المطبخ يغزو روايات عالمية وعربية بوصفاته ووقائعه

روائيون يؤدون دور الطهاة في الجمع بين الذاكرة والمخيلة

الروائي الفرنسي ألكسندر دوما والمطبخ (موقع الأدب والطبخ)

 

لا تبدو المسافة طويلة على الإطلاق بين المطبخ الواقعي والمطبخ الإبداعي، ففي كليهما ثمة غليان، وصفات سرية، وتوابل حقيقية ومتخيلة، ويدان تعملان، وعينان أشبه بكفتي ميزان، وجسد متوحد مع الحالة، وذهن يترقب النتائج، التي يطمح دائماً أن تكون مذهلة، كي ترضي طموح الكاتب والطاهي، مع اختلاف الأدوات بينهما. يلعب الكاتب بالكلمات والخيال، ويشكل فعل الطهو المبدع حالة تستدعي مخيلة تواقة للتجريب، عبر دمج مذاق جديد، وتجاور أنواع وألوان من الأطعمة والوصفات التي تبدو غريبة للوهلة الأولى، ثم تصير مألوفة في حال نالت إعجاب الذواقة.

العناصر الأربعة

لا يمكننا أن نغفل الدلالات الحضارية  على مدى التاريخ لفعل الطهو، وتطور آداب المائدة، منذ ظهور النار، إلى بداية تشكل الحضارات القديمة مثل الفرعونية والإغريقية والرومانية، وحضارات الهند والصين، والحضارة الإسلامية وما حدث خلالها من تفاعلات ثقافية كبيرة في المطبخ، بتأثير وصول الجواري من مختلف أنحاء الأرض، والمشاركة في صنع أطباقهن من البلدان التي أتين منها. ثم هناك الحضارة البيزنطية والعصر الوسيط، وصولاً إلى عصر النهضة، والتنوير، ثم عولمة الطعام التي نعيشها الآن.

إن أي مطبخ في العالم، ومنذ حياة الإنسان في الكهوف والمغارات، وصولاً إلى المطابخ الحديثة، بكل ما فيها من أدوات كهربائية متطورة، تحتوي أربعة من عناصر الوجود الأساسية، لا غنى عنها: الماء والهواء والتراب والنار. لا يوجد مطبخ سواء كان في البرية بجانب خيمة مرتجلة، أو في قصر منيف، يخلو من تفاعل هذه العناصر ليقدم منتجاته إلى المائدة، فيقوم الإنسان بتجهيز ما يحتاج إليه من طعام، لإشباع حاجة بيولوجية أساسية بعد التنفس. بيد أن هذه الحاجة تحولت بمرور الوقت، مثل حاجات كثيرة أخرى إلى نوع من المتعة، وصار إعدادها يرقى إلى الفن، وإلا ما كنا وجدنا قائمة طويلة من عناوين الروايات التي تتحدث عن الطهو والطعام، وما بينهما من حالات تفرد لها صفحات من الوصف الوهاج، ليحكي عن ملذات التذوق، وما كنا وجدنا قنوات فضائية خصصت لتصوير برامج عن الموائد، وما يميد عليها من أطياب.

يستكشف فعل الطهو الطبقات الخفية من التجربة الإنسانية الفريدة، للكائن الوحيد على هذا الكوكب الذي يقوم بطهو طعامه. وتأتي الكتابة كي تلقي الضوء النافذ، وتقوم بتحليل هذا الفعل، وما يتلوه من أحاسيس، يمتزج فيها تذوق مشاعر الناس من خلال الطعام الذي يعدونه.

في كتاب عزت القمحاوي “الطاهي يقتل، الكاتب ينتحر”، يشير الكاتب إلى العلاقة الجوهرية الممتدة بين العملين، عبر حكايات أصيلة وحساسة، تؤلف بين الذاتي والموضوعي، وتصف الشبق العارم نحو الحياة والكتابة، لأن الحدس كما يرى القمحاوي: “هو مرشدنا إلى تناغم الشكل والمضمون، قبل الشروع في رواية أو طبخة، لكن المهم هو معرفة لحظة النضج في مطبخ الكاتب والطاهي. وهي لحظة رهيفة للغاية… الروائيون الأوفياء لحواسهم ينتبهون إلى أهمية الطبخ داخل نصوصهم، مستوى حضوره الأبسط يساعد في الإيهام بالتشابه بين الرواية والواقع، والدور الأعمق والأهم للطبخ في الرواية يتمثل في طاقته السردية، عندما يكون عاملاً مهماً في بناء الحدث والشخصية”.

في رواية “الطاهي الذي أكل قلبه”، للكاتب الفلسطيني محمد جبعتي، تقول الجدة لجمال بطل الرواية: “حبيبي، إذا شعرت بالحزن، فاطبخ ملوخية، إنها طبخة مبهجة، وإذا أغلقت الدنيا أبوابها أمامك، فاطبخ محشي كوسا وباذنجان، ستعلمك الصبر، وأن لكل بداية نهاية، وإذا شعرت بالحب تجاه أحدهم، فاصنع ورق العنب”. يمثل الطعام عند جبعتي، مراجعة للتاريخ والوعي والذاكرة، مع بطل الرواية، الطاهي الذي أصيب برصاصة في عينه، خلال مظاهرة ضد إعلان القدس عاصمة لإسرائيل. فقد جمال حاستي التذوق والشم، ليصير السؤال، كيف يتابع حياته كطاه محترف مع حواس معطوبة؟ كيف يمكنه أن يتذوق الطعام ويشم الروائح وهو عاجز؟

اللذة المفقودة

تقدم الكاتبة الفرنسية مورييل باربيري في روايتها “شراهة”، حكاية متذوق طعام عجوز يواجه الاحتضار، لكنه يقاوم الموت، عبر استعادة ذاكرة اللحظات الأصيلة التي شكلت شغفه بالطعام، لكن حسه الأصلي الرهيف طمس منذ زمن طويل، مع حصوله على الشهرة، ثم سعيه المستمر وراء الجديد والإثارة، مما أدى به إلى إضاعة إحساسه بالأصالة والعاطفة والحب، ليصبح شخصاً أنانياً ومتشائماً، مريراً ومتعباً من كل شيء.

يمضي البطل وراء تأملاته المتأخرة، ليقدم صفحات رائعة عن المتعة الذوقية، ضمن تجربة جسدية لا تزدهر تماماً، إلا في الانسجام التام لجميع الحواس والمشاعر، كي تدمج لحظات نادرة من غبطة تترك أثراً حلمياً مثل طيف في الذاكرة. إنها لحظات حقيقية من السعادة نقشت في الماضي، كما فعلت حلوى “المادلين” مع بروست في رائعته “البحث عن الزمن المفقود”. لنقرأ من الرواية: “إنها حياة كاملة متلاشية، ومجموع من النكهات والروائح المتناثرة التي ترسبت في طقوس الأجداد، وتجسدت في الأطباق المحلية. إنها بوتقة الذاكرة الوهمية، التي تريد أن تصنع من الرمل ذهباً، والخلود مع الزمن. لكن لا يوجد مطبخ عظيم، من دون تطور، من دون تآكل أو نسيان. لذا علينا إعادته باستمرار لطاولة العمل للتحضير، حيث الماضي والحاضر والمستقبل، هنا وفي أي مكان آخر، مزيج خام ومطبوخ، ومالح وحلو، أصبح الطبخ فناً ويمكنه الاستمرار في العيش”.

مائدة الطفولة

تستل الكاتبة والشاعرة الفلسطينية أحلام بشارات من فم وحش النسيان، ذكرياتها مع الطعام في كتابها “طعم فمي سيرة المذاق”. تغازل بشارات في كتابها، “طعوم الطفولة”، منذ حبات الرز إلى قطع الشوكولاته، تتساءل: “أين ذهبت أشهى شوكولاته في العالم.. سيلفانا؟”، تخوض مغامرتها في استرجاع ما أحبته من نكهات وهي على مقاعد الدراسة، لكنها تعترف أن الذاكرة انتقائية، لأنها تحفظ بعض الطعوم وتطمس أخرى.

تقول أحلام: “علينا أن نأكل ونحن نضحك، كي نحصل على الطعم الذي نريده، ثمة طعم لم تشمله قائمة الطعام الخمسة: الحلو والحامض والمالح والمر والأومامي، إنه الطعم الذي يأتي منا نحن، من داخل كل واحد فينا”. الكتاب يستكشف مناطق شائكة في العلاقة مع الطعام والجوع والحزن، إذ كل نكهة ترتبط بحالة شعورية تعبر عن التجربة الإنسانية. هذا البحث عن المذاق الداخلي المميز ليس فقط شغفاً شخصياً، بل هو أيضاً مسعى أدبي، سعت إليه الكاتبة من خلال دلالات الكتابة والطعام، وإضفاء لمستها الإبداعية على كل منهما.

استعادة الحب

يتحول الطعام في عدد من الأعمال الأدبية، من كونه وسيلة أساسية لمواصلة الحياة، إلى رمز يعبر عن العاطفة والتواصل عن الحزن والبهجة، وكيف يمكن  الفعل اليومي العادي، المتمثل في تناول الوجبات الثلاث، أن يتحول إلى حالة حسية خفية ومركبة، تكشف عن العالم النفسي والداخلي للأبطال.

ومن الشرق إلى الغرب، يبدو ارتباط الأحاسيس بالطعام جوهراً مشتركاً في كل الثقافات الإنسانية، يعبر عن حالات الأبطال ويصقل معاناتهم، خلال القيام بمزج الدقيق لإعداد كعكة، تفوح رائحة خبزها في أرجاء البيت فتمنح السعادة، أو عبر مزج التوابل القوية التي تؤجج الرغبات. تأتي رواية “مطعم الحب المستعاد”، للكاتبة اليابانية إيتو إيغاوا، المترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، لتحكي عن بطلتها رينكو، التي تشفى من نكباتها العاطفية والجسدية عبر الطعام. في أحد الأيام، أثناء عودتها من العمل، لاحظت رينكو أن صديقها الهندي أفرغ المكان تماماً. اختفت السكاكين والمقالي والأواني التي اختارتها بعناية، كما اختفى الأثاث والتلفزيون والستائر وممسحة الأرجل. نجت جرة المحلول الملحي من هذا السطو، إنها آخر ذكرى لرينكو من جدتها الحبيبة، لقد رحل الخطيب الهندي اللطيف الذي شاركها الحلم بتأسيس مطعم، غادر من دون أية كلمة.

تحت صدمة هذا التمزق الدنيء تفقد رينكو صوتها، وتصبح عاجزة عن النطق، لذا تقرر العودة لقريتها الأصلية. هناك تبدأ باستعادة حلمها، وتشرع في تجهيز المبنى الذي تطمح إلى افتتاح مطعمها فيه. سرعان ما يفتح المكان أبوابه، وتقوم بإعداد المأكولات الراقية والشخصية، فيتدافع القرويون للجلوس إلى الطاولة الوحيدة في المطعم، في المكان الذي يبدو فيه العثور على الحب وحل المشكلات وتحقيق الرغبات، أمراً ممكناً. تقوم رينكو بجني الرمان، وتزور حقلاً من اللفت المدفون تحت الثلج، وتخترع لزوارها أطباقاً لذيذة لا يعرفونها، تطهوها بحب كي تنسى معها حسرة قلبها الكسير.

تستعيد رينكو ذاتها من خلال إسعاد الآخرين، والاحتفاء بالمشاعر الطيبة، وتذوق وجبة لذيذة، تقول: “إذا كنت تطبخين وأنت حزينة أو غاضبة، فإن النكهة أو التقديم سيتأثران حتماً. عندما تقررين إعداد الطعام، فكري دائماً في شيء ممتع، يجب أن تطبخي بفرح وهدوء”. والجدير ذكره أن هذه الرواية، حولت إلى فيلم بعنوان “مطعم رينكو”. ولكن ماذا لو امتلك الإنسان قدرة سرية عند تذوق الطعام؟

الكاتبة الأميركية إيمي بندر تمنح بطلتها روز، في رواية “حزن خاص لكعكة الليمون” قدرات سحرية، تخفيها عن الجميع. في ليلة عيد ميلادها التاسع، تكتشف روز إيدلشتاين، الفتاة المنطوية التي لا تشارك رفاقها ألعاب المدرسة، عن أنها تمتلك هبة سحرية، وذلك عندما تأخذ قضمة من كعكة الليمون والشوكولاتة، التي أعدتها والدتها في المنزل. فتفاجأ روز بقدرتها على تذوق مشاعر والدتها خلال إعداد الكعكة، وتدرك أن أمها، التي تعتبرها متفائلة وماهرة في الأعمال اليدوية، وقادرة على التعامل مع كل شيء، تتمتع بمذاق اليأس والإحباط. هكذا فجأة، ولبقية حياتها، يصبح الطعام مصدر خطر وتهديد لروز، لأنها تستطيع معرفة حقيقة مشاعر الأشخاص من خلال طعام أعدوه، تختبر مشاعرهم الباطنية مثل: الوحدة واليأس والسعادة والحزن والشعور بالذنب والكراهية والغضب والإحراج والانشغال. تكتشف روز عن حقيقة الانفصال بين المظاهر الخارجية والواقع الداخلي،  وكلما كبرت تتعلم كيف تستفيد من هبتها هذه، ثم تدرك أن هناك أسراراً حتى براعم ذوقها الحساسة لا تستطيع تمييزها.

مغامرة الطباخ

تتصاعد رائحة الأبخرة الذكية من مطبخ الرواية، لتؤلف بين المزيج المرئي والمحجوب، وبين التاريخ والحاضر في مواءمة تضبط المقادير، بغرض الوصول إلى نتائج مرضية. يقول بطل رواية “الشيف”، للكاتب الهندي جاسبرت سينغ: “مطبخ تملؤه رائحة الكمون والهيل، وعلى المنضدة كانت هناك كومة صغيرة من جوز الطيب، فيما كان زيت الزهر الكثيف يبعث ببخاره من إناء على الموقد. كانت الغرفة دافئة وواسعة، ذات شباك عريض عال، غطت أعلى زجاجه قطرات متكاثفة صغيرة، والدخان يرتفع باتجاه السقف خلال أعمدة الضوء”. تتناول الرواية قصة كيربال سينغ، الذي يستقل القطار البطيء للذهاب إلى كشمير، عبر نافذته، يفكر في وجهته، التي تحمل جزءاً من ماضيه، في مقر عسكري لم يعد إليه منذ 14 عاماً.

كيربال، الذي ينادونه  كيب، خجول، ولم يكن بلغ الـ20 من عمره، حينما وصل للمرة الأولى إلى معسكر الجنرال كومار، في ظل نهر سياشين الجليدي. هناك يصبح كيب متدرباً على الطهو، تحت إشراف رئيس الطهاة في المعسكر، كيشين، الذي يرشده إلى ابتكارات الطعام. في هذا المكان المليء بالتناقضات والعنف، يتعلم كيب إعداد الأطباق المحلية، والأطعمة الشهية من جميع أنحاء العالم. تتوقف الرواية عند مشاعر إنسانية نبيلة وحساسة مثل العطف والشجاعة، وتتحدث عن الأمل والحب والذاكرة في ظل خلفية الصراع في كشمير، المقاطعة الجميلة المدمرة التي مزقتها الحرب.

يوحي عنوان الرواية بأن الكاتب يغازل الطعام كثيراً، إلا أنه لا يتحدث عن الطبخ والنكهات بشكل مباشر، بقدر حضورها في خلفية المشهد، على رغم أن وصفات وروائح المطبخ الهندي متشابكة في جميع أنحاء النص، مع كل تحركات البطل داخل المطبخ، فإنها تحضر كاستعارة أو كوصف للمكان والمزاج.

رواية أخرى بعنوان “الطباخ” للكاتب السويسري مارتن سوتر، تطفو فيها الروائح الحسية عبر الصفحات، تحكي عن شاب من التاميل يهاجر إلى سويسرا، لديه عبقرية في الطبخ، لذا يعيد ابتكار وصفات عائلية قديمة، واستخدام توابلها، لإعداد عشاء حميمي ومكلف للغاية لشخصين، من أجل تأجيج العواطف الحميمة. لنقرأ: “عندما كانت نانجي تلقي في زيت جوز الهند أوراق الكاري، التي قطفها مارفان لتوه من الشجيرة أمام المطبخ، كان المطبخ الصغير يعبق برائحة ذكية، يود الاحتفاظ بها أطول مدة ممكنة. الشيء نفسه كان يحدث عندما يستنشق عبير القرفة، لم يكن الطهو مهنة مارفان وحسب، بل كان عشقه الكبير”.

لنا عبد الرحمن

independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى