صندوق كرتوني يشبه الحياة”.. المرأة مركزًا للسرد
تجدل الكاتبة لنا عبد الرحمن بين الواقع والمتخيل في مجموعتها القصصية “صندوق كرتوني يشبه الحياة”، الصادرة في القاهرة حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وتتخذ من إحدى قصص المجموعة عنوانًا لكتابها، وفي القصة المركزية “صندوق كرتوني يشبه الحياة” ثمة انطلاق من أفق الفانتازيا الوسيع إلى متن الواقع بقبحه وقسوته: “تخيل أنك تمشي في الشارع، ثم فجأة يظهر أمامك صندوق كرتوني كبير، ويفتح من تلقاء نفسه وتنطلق منه أشياء سحرية وحدك تراها، مظلة تعزف ألحانًا ثم تطير في السماء، قزم يرقص وهو يرتدي قبعة حمراء، تنين مجنح يطلق النيران من فمه، جنية لطيفة تحلق على مستوى بصرك، فتحول غبار المدينة إلى قوس قزح”.( ص 5(
فثمة سارد يحكي لصديقه خليل، الشخصية الغائبة في السرد والمشاركة في الآن نفسه في بناء الرؤية الكلية داخله. فالسارد هنا يتوجه بخطابه السردي إلى مسرود له محدد، خليل، يقف من خلفه القارئ العام، الذي تلجأ الكاتبة في أكثر من موضع داخل السرد إلى تنبيهه تارة، وكسر الإيهام بينه وبين النص تارة ثانية، عبر جمل لافتة من قبيل: “سأحكي القصة من البدء”.
يبدو السارد مندهشًا بإزاء هذا الواقع المعبأ بالقسوة والدمامة، حيث الأمكنة الشاهدة على ما أسميه بهامش ما بعد القاع، والمرتبط بسياق سياسي/ ثقافي محدد، يجد صداه في بنية اجتماعية خربة، مسكونة بالتناقضات الفادحة: “بيت سلمى عبارة عن ثلاث غرف متلاصقة مثل عنابر السجن، لا توجد فيه كهرباء، ولا ماء.
كل شيء فيه ملفوظ إلى الخارج، حتى أطباق الألمنيوم والأواني المحروقة التي يطهون فيها طعامهم متروكة أمام باب البيت. لا أستطيع وصف والدة سلمى بدقة، من الممكن للكاميرا أن تنقل لك صورة تلك المرأة. حسنًا يا خليل، دعني أختصر عليك، والدة سلمى عاهرة سابقة، باترونة حالية، شيء من هذا القبيل، حين شاهدتنا نقترب، كانت تجلس على مصطبة البيت، ترتدي قميص نوم وشعرها منكوش، في يدها سيجارة، أسنانها متآكلة ومنخورة…”. ( ص11(
في قصة “آنهيمالا” يبنى النص على آلية الثنائيات الضدية كما في التحليل البنيوي، حيث الخادمة الأسيوية أنيهمالا أو آمنة كما أطلقت عليها سيدتها، ومخدومتها الخليجية. هذه قصة بديعة تستكشف مساحات وسيعة داخل النفس البشرية، فآمنة بعد أن بدأت في معرفة العالم والتعرف عليه لم تدرك أنها ربما ستكون فرصتها الأخيرة في اكتشاف العالم، فالدم ينبثق من صدرها ساعة السعال لكنها تدافع عن اختيارها وحقها في عطلة أسبوعية تذهب فيها للسباحة بالمايوه الجديد، في ظل رغبة في الانعتاق من المواضعات السائدة.
تخلق القصة مسارات إنسانية في “البحر يتجه شمالًا”، فتتجاوز الجغرافيا المعتادة للسرد، حيث ثم امرأة، وطفلها، وأبوها، ورجل البحر الذي أحبته، وتعد المرأة هنا مركزًا للسرد، كما تبدو النهاية مأسوية – قتل المرأة لأبيها وجد طفلها- يعقبها انسحاب مؤلم للطفل المتجه إلى عالم لا يعرفه بعد أن قتلت أمه جده الذي دمر حياتها كما ترى.
عن الفقد والعزلة والجانب المطمور في الحياة ومكعبات السكر المتراصة تبدو قصة “مكعبات السكر” المسكونة بنفس رهيف حقًا. ربما تعارض لنا عبد الرحمن في قصتها “النول يغزل مرتين”، مقولة هرقليطس الشهيرة: “لا تستطيع أن تنزل في نفس النهر مرتين”، ويضيف إليه فلوطرخس، التفسير التالي “لأن مياهًا جديدة تتدفق فيه”. فالفتاة التي تبحث عن كتاب النول الذي كانت تقص منه أمها الحكايات قبل وفاتها، تستعيد في نهاية القصة عبر تقنية الحلم حكاية النول من جديد، وتستعيد معها ورقة بيضاء وقلمًا أزرق تمنحهما لها الأم في تحفيز على فعل الكتابة الذي يبدو هنا إنسانيًا خالصًا، ينطلق من فكرة الحكي الشفاهي دونما نصية على مروية حكائية بعينها، فالنول ذاته جوهر الحكاية ومنتهاها، فهو يغزل مرتين وفي كل مرة ستكون الحكاية جد مختلفة.
يتقاطع الاستهلال السردي والمختتم في قصة “بيت الأرابيسك”، حيث تحيل النهاية إلى المفتتح، فثمة ساردة تحكي عن عذاباتها الداخلية، حريتها المنقوصة دائمًا مثل قطة حبيسة، في بيت من الأرابيسك، تحاول فيه القطة أن تهرب عبر النوافذ، وتتقافز عليها، وتحاول فيه الساردة أن تعصف بالنوافذ المغلقة، وتتجه صوب البراح الحر، تحدث الموازاة بين القطة والساردة عبر إشارات دالة في النص: “أحب أن أفتح الشبابيك على مصاريـعـها، وسماع صوت أطفال الجيران الذين يلعبون في الحديقة التي تقع أسفل البيت. الصوت الآمر يجعلني أبدو مثل هرة تتعلق بثقوب الأرابيسك لتبصر الشارع، ثم تسقط على الأرض. هل مضى عشرون عامًا على تمثيل دور القطة، وعلى وجودي هنا في بيت الثقوب هذا؟”.( ص 38)
إن الصورة التي بدت عليها الأم حانية تغزل الحكايات وتنسجها في قصة “النول يغزل مرتين”، اتخذت شكلًا مغايرًا في “بيت الأرابيسك”، فالأم هنا متسلطة، تصادر حق الابنة/ الساردة في الاختيار، وتدفعها دفعًا للزواج من ابن العم، وفي لحظة الاحتدام الداخلي، حيث حركة السرد تنبع من سيكولوجية الشخصية القصصية وليس من تفاعلاتها الخارجية وفق التنامي المعتاد للحدث القصصي من بداية إلى وسط إلى نهاية، سنرى عودًا على بدء في استدعاء جديد للمشهد الأخير من الفيلم السينمائي المصري المدهش موعد على العشاء ( 1981/ إخراج محمد خان(
في “خمسة وجوه لعالم حياة” بدا المنطق الحاكم للنص واقعيًا بامتياز، حيث الرغبة في التخفي والمداراة، وإظهار الألق الكاذب لامرأة مأزومة تحت لافتة “كل شيء على ما يرام” التي ترفعها في وجه كل من يسأل عنها، وهي التي لم تتوقف يومًا عن طلب العون النفسي، خمسة مشاهد من عالم البطلة المركزية في القصة، حياة، تتداخل زمنيًا، وتتقاطع مساحات الماضي والحاضر فيها، وذهنية التكيف فشلت في منح البطلة حيوية مفقودة، وعلى الرغم من المأسوية اللافتة فإن ثمة روحًا ساخرة في النص، كما لا يخفى ما في الاسم من دلالة ضدية، حياة.
في “نيجاتيف مشوش لأيام الأسبوع”، نرى أنسنة لأيام الأسبوع جميعها، بدءًا من “الأحد” ووصولًا إليه، في بناء دائري يشير إلى تشوش العالم المحيط بالساردة، ودورانه في حلقة مفرغة. ولا يخلو النص من طرافة، ويبدو معبرًا عن افتقاد الونس الذي تظل الساردة باحثة عنه، واضعة نفسها تحت مقصلة الانتظار ووعده الذي ربما لا يجيء.
في المسافة الواصلة بين الحلم والواقع، الخيالي والحقيقي، تتحرك قصة “ورقة لعب” معتمدة على التناص مع التراث الشعبي الأسطوري، الذي يختص بالعوالم الخفية “الجان والعفاريت”، فثمة عرافة تملك ورقًا للعب تستقرئ من خلاله الطالع، يصبح وجودها في المكان محل سؤال تبديه الذات الساردة التي لم تعرف هل رأته حلمًا كان أم حقيقة.
تستخدم لنا عبد الرحمن ضمير الغائب في الحكي في قصتها “مدينة الألعاب” التي تبدو فيها الحياة أكثر من سيرك، ويتوزع السرد على شخوص أربعة: الطفل/ الأم/ الجد الغائب/ صديق الجد. ويتمثل مركز السرد هنا في الأم، فهي الحلقة الواصلة بين الشخوص المختلفين، والرابط بين زمنين مباينين داخل القصة، أحدهما راهن يبدأ منه خط القص الرئيس (أم شابة تذهب مع ولدها لمدينة الألعاب)، والآخر ماض تستعاد فيه ذكريات شتى، فيحضر الأب الغائب وصديقه الشاعر المنزو في مدينة الألعاب. القصة هنا تبدو شجية وشخوصها مرسومة بعذوبة شديدة، تخلف ما يسمى بالأثر النفسي عقب القراءة.
في قصة “الضوء” تحب الشخصية القصصية العتمة، ترى في الظلام سطوعًا لا نهائيًا، يحجب الإبصار، ويتماس النص مع “أنشودة المطر” للشاعر الكبير بدر شاكر السياب.
تستخدم الكاتبة ضمير المخاطب في السرد في قصتها “تلك السفينة” حيث يتوجه الخطاب السردي إلى محكي له ومحكي عنه في آن، وتنحو القصة هنا صوب تفعيل الوظيفة التحليلية للسرد.
في “محطة نيويورك.. بئر استكهولم” ثمة شخصيتان مركزيتان تهيمنان على السرد داخل القصة التي تتسم بالطول النسبي، والتي يمكن أن تكون جزءًا من مشروع ممتد، فالتباينات التي حوتها المقاطع الثمانية التي تشكل المتن القصصي، تكشف عن عالمين متجادلين، “سحر” المرتحلة إلى استكهولم، وحبيبها المرتحل بعيدًا أيضًا ولكن إلى نيويورك. وكل مقطع قصصي يجعل من إحدى هاتين الشخصيتين مركزًا للسرد، يعقبه مقطع تال يتخذ من الشخصية الثانية (الوجه الآخر) مركزًا جديدًا للحكاية.
وبعد، بعد مجموعتيها “أوهام شرقية” و”الموتى لا يكذبون”، تأتي مجموعة “صندوق كرتوني يشبه الحياة” للكاتبة لنا عبدالرحمن، فتبدو أكثر نضجًا فنيًا، وإمتاعًا جماليًا، مشغولة برصد جملة من التبباينات النفسية لشخوصها المختلفين والمعبرين عن بيئات متعددة، وجغرافيا سردية مشغولة بالإنسان وأزمته المعاصرة.
د.يسري عبد الله