سحر التلقي والخيبة
إذا كان ثمة جماليات فنية في فعل التلقي، فإنه ينطوي أيضا على “خيبة” في كثير من الحالات. خيبة موجودة شئنا أم أبينا تحتاج أن نتأمل في تلك اللحظة التي لا يتمكن فيها العمل الفني من إرواء شغف المتلقي، ويترك بدلا عن حالة الفرح التي يحققها الفن الحساس شغورا ضبابيا باردا، ومؤلما أحيانا.
من المحقق أن العمل الفني الخالد هو الذي يمتلك الفتنة المؤثرة بحيث يتجاوز اللحظة التاريخية التي ينتمي لها. الفن كما يرى أرنست فيشر: “يُعتبر بمثابة بديل للحياة، ووسيلة لإعطاء الإنسان توازنا في العالم الذي يحيط به”؛ وإلا لماذا يذهب ملايين البشر إلى السينما، المسرح، لماذا يسمعون الموسيقى، ويقرأون الكتب، ويندمجون في حيوات أخرى لا تشبه حياتهم؛ إن لم يكن يحركهم ذاك الشغف للبحث ليس فقط عن الفرح، بل عن ساعات من الخيال تمنحهم وعودا بوجود ما هو مختلف، قد يكون أكثر جمالا، أو أقل، لكنه بشكل ما يتجه في خطابه إلى اللاوعي إلى اللاواقع الذي يبدو على اختلافه أكثر ثراء من الواقع نفسه، لأنه يجد فيه تلك الحرية الطليقة غير الموجودة في الواقع نفسه.
فهل من الممكن وجود نص أدبي من دون وجود قارئ، أو وجود سينما لولا حضور الجمهور! المتلقي للفن إذن هو العنصر الأهم لإعادة تشكيل المنظومة الفنية، تفكيكها، تحليلها، ورؤيتها من زوايا مختلفة تُمكن المتلقي من تتبع تأثيرها الغامض على روحه، وما الذي حدث له بعد قراءة رواية فذة، أو مشاهدة فيلم حاكى عالمه الداخلي. في المقابل يحصل له العكس من هذا تماما حين تحاصره الخيبة، ويشعر بالمرارة بعد اقترابه من أحد النصوص،أو عقب انتظار فيلم لنجمه المحبوب، فيغادر القاعة قبل إضاءة الأضواء بقليل من الوقت لأن الأحداث مملة والحبكة ضعيفة أو لأنه عرف النهاية مسبقا، ويكون على استعداد لأن يركل أي شيء بقدميه على اعتبار أنه يركل الأفكار السيئة التي أنتجت عملا فنيا ضعيفا.
لا تنفصل خيبة التلقي، عن جمالية التلقي فالخيبة هي الوجه الآخر: الاستهلاكي، والمتعجل، غير الطموح، والخالي من العمق والموهبة اللامعة. لكن وحدها الخيبة التي تساعدنا على التمييز بين العمل الفني الحساس والواعي وبين محاولة محاكاة تقليد للفن المؤثر لم تُنتج سوى ثمارا فجة غير مستساغة. فالدور الذي يلعبه ” المتلقي” وإن بدا مختلفا بين كائن وآخر، فإنه يبرهن على علاقة تقارب حثيثة بينه وبين صانع العمل الفني، يمضي ” المتلقي” – القارئ أو المشاهد – في مسار ينتظر في نهايته أن يشاهد ظله، ومن هنا تختلف دلالات خيبة التلقي بين شخص وآخر، هناك المُستقبل للابداع في مواجهة البنية المجردة للعمل الفني، وبينهما صور متخيلة تستقي حضورها من نماذج فنية مسبقة أو من افتراضات عقلية واعية، لا تلبث ان تقف أمام عامل الدهشة التي تأتي إما لصالح العمل أو ضده. فالخيبة في تلقي عمل فني ما هي إلا دهشة مؤلمة لأنها تجرد المتلقي من خيالاته العذبة الواعدة بنشوة ما.
هكذا يقف المتلقي الكادح، أمام لحظات تَعِسة، فرضها عمل فني غير ناضج الصياغة، خال من العمق، تغيب عنه اللذة التي كان من المفترض تقديمها تحت ضوء جديد ومبهر. يبتعد عن الشاشة، عن المسرح، أو يلقي بالكتاب جانبا مع شعور بالحسرة على تبديد الوقت والمال سدى في بهجات كاذبة، يغادرها وهو ماضٍ في إصدار حكمه النهائي بأن الطريقة المثلى للعمل الذي شاهده أو قرأه كان من المفترض أن تكون كذا ..أو كذا، ليشارك في عزلته صانع العمل أفكارا لن تُعرف أبدا وستظل ردة فعل مضمرة على خيبة التلقي.
لنا عبد الرحمن