدى الندوات حين تنتقل إلى القاهرة، وتدرك سريعاً الشبهات التي تحوم حولها، فـ “سلوى” التي تدخن وتشرب الكحول قيل إنها عملت يوماً لمصلحة الزينبيات، إحدى ميليشيات السلطة الجديدة، فما الذي تفعله الحرب سوى جعل النساء يتخبطن ضائعات ويبحثن عن أية وسيلة للاستقرار؟ يغيب الحب عن عالم النساء في الرواية، بل يبدو ممزقاً إلى أشلاء متناثرة لا سبيل إلى جمعها، وعلى رغم تمكن الكاتب من تقديم ذوات نسوية معبرة عن داخلها بدقة، فإن ثمة حالاً من التوجس تظل مهيمنة على العلاقات بين المرأة والرجل الذي شوهته الحرب، كما نرى في علاقة “ليلى” مع نادر أو في إخفاقات “فائزة” في عيش علاقة حب مستقرة، وكذلك “سلوى”، وعلى رغم ذلك تبرز الرواية قدرة النساء على البقاء والاستمرار وسط الفوضى والعنف اللذين يحيطان بهن.

حيل سردية

يستطيع قارئ “رماية ليلية” ملاحظة البنية السردية المتناوبة بين سردية “ليلى” وعالمها المتنوع بين الرياض والقاهرة، وسردية الجندي وخطابه المبهم الموجه إلى شخص آخر تقاطع مصيره معه في الحرب، ويمكن التوقف أمام التنويعات الدلالية للغة التي يعتمد عليها أحمد زين في معظم رواياته، إذ على رغم التكثيف اللغوي والاقتصاد في الوصف واقتصاره على أماكن محددة واعتماده على حوارات مختزلة، إلا أن خصوصية سرده تتحقق في المواءمة بين اللغة والأسلوب، وفي هذا العمل يعتمد على أساليب سردية عدة بين استخدام المخاطب وتيار الوعي حين يتحدث الجندي، والراوي العليم والمونولوغ الداخلي والتداعي مع “ليلى” و”فائزة”، ومن ضمن الحيل السردية التي استعان بها الكاتب وتتضح قرب نهاية النص، وجود المقاتل داخل مستشفى في القاهرة، واقتراح الطبيب عليه أن يكتب رسالة إلى ضحيته، مما أعطى مبرراً لاستخدام ضمير المخاطب والمتكلم في سرد المجند، كأن يقول “أتخالها مرّتي الأولى التي أولّي فيها هارباً تاركاً إياك ميتاً، بطريقة قطعاً لم ترغبها لنفسك؟”.

أما العنوان فإنه يأتي من محاولة معرفة حقيقة تلك “التدريبات الليلية على الرماية التي سقط فيها العشرات من دون أن يعلم أحد كيف حدث ذلك”، وانطلاقاً من هذا الفخ أو التمويه الغامض بأن “القصد من ورائها إبقاء المحاربين في ذروة استعدادهم”، تتلاشى الوقائع في سخرية مريرة من تلك المصائر المفجعة التي تعري وجوه الحرب الدامية.

يذكر أن أحمد زين من أبرز الأسماء الروائية في اليمن والعالم العربي، وقد صدرت له خمس روايات هي “تصحيح وضع” و”قهوة أميركية” و”حرب تحت الجلد” و “ستيمر بوينت” و”فاكهة للغربان”، ويعمل منذ أعوام في الصحافة الثقافية ويقيم في الرياض.

لنا عبد الرحمن

independentarabia

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى