الطاهر بن جلون يروي صراع الحب والخيانة في ظل الزواج

"عشاق كازابلانكا" تكشف انحدار الحياة البرجوازية من الداخل

لوحة للطاهر بن جلون من وحي المغرب

يظهر الروائي المغربي الفرنكفوني الطاهر بن جلون في روايته “عشاق كازابلانكا” (ترجمة أنطوان سركيس، دا رالساقي) تشابك المشاعر الإنسانية وتعقيدات العلاقات الزوجية وتحولاتها، وكأن الرواية تقدم تساؤلها الخفي عن حقيقة الزواج، وإن كانت الصورة المؤسسية لهذه العلاقة هي التي تؤدي إلى انحدارها نحو هاوية الفراق.

وعبر قصة معاصرة تدور أحداثها في الدار البيضاء تتكشف أوجه الحب والطموح والتحديات الزوجية داخل الطبقة البرجوازية في المجتمع المغربي. وتتمحور القصة حول الزوج نبيل الطبيب المولع بالقراءة والسينما والفن، وزوجته لميا الصيدلانية الطموحة صاحبة التطلعات المادية الكبيرة، التي تتمكن من تحقيقها بتفوق.

ويظهر الزوج الطبيب نبيل متفانياً في عمله ومحباً للحياة العائلية ومستعداً لتقديم التضحيات من أجل استقرار أسرته. ويتميز بشخصية هادئة ومتزنة تميل إلى التقليدية على رغم ادعائه العكس. أما الزوجة لميا فإنها تجسد الطموح والرغبة في النجاح إذ تتطور شخصيتها من فتاة حالمة إلى امرأة قوية ومستقلة تنشئ مصنعاً للأدوية وصيدلية مما يعكس قوتها وإصرارها، ويظهر الجانب الآخر من شخصيتها في رغبتها الباحثة عن السعادة الشخصية بعيداً من الحياة الرتيبة.

يبدع بن جلون في إيصال التناقضات الداخلية للشخصيتين عبر التعرف على نفسيهما في صراعاتهما وأحلامهما من خلال تقنية تعدد الأصوات السردية، مما أضفى بعداً إضافياً للأحداث التي تروى من وجهة نظر نبيل ثم لميا، مما يتيح فهم تعقيدات العلاقات الإنسانية في نظرة أعمق.

وبدأ الكاتب باستخدام صوت الراوي العليم الذي يقدم للقارئ نظرة شاملة عن حياة الزوجين مسلطاً الضوء على الخلفيات الاجتماعية والنفسية لكل منهما، ثم انتقل إلى صوت الزوج الذي يعبر عن حبه لزوجته وكذلك لحظات ضعفه التي كان على وشك أن يخوض فيها مغامرات عاطفية لم تكتمل، ثم صدمته في طلبها الطلاق والمجاهرة بالعلاقة مع آخر. وبعد ذلك يأتي دور الزوجة لتتحدث عن نفسها وتعبر عن دوافعها ورغباتها وطموحاتها المهنية ونجاحاتها، وكذلك عن شعورها بالفراغ وعدم الاستمتاع بالحياة الزوجية.

وتتميز الرواية بواقعية السرد إذ يعتمد الكاتب على وصف دقيق للحياة اليومية، والتفاصيل التي تعكس واقع الطبقة البرجوازية في المدن الكبرى، مثل باريس والدار البيضاء، من خلال استخدام لغة سردية بسيطة ومباشرة وبعيدة من التكلف، مما يجعل الحوار والأحداث تبدو طبيعية وعفوية.

صدمات حقيقية

ويثير الكاتب تساؤلات حول واقعية القرارات والتصرفات التي تتخذها الشخصيات في الرواية، حين تقرر الزوجة بعد سبعة أعوام زواجاً وإنجابها طفلين الانفصال بسبب علاقة غرامية. وتبدو القرارات التي تتخذها الشخصيات مثل الانفصال عبر الطلاق الدامي أو العودة إلى التواصل مع الماضي منطقية في إطار الفكرة الرئيسة، وهي التساؤل عما يعزز الحب أو ينهيه.

وتعالج الرواية تيمات متعددة مثل الحب والطموح والاستقلالية والبحث عن السعادة، وتقدم قصة الزوجة التي تبحث عن حب جديد نقداً للزواج التقليدي وتحدياً للمفاهيم الاجتماعية، ومن خلال تطور الشخصيات والأحداث تهدم الرواية الأفكار النمطية عن الحب والسعادة الشخصية مع تساؤل متكرر إن كان الحب يرتبط بالنجاح المهني أم بفقدان شجاعة الصراحة والمواجهة، أم بعدم القدرة على ترميم الشروخ التي تتسع وتصل إلى صدع عميق يشرخ العلاقة إلى نصفين! أم أن الرواية تعمد إلى التذكير بأن البحث عن السعادة في العلاقة الزوجية يعني رحلة معقدة ومليئة بالتحديات وتحتاج إلى جهد كبير من الطرفين.

عشاق كازابلانكا – غلاف

ومن المهم جداً التوقف أمام المقارنات الاجتماعية التي يقدمها بن جلون حول العلاقة بين الرجل والمرأة في المغرب. ففي العقود الماضية كانت القيم الاجتماعية والتقاليد الثقافية تفرض على المرأة دوراً محدوداً في الأسرة والمجتمع، وكان معظم النساء يعتمد على الرجال مالياً وكان دورهن الأساس يتمحور حول رعاية المنزل والأطفال، ولم تكن الفرص المتاحة لتحقيق طموحاتهن المهنية والشخصية كبيرة، وكانت قرارات مثل الانفصال والطلاق تعد من المحرمات الاجتماعية وتلقى معارضة شديدة من الأسرة والمجتمع.

لكن كل هذا بدا مختلفاً مع تطور المجتمع وتقدم حقوق المرأة، فبدأت تتغير هذه الديناميكيات بصورة جذرية. إذ أصبح الخطاب الموجه إلى النساء يتيح لهن الدخول بقوة إلى سوق العمل في مختلف المجالات المهنية. وهذا الاستقلال المالي أعطى النساء قوة لاتخاذ قرارات مصيرية في شأن حياتهن الشخصية من دون خوف من العواقب المالية أو الاجتماعية، مما جعل المرأة أكثر جرأة في التعبير عن رغباتها وحقوقها. فهي الآن قادرة على المطالبة بالمساواة في العلاقات الزوجية واتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بمستقبلها الشخصي والمادي، وامتلاكها القدرة على بناء مسارات مهنية ناجحة وامتلاك مشاريع خاصة مثل إنشاء مصنع للأدوية أو إدارة صيدلية، كما هي حال لميا بطلة الرواية التي تجسد دوراً غير تقليدي يتحدى النمط السائد ويعكس التغير الكبير في أدوار النساء المعاصرات. لكن يظل السؤال أيضاً هل تمثل لميا نسبة كبيرة من النساء في المغرب؟

لنقرأ “الطلاق كان رهيباً بسبب المحامين، لم أكن أريد بلوغ هذه النهايات. وكنت أريد الانفصال فحسب عن الرجل الذي خنته وأشقيته. وكنت أظن أن دانيال سيعود إلى ويتزوجني. كان حنوناً وحريصاً لكنها كانت مجرد مظاهر، كان يدعي الفرح والسعادة لكن وحده الجنس يثير اهتمامه”.

الرواية بالأصل الفرنسي

وفي الوقت عينه يصور الزوج في الرواية كشخصية معقدة تحمل في طياتها تناقضات عديدة. وعلى رغم تفانيه في عمله كطبيب وحبه العميق لعائلته يظهر أنه كان على وشك خوض مغامرات عاطفية خلال فترة زواجه. تلميحات صغيرة هنا وهناك تكشف عن لحظات ضعف وانجذاب عاطفي تجاه نساء أخريات، وهذا الجانب من شخصيته يعكس الصراع الداخلي الذي يعانيه بين رغباته وواجباته الزوجية، مما يضيف عمقاً وتوتراً إلى تطور الأحداث في الرواية. وهذا التوتر المتصاعد يمهد الأرضية للانفصال الذي تطلبه الزوجة، ويضع الزوج في موقف حرج يضطره إلى مواجهة حقائق مشاعره وتصرفاته الماضية.

والاختلافات بين الزوجين تعد جزءاً محورياً في تطور الأحداث الدرامية للرواية، إذ تبرز تباين اهتماماتهما بوضوح، إذ يجد نبيل في الأدب ملاذه الفكري والعاطفي وتعد القراءة جزءاً لا يتجزأ من هويته وشخصيته. وفي المقابل لا تشاركه لميا هذا الشغف إذ تفضل الانشغال بأعمالها ومشاريعها التجارية، وتعد القراءة أمراً ثانوياً لا يستحق الاهتمام عندها. وهذا التباين في الاهتمامات يخلق بينهما فجوة ثقافية وفكرية تسهم في تصاعد التوتر وتزيد من الشعور بعدم التوافق العاطفي.

تناقضات نفسية

وبعد انفصالها عن نبيل وزواجها من رجل آخر وزواج نبيل من سكرتيرته سعيدة، تقرر لميا إعادة التواصل معه في خطوة عكست غرابة الطبيعة الإنسانية وتعقيداتها، وعلى رغم الاستقرار والهدوء الذي تعيشه مع زوجها علي تحس لميا بضرورة استرجاع جزء من ماضيها، كأنما تبحث عن توازن أو تسوية داخلية. حتى أن دعوتها نبيل لزيارتها في بيتهما القديم الذي شهد أعوام حبهما وبناء حياتهما المشتركة بدت خطوة جريئة وغير متوقعة. وعند وصول نبيل وجد نفسه يستعيد الذكريات ويتجول ويتجدد شعوره بالتناقض بين الماضي والحاضر. هذه اللحظة تكشف عن تناقضات النفس الإنسانية إذ يمكن للحب القديم أن يعود للظهور بغض النظر عن الظروف الجديدة. وتجسد هذه الدعوة رغبة الإنسان في مواجهة ماضيه والاعتراف بجوانب متعددة من شخصيته، مؤكداً أن العلاقات الإنسانية معقدة ولا يمكن التنبؤ بتطوراتها بسهولة. إنها تذكير بأن المشاعر والذكريات قد تظل نابضة بالحياة وأن البشر يميلون أحياناً إلى العودة إلى الجذور، حتى وإن مضوا قدماً في حياتهم. وتقول لميا “أفكر في زوجي السابق وأشعر بالغيرة من حياته الجديدة. لا أحتمل أن يمنح لأخرى ما هو حق لي. وأشعر بالغيرة من كل شيء، من وقت يكرسه لزوجته الجديدة ومن الرحلات التي يقومان بها ومن الأفلام التي يشاهدانها معاً. وهذا يتسبب لي بالمرض ولم أعد أحتمل نفسي”.

وفي لحظة المواجهة بين الزوجين بعد انفصالهما وبدء كل منهما حياة أخرى، يجتمعان وجهاً لوجه وتتلاقى نظراتهما بصورة مؤلمة تذكرهما بالذكريات الجميلة التي عاشاها معاً، والتي باتت مجرد أشلاء من الماضي.

وتبدأ المواجهة بصمت ثم تتحول إلى كلام يعبر عن حيرة كل منهما، وعلى رغم الالتباسات والصعوبات التي واجهتهما يدركان في هذه اللحظة أنهما ما زالا يحملان مشاعر قوية تجاه بعضهما بعضاً. واختار الطاهر بن جلون نهاية غامضة ومفتوحة كما هي الحياة التي لا يمكن الجزم بتحولاتها. لنقرأ “هذا الحب يأبى أن ينطفئ. أحب سعيدة، لكن الرغبة في لقاء لميا كانت أقوى. خفق قلبي لفكرة لقائها، فكنت كالمراهق الذي يذهب لموعده الغرامي الأول. هذه المرأة تمتلكني وتصنع مني ما تريد… غريب كيف أن هذا الحب المحرم يضرم النار في روحي وفي جسدي”. أما لميا فتجيبه قائلة “هذا بتأثير السرية. أجدك عشيقاً أفضل منك زوجاً. هواء هذا الصباح منعش والسماء صافية وسعادتنا تستريح في هذا الكوخ، إذ نجد أنفسنا في أفضل حال رغم الرطوبة والبرد”.

لنا عبد الرحمن

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى