5 أصدقاء يبحثون عن الوهم
على رغم اختيار الكاتب محمد إسماعيل عمر، لروايته “ورثة قارون”، دار العين، إطاراً واقعياً للسرد، فإن ظلال أدب العالم المفقود حاضرة فيها، إذ التركيز على اكتشاف عوالم خفية أو حضارات مجهولة، تحوي أسراراً قديمة، أو كنوزاً مدفونة، ويتميز السرد هنا بمزيج من الخيال، المغامرة، وأحياناً العلم الزائف. من ضمن الروايات التي تنتمي لهذا النوع، “كنوز الملك سليمان”، للكاتب هنري رايدر هاغارد، أيضاً “جزيرة الكنز”، لروبرت لويس ستيفنسون، التي تعد واحدة من أشهر الروايات التي تتناول فكرة البحث عن الكنز، ورواية “الخيميائي” لباولو كويلو، وتحكي عن راعٍ إسباني يدعى سانتياغو، يسافر إلى مصر للبحث عن كنز مدفون في الأهرام.
في “ورثة قارون”، تتقاطع المغامرة والتحليل النفسي، في عالم تتشابك فيه العلاقات الإنسانية والنوازع النفسية المعقدة، مع أسطورة قصر التيه التي تشكل نواة الرواية، وكان من الممكن أن تحمل عنوانها. يلتقي خمسة من الأصدقاء، ويتفقون على المضي في رحلة بحث عن كنز مدفون تحت أحد البيوت، قرب بحيرة قارون في مدينة الفيوم.
لا يمكن إغفال عتبة النص، حين يلفت الكاتب انتباه القارئ عبر إهداء يحمل دلالات متعددة، قائلاً “إلى السادة المتحلقين معي حول البحيرة، يحدونا الكنز ويثقلنا الإرث”. هذه الكلمات ليست مجرد افتتاحية بل هي مدخل راسخ للنفاذ إلى متن الرواية، التي تتناول تقاطع الإرث المادي والمعنوي، مع مسارات الحياة المختلفة، وانعكاس كل هذا على القيم والقناعات الذاتية التي تحملها الشخصيات الرئيسة: نجلاء، باسم، صبري، شيري، وخالد، الذين تلتقي مصائرهم في رحلة تنقيب مجهولة، يضعون فيها آمالاً عالية، كل منهم يتعلق بها للنهوض من كبوته.
الكنز والإرث
تبدأ الأحداث مع الشخصية المحورية نجلاء، ويمكن اعتبارها مالكة مفتاح الدخول للباب الأول. تعود نجلاء من الإمارات، وتقع تحت تأثير عمتيها، اللتين تريدان منها أن تشتري بيت العائلة بسعر مبالغ فيه، بحجة أن تحته كنزاً فرعونياً.
تقول: “أخبرتاني أن الفيوم مثل محافظات أخرى ينقب أهلها تحت منازلهم، ومنهم من يجد ما يستحق البيع بالملايين. الرهان على المنزل البكر يزيد من سعره بعكس المحفور من قبل الذي يباع بسعر الدور العادية. تقلقني جداً قصة الآثار تلك، أخبرتني عمتي أن البيت قريب من البركة ومن قصر قارون يعني تحته الكثير”.
تلجأ نجلاء إلى خالد، الذي تربطها به منذ أيام الشباب، عاطفة غير مشبعة، هي تعرفه جيداً لذا تثق به، وتقول إن خشيته من الناس أكثر من خشيته من الله. ورث خالد الشركة التي يعمل فيها عن والده، وأصبح مديرها، تزوج وأنجب خمس بنات، ثم ولداً كي يكون وريثه. يمضي خالد في مسار حياة تقليدية رتيبة، لم يختر فيها إلا ملابسه وهاتفه وعطره، يقول: “أراني كراكب دراجة ذات ثلاث عجلات، آمنة جداً ومملة كحياة النساك… حلاوة الحفر أنه مشروعي أنا، لم أرثه كغيره، وبقدر السعد تأتي المشقة، كما أكد لي باسم أن أعمال التنقيب لن تحتاج إلى أعوام، بل أشهر، لأننا نحفر في مساحة منزل محدود”.
تؤدي الصدفة دورها كي تجمع من جديد، خالد مع زملاء الدراسة، باسم الذي كان يعمل مرشداً سياحياً، تدهور حاله بعد قيام ثورة يناير 2011، وصبري الذي يعمل نادلاً في أحد المطاعم الإيطالية، لأنه لم يتمكن من الحصول سوى على شهادة معهد، بسبب ضيق حال أسرته، ثم شيري التي تنضم إلى الأصدقاء القدامى عبر نجلاء، على رغم ما تحمله من حقد دفين نحو نجلاء، الصديقة الثرية والمحظوظة، التي كانت تمضي في بيتها أشهراً خلال أيام الدراسة.
يحمل كل بطل من شخوص الرواية في داخله دافعا قويا للموافقة على اقتراح نجلاء، في تمويل رحلة البحث عن الكنز، باسم بسبب إخفاق عمله بالسياحة والجشع والطموح الزائد في داخله، صبري لأنه يحلم بالسفر والخلاص من فقره، خالد بسبب رغبته في تحقيق نصر فردي، وشيري لأنها تمثل نموذجاً انتهازياً، كما أنها متعثرة في خطواتها العملية، بعد أن كانت تمتلك مركزاً للغطس في شرم الشيخ، تعطل العمل فيه بسبب وباء كورونا، ثم حرب أوكرانيا. هذا إلى جانب الدافع الأنثوي العميق المتمثل في غيرتها القديمة من نجلاء. تقول شيري: “شغلتني فكرة البحث عن كنز يمكنني المشاركة فيه. رأسي برأس نجلاء وخالد، مغامرة قد تفتح مغارة علي بابا”.
تمضي الرواية في مسارات متشعبة، وحبكة مشوقة تتجاوز رحلة البحث عن كنز قارون، إلى رحلة استكشاف داخلي للمتاهة الذاتية لكل منهم. اختار الكاتب أن يعطي صوتاً للأبطال الخمسة للبوح عن ماضيهم وحاضرهم، دوافعهم وصراعاتهم ورؤيتهم لبعضهم بعضاً، التي تكشف كثير من بواطنهم. مثلاً يعبر صبري عن مشاعره قائلا: ” القلق من شيري ما زال قائماً، فأنا لا أرتاح لتلك المرأة. الحق أقول ليست هي وحدها من يقلقني على نجلاء، لا أحسب باسم جاداً أو شخصاً مسؤولاً، قد يمل العمل أو تأتيه حفلة في بيته فيترك لها المنزل محفوراً ويختفي.. أنا الوحيد المحتاج، نجلاء قادمة من دبي، خالد وريث شركات والده، شيري تملك مركز غطس، باسم يملك فيلا تدر عليه مالاً. لا يحتاج أي منهم قرشاً بينما أنا في حاجة للكثير”.
بين الأسطورة والحقيقة
يدمج الكاتب رؤى متعددة حول فكرة الكنز، تتنوع بين التاريخ والموروث الشعبي والأسطوري والقناعات الدينية، لتؤلف فيما بينها هالة راسخة حول كل ما يأتي من الماضي، فالكنز الموجود تحت الأرض عليه راصد من الجان، وهذا الراصد يحتاج إلى شيخ ثقيل يأخذ مالاً سخياً لفكه. أما بحيرة قارون فاسمها الأصلي “بحيرة البارون” أي البحيرة الكبيرة، ولم يتم تحريف اسمها إلا بعد الفتوحات العربية لمصر. ويأتي ذكر قارون في العهد القديم، تحت اسم قورح، وكان من أثرياء بني إسرائيل، الذين خرجوا من سيناء ثم تمرد ضد موسى وهارون، فانشقت الأرض وابتلعته هو وقصره وثروته. كل هذا إلى جانب وجود عرافة تقول لباسم إنه سيكون على قمة الشهرة قبل بلوغه الـ50.
بالتوازي مع الجانب الأسطوري، يتوقف إسماعيل عند أحداث مفرقية، تركت أثرها في الواقع المصري، مثل نكسة 1967، وثورة يناير. يحكي الأبطال عن تأثر حياتهم بهذين الحدثين، واستمرار أثرهما لسنوات طويلة لاحقة.
اتسم أسلوب محمد إسماعيل عمر بالسلاسة والوضوح، وبعض ملامح السخرية اللطيفة في الحوارات بين الأبطال التي تظهر اختلافاتهم، مع اختياره نهاية غير متوقعة، لكنها منسجمة مع المسار الواقعي والنفسي لشخوصه. ربما ما عاز الرواية حقاً، كونها رواية شخصيات، هو خصوصية البصمة الذاتية لكل شخصية، سواء في مستوى الوعي الداخلي، أو القلق الوجودي، أو في طريقة الكلام واختيار المفردات وحركات الجسد، بحيث تعطي فرادة تمكن القارئ من تمييزها بسهولة.
يمكننا بعد الانتهاء من الرواية العودة إلى الإهداء في عتبة النص، وإدراك الصلة التي يعنيها الكاتب بين مفهومي الكنز والإرث، إذ المسافة بينهما هي عينها بين الأمنيات والسراب، إذ ينطلق الأبطال باحثين عن أمنية، وينتهي بهم الحال مع وهم وكذبة.
حملت “ورثة قارون” دعوة للتوقف طويلاً أمام مفهوم الإرث المادي والمعنوي، مع سؤال ملح عن حقيقة صلابتنا في مواجهة اختبارات الحياة الأخلاقية، التي تكشف عن مدى الهشاشة والضعف داخل النفس الإنسانية، إذ القدرة على الخيانة والغدر تتم ببساطة، من دون تقديم مبررات مقنعة، فتبدو كجزء متأصل في الطبيعة الإنسانية، لا يستطيع التخلص منه إلا من يمتلك مستوى عالياً من الوعي بالذات والآخر، والإيمان بأن الحياة لا يمكن أن تقدم الكمال لأي إنسان.
د.لنا عبد الرحمن