هدى بركات تروي العلاقة المعطوبة بين أم وابنتها المشوهة

"هند أو أجمل امرأة في العالم" تآلف الحنان والعنف

عبر سرد يتأرجح بين الماضي والحاضر، من خلال الاعتماد التام على ضمير المتكلم، مع شخصية هنادي، وهو الضمير السردي الأكثر قرباً وحميمية، تستكشف البطلة الساردة في رواية هدى بركات الجديدة “هند أو أجمل امرأة في العالم” (دار الآداب)، كينونة العلاقة مع الماضي، وطبيعة صلتها المعقدة بوالدتها، الراحلة أخيراً، وسط ذكريات ومشاهد من الحياة اليومية، التي تحمل دلالات أعمق تتعلق بالعزلة والفقدان والإعاقة وخيبة الأمل، سواء بالنسبة للأم التي فجعت برحيل ابنتها البكر هند، ذات الجمال الاستثنائي، أم للابنة الثانية هنادي، المصابة بتضخم في الأطراف بسبب مرض الأكروميغاليا.

يبدأ السرد مع وفاة الأم، وعودة البطلة من فرنسا للبنان. هذا الحدث الجوهري، غياب الأم، مصدر الحياة، يشكل نقطة تحول أساسية في حياة بطلة الرواية، ويقودها نحو رحلة تأمل ذاتية، تغوص في ذكرياتها، تراجع حياتها، في محاولة جادة كي تفهم تأثير والدتها في هويتها وشخصيتها. لقد ترك رحيلها تساؤلات مشروعة، عن كل الأحاسيس المتضاربة التي عاشتها، سواء في حياة والدتها، أم بعد موتها. تتخبط الراوية على مدار السرد بين الحزن، والتساؤل عن حياتها وإعاقتها، والقيمة التي تحملها في داخلها، بعد غياب الأم، التي شكلت بغيابها وحضورها جرحاً غائراً، يؤدي إلى تعمق الأسئلة الوجودية داخلها حول معنى الحياة، الموت، الجمال، المحبة الحقيقية، بل إن هذه الأسئلة تصبح الحافز الرئيس الذي يقود السرد، ويشكل التطور الدرامي للأحداث.

       غلاف رواية الأم والابنة

من خلال الراوية، يتم استعراض مشاعر متضاربة من الحب والخسارة، مما يعكس فلسفة الرواية حول الطبيعة المزدوجة للحياة. هنادي ليست مجرد امرأة حدباء، بل هي رمز للجمال المفقود والحنو المنبوذ، الذي يترافق مع الألم والمرارات. أما والدتها، التي تجسد النقيض، فهي تعد شخصية محورية أخرى، على رغم غيابها الفعلي عن مجريات الحاضر في الرواية، تبدو ذكرياتها متشعبة على مدار السرد. يتأمل القارئ تأثير هذه الشخصية في حياة البطلة الساردة، وكيف جسدت جملة من التناقضات، الحنان والقسوة، المحبة والتسلط، الحيرة والضياع، خصوصاً في ما يتعلق بتأثير رؤيتها إلى الحياة التي أثقلت كاهل البطلة طوال سنيها، حين قررت أن تحبسها في العلية، كي لا يرى الجيران تشوه جسدها. وحين يسألون عنها، تقول إنها أبعدتها عن هذا البلد المنكوب بأن أرسلتها إلى خالتها في فرنسا، أو إلى عمتها في القرية البعيدة الآمنة.

تصف هنادي نفسها، وهي تنمو وتدخل مرحلة الصبا، بأن عظام رأسها كبرت على غير اتساق، ذقنها برز بقوة، وفكاها كفكي رجل تجاوز المراهقة، وانتفخت عظام حاجبيها كما عند القردة، وفقد صوتها نعومة صوت البنات، وتكثف وبر ذقنها وشاربها، وصار شعرها سميكاً مثل الإبر الصغيرة. كل هذا سبب ألماً مضاعفاً لوالدتها، أكثر مما تسبب لها بالألم، تقول: “حرام أمي، حبيبتي، مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها، تتعذب أكثر مني من بلوتي”. هذه الرؤية للأم، تجعلها قادرة على التسامح والغفران، حين قامت أمها بحبسها في العلية.

على رغم قبحها وتشوهها، تشغل فكرة الجمال السرمدي ذهن البطلة الساردة هنادي، تقول: “كان علي أن أكون كاملة الأوصاف. جميلة مثلها. ذكية مثلها. وحيدة مثلها”. في البداية، ومع حضور كلمة “أجمل” في العنوان، ورؤية والدة البطلة إلى ابنتها الراحلة هند، أنها كانت أجمل طفلة في العالم، وصولاً إلى انعكاس هذه الفكرة داخل هنادي نفسها من جانب رؤيتها لأمها أنها فائقة الحسن، تصفها بأنها جميلة جداً، وأنها لا تحب من الناس إلا المميزين بنسبة عالية من الجمال. ولكن بالتوازي مع هذا، تتشكل داخل ذات الأم حالة خوف من لعنة الجمال، وتقدم دليلها على ذلك في حكايات ترويها عن نساء جميلات، كانت تنتهي الحياة بهن إلى قصاص ما، في شكل مصائر كئيبة أو حتى كارثية.

وبالفعل تخسر هذه الأم بسبب جمالها أيضاً، حين يجبرها والدها الذي تحبه كثيراً على البقاء في المنزل، لأنها ستسبب مشكلات لأخيها مع شباب الحي، لذا يتم حرمانها من الدراسة. لكن شخصية الأم لا تتوقف عند حدود الجمال، وخسارتها لفرصة التعليم، بل تتطور كي تصبح قارئة نهمة لكل ما تقع عليه يداها، امرأة متسلطة، وجاهزة لدخول أية مناورة. تقول البطلة: “مهما كانت المعركة، فأمي جاهزة لخوضها، من شهود يهوه، إلى محامي البناية، إلى مدير المدرسة، إلى أخيها الوحيد. وأنا كنت أتفرج على أمي بفرح كبير، صغيرة وجميلة ومنتصرة”.

أمي مرآتي

تعكس حالة الراوية إحساساً بالتيه، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى اكتشاف نوع من المعنى في خضم الفوضى. تتجاوز الرواية كونها قصة شخصية لفتاة معاقة، وخجل والدتها منها، وزعمها أنها كانت فائقة الجمال وهي طفلة، لتغوص في تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين الأم الابنة، من جهة، ومعنى الحياة والموت من جهة أخرى. تقدم هدى بركات في هذه الرواية فلسفة “الحياة التي يحكمها الموتى”، وهي إشارة إلى فكرة أن الماضي دائماً ما يلاحق الحاضر، وأنه لا يمكن للمرء أن يفصل نفسه عن جذوره، أو عن الأشخاص الذين تركوا بصماتهم في حياته. وتسبر الرواية علاقة الجمال بالفناء، حيث يظهر الجمال في الرواية، ليس كصفة إيجابية خالصة، بل كسيف ذي حدين، يحمل في طياته مآسي الوحدة والعزلة والسخاء العاطفي والشح النفسي.

تدور داخل هنادي حوارات عن علاقتها مع العالم من حولها، الفأر الذي تتغير جيناته، القط الذي تجد جثته على باب بيتها، والجرائد التي تجمعها عن الطرق كي تستخدمها في إشعال النار للتدفئة، داخل علب الحليب. كل ما يوجد في يومياتها يبدو شريداً ومعذباً، بداية من تشوه جسدها وحدتها حبها لرشيد خلال وجودها في فرنسا، صداقتها مع أحمد بعد عودتها للبنان، ثم إدمانها شرب العرق الذي تجد فيه مهرباً من ذكرياتها.

جمعت هدى بركات أسلوبياً في هذه الرواية بين البساطة اللغوية وتلقائية الحكي، وتعقيد الأفكار الباطنية النفسية، وتشابكها مع رؤية فلسفية حية وحيوية، تتساءل عن طبيعة التواصل الإنساني مع الأشخاص القريبين منا، في لغة معبرة وموجزة تستعين بأوصاف غير مكررة. وتؤالف بين التفاصيل اليومية التي تضفي واقعية على النص، وبين الحزن والتركيب النفسي لشخصية الساردة، الباحثة عن الأمل والتصالح مع الذات والحياة، من خلال التركيز على طبيعة علاقتها مع المرأة التي أنجبتها في هذا العالم، كأن تقول: “تروي أمي حكايات عن حياتها كمن يروي سيرة خوارق عادية، فهي دوماً بطل وحيد بلا شخصيات. لكنها، للضرورة، قد تأتي على أخبار أبي ولو نادراً. تتعثر بأبي كراقصة بالية، رموا تحت قدميها سجادة، وهي كمغزل تدور في الفضاء بخفي الساتان”. أو تقول في تأملاتها الفلسفية في الحياة: “في الخسارات تصير الذاكرة قصاصاً”، و”على الماضي أن يمضي”، و”لا ضمان ضد الندم، لأنه كالشيطان بطل خارق، لص جبار فائق القوة والحيلة”.

ظلال المدينة

تدور أحداث الرواية، بعد زمن حادثة انفجار المرفأ في بيروت، وبعد أزمة المصارف. تنعكس هذه الأحداث على السرد الذي يصف الواقع، ويحضر المكان في الرواية حاملاً دلالات مرجعية مستقلة، إنه لبنان المتواري خلف المشهد المباشر. الرواية مليئة بوصف الأماكن والطرق التي تجول فيها هنادي، ترتبط الأماكن بالذكريات، والعودة للوطن، وتعكس المدينة حالة البطلة وسط اضطراب الحياة في لبنان. هذا الاضطراب يبدو واضحاً جداً في تدهور حالة هنادي النفسية، فانقطاع التيار الكهربائي مثلاً، يترك أثراً نفسياً، كأن تقول: “لكن الصعوبة الحقيقية صارت في نسياني ساعات تقنين الكهرباء، وبالتالي تعبئة أواني المطبخ والحمام بالماء، حين يرفعها موتور البناية. لم أعد أتذكر مطلقاً أوقات تشغيل المصعد، كما أني لم أعد أسمع جيداً، فحين يطرق بابي محصل القسط الشهري لاشتراك البناية، أكون نائمة، أو شاردة الذهن فلا أفتح. هكذا أصبحت بلا ماء، ليس في الشقة قطرة واحدة، لا للشرب، ولا للاغتسال، ولا للمرحاض”.

يظهر الأشخاص ويختفون في حياة هنادي بسرعة، فهي اختارت الهرب من أمها، كي تحصل كلتاهما على حريتها. تذهب إلى بيت عمتها في القرية، فتقوم العمة بإرسالها إلى باريس بزعم أن عمتها الثانية ستستقبلها. لكن هنادي تجد نفسها وحيدة في المطار، مع رقم هاتف لا يجيب. وهناك تلتقي بغلوريا الفتاة النيجيرية التي تعمل راقصة في حانة، تظل برفقتها مدة من الزمن، لكن غلوريا تختفي أيضاً لسبب ما.

تعيش هنادي قصة حب مشوهة مع رشيد الجزائري المبتور الذراع، تتقبل معاملته لها بعنف لأنها تحبه، تقول: “هل سألتك يوماً كيف فقدت ذراعك؟ أنا لست الشاهد على سقطاتك مهما كانت. أنا أحببتك رشيد لأنك أشفقت علي ثم أحببتني، ولو قليلاً، ربما لأنه لم يحبني أحد”.

تتضمن الرواية طبقات سردية عدة، ممتعة ومشوقة، يختفي عمقها الموغل، خلف الأحداث الظاهرة، وتحتاج إلى تفكيك دقيق، سواء في العلاقة بين البطلة وأمها، أم في تركيبة شخصية هنادي وإعاقتها الجسدية، ومقاومتها تغول الواقع ونشاطها الذهني في وقت واحد، أم في رؤيتها المتشعبة للحياة، ومحاولتها الدائمة التجرد من كل الأشياء، والإخلاص الشديد لذاتها على رغم كل ما عاشته من مآس. حتى في علاقتها مع الرجل الذي أحبته، لا تتوانى عن مطالبته بالذهاب إلى امرأة أخرى، حين ترى منه وجهاً عنيفاً مؤذياً، معتبرة أنها بهذا الطلب، تحمي علاقتها به. فهو من حقه العيش مع امرأة طبيعية غيرها، ومن حقها أيضاً العيش في أمان، من دون خوفها من الأذى. تقيم هنادي علاقات دافئة مع كائنات أخرى، مثل القطة زكية، التي ترافقها في يومياتها داخل البيت وخارجه، والكلب رامبو، وشجرة التين التي نمت في الشرفة. وتستدعي ذاكرتها قصصاً عن القديسين وحكايات من عالم الفن، وما يقال عنه “الزمن الجميل”، ثم يقوم ذهنها بتفكيك هذه القصص ونقدها، وبيان ما فيها من تفاهة.

تعري الرواية الأعطاب النفسية المتوارية خلف العاهات الجسدية، تطرح تساؤلات مضمرة عن فكرة الرحمة والنبل الإنساني: ما الوجه الحقيقي للرحمة؟ هل تكمن في الأمومة حقاً؟ وهل صلة الدم، هي التي تحقق النبل نحو الضعفاء الذين يحتاجون إلى من يرعاهم؟ أرادت بركات وضع القبح والجمال والإنسانية على المحك في روايتها هذه، وتعرية وجه الأمومة الضعيف الذي لم يتمكن من قبول تشوه الابنة، وكأن الأم أرادت أن تخفي الجزء المشوه من ذاتها هي، لا من ابنتها.

الجدير بالذكر أن رواية “هند أو أجمل طفلة في العالم”، صدرت بعد خمسة أعوام من فوز هدى بركات بجائزة البوكر العربية، عن روايتها “بريد الليل”، عام 2019.

د.لنا عبد الرحمن

independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى