قراءة في مجموعة “صندوق كرتوني يشبه الحياة”

يظل منطق القصة هو المنطق الأقرب والأهم لتفسير حوادث التاريخ، تلك القصص التي تكون في أساس طبيعتها قصص تشتبك مع قصص، وأحداث تنبع من أحداث، ومواقف تبني على مواقف، ذلك لأن البنية السردية للمواقف الإنسانية تملأ فضاءات الوجود الذي تسبح في أمواجه أحداثه، الأحداث تفضي لبعضها البعض كما يفضي كل حدث لغيره في سلسلة لا تنقطع من التواصل، التاريخ إذن لا يستجيب لتفسيرات العلم وسببيته ومنطق تأويله، فمنطق المقدمات والنتائج يعيش في تربة مغايرة عن تربة السرد والوصف. التاريخ يقول إننا نعيش في ظل ثقافة أبوية ذكورية مسيطرة، تنظر دائمًا إلي جسد المرأة نظرة تستحق معاودة النظر مرة بعد مرة خاصة إذا كانت الذات الساردة ذاتًا أنثوية تناقش مشكلات جسدها، وقضايا جنسها الذي يرى جسد المرأة جزءًا لا يتجزأ، أو ينفصل، أو ينظر إليه منفردًا بعيدًا عن جسد العالم، أو دون الأخذ في الاعتبار كينونة الجسد الثقافي المختزن في الذاكرة الذكورية التي هي بالطبع نتيجة طبيعية لواقع ثقافي واجتماعي عام، تتناص فيه هذه الأبنية الجسدية، وتتأثر بالطبع مع أبنية جسدية قريبة أو بعيدة، تتقابل أو تتقاطع مع بعضها البعض؛ لكنها في النهاية لا تخرج عن النسق العام لهذه الثقافة العربية التقليدية بكل ما تحمل من مواريث المحو والإثبات، السماح والمنع، الديكتاتورية الشعبية والرسمية، الجماعية والفردية، وهذا لا ينطبق على الثقافة العربية وحدها في إطار الإنصاف؛ ولكنه سياق عام ونسق متجذر في كل ثقافة تقليدية مماثلة تعمل حسابًا للأسطوري والطقوسي والروحي على حساب المنطق والعلم بكل أبعاده.

تأويلات الجسد النسوي

لقد سيطرت الثقافة الذكورية من غير شك على تفسيرات وتأويلات وتحليلات الجسد النسوي مما أحدث تشويهًا وتوترًا متعمدًا، ما زال موجودًا في ذاكرة التاريخ الذي يثبت هذه النظرة التسلطية الديكتاتورية، مما صدَّر هذا اليتم المقصود، والهشاشة المتعمدة التي تحتاج إلى ثورة تحرير تخرج الذات المتسلطة من توهماتها، وتحرر هذا الجسد المثقل بالقيود من داخل حوائط الرجال المغلقة في غرف عقله المركون فوق رفوف الصمت: أبًا كان، أو أخًا، أو حبيبًا، لا فرق، فممارسة التسلط لا تحركها غيرة عقائد بقدر ما تحركها أنساق مصالح، فالذي يسطو علي حقها حين يجعل الود والمكانة لأخيها الولد، أو حقها في اختيار نوع التعليم الذي ترغب، أو شخص الزوج الذي يختاره قلبها وتعيش معه باقي حياتها، أو حقها في الميراث وغير ذلك كثير مما تحركه المصالح وتحرمه العقائد.

في مجموعة (صندوق كرتوني يشبه الحياة ) نجد في القصة الأولى -التي تتخذ المجموعة عنوانها- (سلمي) الفتاة التي التقي الراوي بها في الشارع، يقدم لها في حديثه لصديقه خليل صورة تشبيهية غير تقليدية، تجمع العديد من التناقضات التي لا يخلو منها من كان في مثل حالها؛ هي فتاة مثيرة للتساؤل غالبًا تجمع بين الملائكية والدونية، سلمي تمشي في الشارع، ذاك الفضاء الذي يلتقي فيه الناس بعضهم بعضًا دون أن يكون لأحدهم القدرة على الحكم القيمي على الآخر ممن يقابل من وجوه يألفها، أو لا يألفها، فاللقاءات غالبًا ما تكون عابرة، سلمي تشبه صندوق كرتوني كبير، مملوء بالحكايات، كلها تدور حول الكينونة والجسد، بين الوجود والغياب، حكايات الحضور والهوية الضائعة، هذا الصندوق لم يكن خشبيًّا ولا حديديًّا؛ بل هو صندوق كرتوني، أي أن تكوينه من ورق، بما يحمل الورق من دلالة على الضعف والهشاشة، والمحو، تنطلق من الصندوق أشياء سحرية كناية عن مكنون المشبه (سلمي)/ المرأة، الجسد، هذا الصندوق يفتح من تلقاء نفسه، دون أن يتدخل أحد لفتحه، سلمي لا يمكن أن تستجيب للضغوط، ولا يستطيع أحد أن يأخذ منها ما لا تريد أن تمنحه له، تنطلق من هذا الصندوق أشياء سحرية عجيبة، جعلها مظلة تعزف ألحانًا ثم تطير في السماء، ثم جعلها على ثلاثة أشكال، بعد أن جعلها مظلة: جعلها قزمًا يرقص وهو يرتدي قبعة حمراء، ثم جعلها تنينًا مجنَّحًا يطلق النيران من فمه، ثم جنية لطيفة تحلق على مستوى بصرك، النتيجة أن التغير الناتج عن هذا التحول يشمل الكون المحيط، يتحول القبح إلى جمال واضح يغلف الأشياء، غبار المدينة يتحول إلى ألوان قوس قزح، والشوارع القذرة المزدحمة، يتحول فيها الازدحام إلى شيء آخر، كأن الناس تستعد لكرنفال، كل هذا الوصف السحري لامرأة قابلها الراوي صدفة في الشارع، لم يكن هذا الوصف مقصورًا على سلمي وحدها، هذا وصف امرأة أي امرأة، هنا الراوي يجعل هذه التفاصيل متشابهة مع لحظة حياتية قابل فيها هذه الفتاة، الذي وصف رؤيته لها ومقابلته إياها في الشارع المزدحم عبورًا في حياته “كان عبور سلمي في حياتي يشبه هذه التفاصيل” (ص5)،

هنا نجد الخطاب، خطاب جسد وكينونة، خطاب يبوح في لحظة ويتمرد على أوجه القول في لحظات أخرى، يستجيب لقلقه ووجعه فيرقص كقزم يرتدي قبعة حمراء، ويتمرد على سياقات الوجع والقلق ويثور كتنين مجنح يطلق النيران من فمه على كل ما يقابله، ثم جعلها تتحاور وتحكي وتتوجع، وتحزن وتقلق، وتحلم وتتخيل كجنية تحلق على مستوى بصرك.

هذا الرجل الذي يلتقي سلمي لأول مرة وقد خلصها من أيدي الشباب الذين وقفوا لمضايقتها، يصف هذه اللحظة وصفًا خياليًّا لا يرتبط بمواريث سابقة من بروتوكولات التعارف المعروفة بين الناس “اتسعت الدائرة وعبرت أنا وهي مثل ملك وأميرة.. أي والله” (ص7)، في هذه اللحظة التي كانت شبيهة بالجنية التي تحلق في مستوى البصر، كيف يمنح الجسد المتمرد هذه الأوصاف لرجل يلتقي امرأة للمرة الأولى، فيستجيب للفرح والحزن والوجع والألم، فيصفها هذا الوصف الملكي، وهو يعرف أنه خلصها من شباب حاولوا أن ينالوا من هذا الجسد، جسد الكون بقلقه ووجعه، وألمه، قاموا باعتراض طريقها، فصارت ضحية من ضحايا الشارع/ الكون الذي يعج بالتفاصيل، ثم يأتي المخلص الذي خلص الجسد ممثلًا للضمير والوعي فيلاقي جسدًا هشًا، قشرة ضعيفة تطير في الهواء، يراوده في بداية هذا التعارف، هذا التفكير السريع في الجسد/ كينونة الجنس، وكأن المبدأ الأساس الذي يفكر فيه الرجل حين يلتقي جسدًا أنثويًّا هشًّا، تلعب به الريح، هو العودة السريعة لطقوسه الهمجية، فيعود الخطاب الحلمي الهذياني والعائش بعيدًا عن كل أنساق الرقابة الداخلية والخارجية “لم أعرض أن نترافق للسرير لأسباب نفسية تتعلق بطقوسي فيما يتعلق بالجنس، أي أمن المكان ونظافته” (ص9)، أي أنه في هذه اللحظة لو تحققت له شروط الأمان والنظافة لكان هذا تفكيره الأول مع هذا الجسد/ الضحية، صورة نمطية ربما تظنها كثير من النساء في الرجال الذين تلتقيهم، لكن أن يبوح الرجل بذلك ويكرره “سأعود لحكايتي مع سلمى وأوضح أن السبب الأول في تفضيلي المشي على الجنس هو عدم توفر مكان آمن” (ص10)، أي ارتباط هذا الذي يحدث في بداية هذا التعاطف، ويحمل من طقوس الغرابة والتوحش ما تفرضه طقوس الحداثة وما بعدها من نظرة مغايرة للجسد،

هذا ما دفع الكاتبة إلى إبراز دور الرجل كأداة من أدوات المراقبة والقمع والتسلط، هي نظرة نمطية تختزنها الكاتبة في مواريثها الثقافية عن الرجل النمط الذي لا يفكر حين يلتقي المرأة إلا في هذه النظرة الجسدية والشهوة الميتة، بعد لقاء عابر وتجربة قصيرة يلتقي فيها الناس مرارًا في أمكنة وأزمنة مغايرة “وفي آخر اليوم كان على كل منا أن يعود لعالمه، لكنني لم أقو على فراقها قبل أن أتيقن من رؤيتها من جديد.. هل هذه حماقة.. أه ربما” (ص10)، نظرة ميثولوجيه تنبع من ذاكرة ثقافية تحمل نكوصًا قيميًّا وحضاريًّا وعقائديًّا، المخلص جسدًا مزينًا بالقيم والشهامة من الخارج خربًا مسكونًا بالهمجية والفراغ من الداخل، أية حماقة أكبر من هذه التصريحات التي تصف هذه العلاقة مع الجسد الذي لم تستغرق سويعات قليلة يصير بعدها المخلص وكأنه صار يمتلك الجسد الذي خلصه، فصار يفكر بمنطق الملكية الخاصة، يتعامل معه كأنه يعرفه من سنين طويلة ضمن أشيائه التي يعبث بها. الذات الكاتبة تقوم بفضح هذه النظرة الجسدية للرجل، حين يكون الامتهان لجسد المرأة/ جسد العالم، وهو يرتدي عباءة القيم والمبادئ وشهامة المخلص.

خصوصية مغايرة

آمنة في قصة أنهيمالا غيَّر سيد البيت اسمها بحجة أنه لا يستطيع نطقه هو وأطفاله، كما أنه طلب منها أن تضع غطاء الرأس على شعرها، تدخل ذكوري سافر في خصوصيات امرأة لا تملك الاعتراض، فهي تعمل خادمة في بيته، مغتربة لا حول لها ولا قوة، تركت أسرتها وبلدها لتجمع قدرًا من المال يعينها على الحياة، هذا أفقدها ذاتها الأنثوية التي تحمل خصوصية مغايرة للرجل على مر الأزمان، كما يجعلها هذا الفعل الذكوري المتسلط وغيره مما تعرضت له في نهاية القصة تترك البيت وأهله ومن فيه لتبحث عن الخلاص. آمنة تعيش غربة تحس بها في كل لحظة من لحظات يومها الطويل المرهق من أعمال البيت وتصرفات ساكنيه، لا يخفف منه، ومن جهده المرهق، غير لقاء الأحد مع زميلاتها الخادمات في الأماكن المجاورة “لكنها عرفت فيما بعد أن حياتهن في هذا البلد الغريب تسير بجهد مضن يجعلهن ينتظرن يوم الأحد بفارغ الصبر كي ينفسن عن رغباتهن المكبوتة” (ص16). تركت آمنة في طريق غربتها زوجًا وطفلًا صغيرًا من خلال عقد عمل يمتد عامين، آمنة جاءت لتؤدي رسالة نحو أسرتها وذاتها الملتزمة، فلذلك لم تكن مقتنعة تمامًا بمشاركة رفيقاتها اللهو الذي غاب عن ذاتها الصابرة، فعاشت الغربة مخلصة: لعملها، ولزوجها، وطفلها الذي تركته عند أمها، وصبرت على تعبها، وغربتها، ومرضها بالسعال الذي كان يسبب لها حرجًا شديدًا أمام أفراد الأسرة التي كانت تقيم معها، ناهيك عن شكوى (آمنة) و(فرحهالو) من سوء تصرفات السيدات اللائي يعملن لديهن، وغرورهن، ولؤمهن، وشرهن المتأصل في معاملة الخادمات، بالإضافة للشكوى من الأطفال الشياطين، وتربيتهم الفاسدة. آمنة راضية بعملها عند هذه الأسرة على الرغم مما أسلفناه عن معاناتها، لأنها في النهاية أرحم كثيرًا مما كانت تعانيه كامرأة في عملها الذي كان في بلادها تحت أشعة الشمس في حقول الشاي، وكأن التعب يتتبعها في كل مكان تذهب إليه، ولم تعش راحة كنماذج أخري من النساء، تواجه في كل مراحلها أعمالًا ثقيلة ليست لها؛ لكنها فرضت عليها.

آمنة على الرغم من كل هذا التعب في الغربة، إلا أنها عرفت من أمها أن زوجها ينفق المال الذي ترسله له على نزواته، ومتعه الشخصية، ولا يسأل عن طفلهما، ويأتي بالفتيات إلى بيتها في تحدٍّ سافرٍ لتعبها، وغربتها. زوج آمنة نموذج آخر للرجل المتسلط المتنطع الذي يعيش على جهد زوجته، على تعب جسد منهك يقابله جسد مستريح يلبي متعه الحياتية من غير تعب أو مشقة وينسي رسالته، وعلى الرغم من كل هذا التعب لا يحفظ لهذا الجسد حقه في الوفاء كزوجة تصنع الحياة؛ بل يخونها دون مبرر، ويأكل مالها دون نخوة، فيفسد عليها الحياة التي تحارب لكي تصنعها. انتهت القصة بتعاطف الكاتبة معها، وتعاطف القارئ أيضًا، من خلال عرض لتلخيص مأساتها فتركت لها الذات الكاتبة باب الشقة مفتوحًا، فخرجت منه آمنة تواقة للحرية، وهي تترك منديلها خلفها ببقع دمه الحمراء الذي يلخص مأساة جسد منهك مريض.

في قصة (البحر يتجه شمالًا) تبدأ القصة بمأساة لطفلين كل واحد منهما يحكي للآخر عنها وهي تتلخص في فقد الوالدين، الطفلة أخبرته بأنها فقدت والدها، وهو يحكي لها أنه فقد والدته، وإكمالًا للمأساة لم تكن معينًا له على تجاوز مأساته فتمسح دموعه، ولم يكن هو أيضًا معينًا لها فيطلب منها أن تتوقف عن البكاء، فظلَّا ينتظران أن تنجلي مأساتهما “ظلا في مكانهما صامتين يرنوان نحو البعيد، وينتظران مضي العاصفة” (ص21). على الرغم من حداثة سن الطفلة إلا أنها تتحدث عن معاناة جسد جريح علاجه البوح لمن يسمعه ويحنو عليه “كلنا بحاجة إلى البوح لتنظيف جراحنا” (ص21). والطفل على الرغم من حداثة سنه إلا أنه عاش هذا الخلاف بين أمه وجده الذي هددها بالقتل، وهي تصيح في وجهه معلنة عدم الاستجابة لمهانته وقهره، وتطلب منه عدم التدخل في حياتها التي دمرها، ولغي اختياراتها، الجد يفرض ديكتاتورية صارمة، وتسلط غير مبرر على ابنته، وعلى الرجل الذي اختارته (رجل البحر)، وأمام هذا التسلط قامت بفعل المواجهة “أنت دمرت حياتي، دمرت حياتي” (ص24). كان يشدها محاولًا خنقها بيديه، وهي تحاول الهرب، تحاول أن تهرب منه لتتمكن مرة أخرى، وهذا ما حدث حين تناولت الفأس الموروثة عن أبيه والمعلقة للزينة، ضربته “ضربة، ضربتين، ثلاثًا، دماء تسيل على الأرض، قتلته هي، هكذا حدث القتل” (ص24). من الذي جني ثمار هذه الكارثة الكبرى حين يتعنت الرجل ويفرض دكتاتوريته وسيطرته، البناء ضحايا التسلط والقهر، تدخل الأم السجن، ويذهب الابن لخاله الذي يقوم بمحو ذاكرته السابقة عن أم قاتلة وجد قتيل، ليبدأ من جديد في أرض غريبة.

        لوحة أحلام للإيطالي فيتوريو ماتيو

 

في قصة مكعبات السكر نجد هذه المرأة التي تعيش وحدة قاتلة بعد استقلال بنيها بحياتهم وسفرهم خارج البلاد، وتركها وحيدة تلملم جسدها لتبحث عن شيء يعيلها، ويؤنس وحدتها القاتلة، ذهبت للتقديم لإجراءات الوظيفة، ولما خاطبها الشاب الذي يتلقى أوراق التقديم من المتقدمين لإجراء المقابلات، أن الوظيفة لا تناسبها، قالت له “صدقني أنا بحاجة لهذه العمل أكثر من أي وقت مضي في حياتي” (ص28). في هذه القصة لم تكن معاناة المرأة دائمًا من الرجل مصدر التسلط الدائم بالنسبة لها في ظنها؛ بل جاءتها من أبنائها أولًا حين استقلَّا بحياتهما، وكذلك هذه النظرة الدونية من المرأة التي صادفتها في الشركة التي تقدمت للعمل بها، نظرة تتفحص الجسد، وتبحث في مكنون عيوبه الظاهرة، ثم تتحول إلى السخرية منه “نظرت إليها المرأة الحامل بلا مبالاة، قلبت في نظرتها تلك هيئتها العامة، تنورتها الرمادية القطنية التي تتناسب مع لون شعرها الرمادي، والمنكوش قليلًا، قميصها الأبيض يبدو أنه غير معتن بكيه بطريقة جيدة، ثم حذائها الباهت والقديم” (ص28). هي لم تهتم بهذه النظرة المتفحصة من هذه المرأة الحامل التي خرجت من مكتب مديرها، ثم عادت إليه بعد استدعائها، على الرغم من أنها نظرة أشعرتها بالدونية الظالمة، وأنها كائن غير مرغوب فيه، ومع ذلك قابلت نظرتها بابتسامة كرد فعل رقيق مقابل فعل ممقوت، وكأنها قد اعتادت على ذلك، أو أن انتظارها لوظيفتها أهم كثيرًا من هذا التنمر الذي لا يحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، هي تتحمل التنمر لتعالج الوحدة، وتتحمل التسلط من أجل الخروج من أزماتها.

لم تكن هذه المرة الوحيدة التي نظرت فيها هذه المرأة الحامل، لها بل نظرت إليها مرة أخرى بعد دخولها مكتب مديرها وخروجها منه، ممتعضة لمظهرها وهيئتها، وكأن التسلط والتنمر لا يكون بين الرجل والمرأة فقط، بل في أحيان كثيرة تكون المرأة أكثر ظلمًا لبنت جنسها، غيرة وحقدًا واستحسانًا لذاتها “المرأة الحامل كررت التحديق بها في نظرة أقرب للنفور هذه المرة، لأنها أطالت التوقف بنظراتها عند عروق قدميها التي تبرز من أعلى الحذاء” (ص31). الجسد المادي وجهة للسخرية والتنمر، وجاذب للتسلط من جسد مواز وليس مغايرًا. إن المرأة ذاتها تعاني وحدة قاتلة، وفقدًا مرًّا، خاصة أنها تعيش تجربة تعاني منها الإنسانية جميعًا -والمرأة على وجه الخصوص- مربية، وحاضنة، لأبناء حينما يبلغون السعي يذهب كل إلى حال سبيله، وينفصل بحياته عنها، وكأنها محطة سير ينتهي عندها المسير في هذا الطريق لينتقل لطريق آخر، كخاتمة لمرحلة، ليبدأ ثانية فوق طريق جديد.

هنا تحدثت السيدة عن زواجها، وأنها أنجبت ولدًا وبنتًا “عادل في أمريكا، ونيرمين مع زوجها في الخليج، وأنا هنا” (ص29)، وحدة مرة، ومعاناة قاسية بعد الزواج، والولادة، وتربية الأبناء، وتعليمهم، وتزويجهم، تأتي النهاية التي يمقتها كل من ربي وعلم وزوج، ليعد لغيره من جديد، ويجني هو وهي الوحشة والوحدة والفقد، وهذا ما قالته للشاب الذي قابلته في الشركة حين لخصت له ما تكون عليه حياته الثانية، وكأنها نبوءة حتمية، كما وصفها بعد ذلك وصفًا يتناسب مع حوارها الذي يأتي ميراثًا لسنين من الخبرة والعناء جعله يراها جنية عجوز تجبره على الإنصات إليها بقوة حينما تمنحه دروسًا في الحياة التمستها من تجرتها الشخصية التي انتهت بعد سنين من الألفة مع أولادها وبيتها، ثم صارت وحيدة بعدها، هذا حال الدنيا، كأس يتذوقه كثير من الناس خاصة من كانوا في ظروفها، هنا تعرض عليه خارطة ما مرت به من محطات، حين تخيل له ما سيحدث له كما حدث لها، سيكون له محبوبة يتمني أن يتقدم لخطبتها، ثم يمشيان معًا على الكورنيش مرتين في الأسبوع على الأقل، ويحلمان معًا بإنجاب الأطفال، تقول له مذكرة طول الوقت بتجربتها هي ونهايتها التي انتهت إليها، الوحدة لا تنسى بالتقادم، ولا تنتهي بمرور الزمن، بل هي طول الوقت مستيقظة في جنبات المكان، كعفريت مصاحب، لا يصرفه الضوء، ولا تخيفه العتمة “هذه الصورة تبدو واضحة في عينيك، لكن صدقني بعد كل هذا، ستكون وحيدًا، كما أنا الآن” (ص30).

الوحدة والمرارة

تستمر المرأة التي تعيش وحدتها وتريد أن تنتصر عليها بالخروج للعمل في عرض مشكلتها، وإحساسها بالوحدة والمرارة، ظهر ذلك جليًّا حين مرَّ صانع القهوة ووضع للشاب موظف تلقي طلبات التوظيف قهوته وبجوارها مكعبات السكر، أشارت ناحية الطبق تستدعي شيئًا من حلاوة الحياة المصطنع عله يبدد طعم المرارة الدائم ولو للحظة بقائه في الحلق قبل أن يذوب ويتلاشى طعمه شيئًا فشيئًا “هل تسمح لي بتناول واحدة، أحس بمرارة في حلقي” (ص30). وكما كان لأفعال الآخرين معها ما استدعي مناقشته والتنديد به، كان لفعلها مع المتقدمين معها في الوظيفة ما يستدعي كشفه وإظهاره، وكانت المرأة التي طوال الوقت تشتكي من التسلط والوقوف ضدها، انتهزت هي الأخرى فرصة لإظهار معايب الأخريات، هي تعرضت للتنمر من المرأة الحامل في الشركة التي ذهبت تبحث فيها عن بديل قاتل لوحدتها، فلم تسلم الأجساد المتقدمة للوظيفة من نظرتها الثاقبة، وعيونها الفاحصة، وروحها الساخرة “الجميع يكتب بتعجل وارتباك، أحست أنهم جميعًا يتشابهون مع مكعبات السكر الراقدة إلى جانب بعضها في الطبق الشفاف لا يبان المكعب واضحًا بكل أبعاده، لأن جزءًا منه يختفي خلف مكعب آخر” (ص31).

في قصة (النول يغزل مرتين) نجد نسرين الابنة التي تتابع سيرة أمها حين كانت تجمع طفلاتها الخمس، تسهر معهن في حجرة الجلوس لتحدثهن عن النول، وكيف يغزل نسجه، ومع كل خيط تلتف خيوط الحكاية التي تنسجها مع نولها، ويتشكل نسيج الحكايا وخيوط النول حتى يكتمل النسيج، وكأنها تبغي من وراء هذا التواصل بين الأخوات ومنحهم دروسًا في التشابك مع بعضهما البعض والترابط فيما بينهن، يجب عليهن أن يكنَّ خيوطًا في ثوب واحد، يجب أن تلتف خيوطهن ليكون في النهاية النسيج المكتمل، ولذلك كانت تفرح حين ترى عيونهن تلمع، سعيدة بالحكايا وقد تحقق لها ذلك حين بقيت نسرين على العهد تبحث عن كتاب الحكايا، كتاب النول الذي لم تجد من أخواتها تجاوبًا معها في البحث عنه “فقد ظلت مهمومة بمعرفة الجانب الخفي الذي لا تعرفه مما لم تصرح به الأم” (ص34). من هنا جاءت فلسفة شراء البوصلة حين لم تجد النول الذي يبقي على النسيج حيًّا متوارثًا بين بناتها، اشترت البوصلة التي من خلالها تستطيع أن تعرف الاتجاه الصحيح الذي فقدته منذ ماتت أمها، لم تجد نسرين كتاب النول الذي ظلت تبحث عنه لفترات طويلة، من أين كانت تأتي أمها بكتاب النول هذا، من أين كانت تأتي أمها بالحكايا التي تلمع لها عيونها وأخواتها “وضعتها أمام عينيها وصارت تستمتع برؤية إبرتها تهتز يمينًا وشمالًا قبل أن تستقر على خط واحد يحدد الاتجاه” (ص36). نعم، حينما امتلكت نسرين الاتجاه الصحيح وعرفت طريق التواصل مع ميراث أمها من أخواتها البنات، رأت أمها في ذاك المساء تجلس بجوارها على السرير تحكي لها حكاية النول، رسالة تحمل الرضا والتواصل وامتلاك الطريق.

في قصة بيت الأرابيسك صور قهر متعددة تحاول المرأة التعايش معها حينًا والشكوي أحيانًا كثيرة، حين ترتبط برجل في كل مراحل حياته التي مر بها كان لا يعاش في كنفه، ولا يؤمن جانبه، كيف تعيش المرأة مع رجل لا تأمن جانبه، يهضمها حقها في الأمان والحرية والعيش المحترم “ظللت على يقين بأني أنام مفتوحة العينين، لأنني أتمدد في سرير قاطع طريق، ذي شارب رفيع، ووجه لزج يعود كل ليلة وعلى أظافره القذرة أثار دماء طازجة” (ص35)، صورة مقززة لا ترقي للآدمية بما في فطرتها من سلام وما يعلق في ثوبها من قيم، كما أنها وفي إحساسها هذا وبما يحيط بها من مناخ غير آدمي تتأمل لوحة تتماثل معها حين يكون للرجل السطوة والتحكم، ويصل لمرحل الدكتاتورية المطلقة “تضم صورة فتاة صغيرة، تسحبها يد رجل ضخم، وهي تسير خلفه، وليس سوى الضباب يمتد بينها وبينه” (ص37).

الأم تمارس القهر على بنتها قبل أن يمارسه عليها زوجها، فهي التي أجبرتها على الزواج منه لأنه يشبهها في تسلطها وجبروتها، لا يشبه أباها الطيب المسالم الذي يشبهها هي، أمها تجبرها على الزواج منه، كانت هذه الأم متسلطة ترى الزوج والابنة ساذجين، فمارست مع بنتها فعل التسلط لتزوجها من ابن عمها، وواضح أنها هددتها بالسخط والغضب عليها إن لم توافق، وهي بفطرتها استجابت لهذا الأمر، لكنها لامت نفسها بعد ذلك “كنت في سذاجة القطط حين صدقتها بأنها ستغضب، وسترحل إن لم أرض به، تدرك أمي دائمًا كيف تنفذ ما تريد بأي الوسائل، كيف تدير الرؤوس، وتلعب بالأفكار” (ص39). تتحدث الفتاة عن أمها كما تتحدث عن زوجها، وكيف نُقلت الوصاية عليها من هذه الأم المتسلطة لهذا الزوج الميت الذي لا يمكن أن تعيش امرأة في كنفه، رجل جعلها تعيش في بيت مفتوحة العينين، كما أنها لا تملك فيه فتح النوافذ “هكذا نقلت وصايتي منها إليه، وانا لم أكن مرة وحدي، في بيت امتلك فيه حق فتح النوافذ” (ص39).

نداوة الزمن

في قصة (خمسة وجوه لعالم حياة) نشاهد حياة في الوجه الأول وهي تحلم بشارع طويل معلق بين جبلين، حيث كانت تمشي وتمشي والطريق يمتد، حين وصلت حياة لسن الخمسين أحست بثقل العيش، وأن حياة مجبرة للاستمرار في الحياة، تلك الثقيلة الممتدة “حياة مضطرة للحياة” (ص41). في حكايتها الثانية حياة اعتادت أن ترسل رسائل لأصدقائها لإنقاذها لأنها وصلت إلى القاع تبحث عمن يشدها من يدها إلى أعلي، ينتشلها مما هي فيه لتواصل الحياة، ظلت تفعل ذلك مرارًا حتى وصلت إلى فقدها للقدرة على إطلاق النداءات، لأنها لم تجد من يستجيب، هو قهر من نوع جديد حين لا تجد من يسمعك، من يرد على تساؤلاتك، فلما لم تجد كانت محتفظة دائمًا بالإجابة، من خلال عبارتها المتكررة “إن كل شيء على ما يرام”. في حكايتها الثالثة تظل حياة رهينة غد لم يأت بعد، تظل تتابعه وتترقب وصوله، وتبحث عنه في كل مكان، وهو ضيف مخاتل ثقيل لا يستجيب للنداء أو التوسل، خاصة وأن (حياة) لديها حكايات لم تكتمل بعد تحتاج إلي نداوة الزمن كي تحقق ما تتمني منها “وهذا ما عذبها أكثر، وجود أشياء معلقة تحتاج إلى نهوض هي عاجزة عنه” (ص43). في حكايتها الرابعة تبحث عن كيفية نهوضها “ينبغي أن تنهض سريعًا، وأن تواصل العيش المطلوب منها، الدور الذي ينتظره الجميع” (ص 44). ما زالت حياة بين عالمين: يد تدفعها للأمام مقدمة لها وجبات مميزة من التفاؤل؛ لكن جاذبية الأرض تشدها للقاع حاملة لها متاعب الحياة وقسوة الأزمنة. في حكايتها الخامسة لما أحست بصعوبة تحقيق غد أفضل، والظروف غير مواتية تشدها للقاع، أرادت أن تغير ملامحها، تبحث عن وجه آخر غير هذا الوجه الذي لم تنل من ورائه ما كانت تبغي، ربما في تغيير الوجوه تصنع فألًا جديدًا، ربما تصل إلى ما تبغيه حين تكون إنسانًا غير الذي سبق “لبست ثوبًا حريريًّا زاهيًا، من اللون الفيروزي، جلست على كرسي صغير أمام المرآة، وضعت طبقة من الكريم على وجهها، بدأت في تمليسه ووضع طبقات لامعة فوقه، لامست على العينين والشفتين والجفنين، بدلت من ملامحها، صورة المرأة المشرقة الموجودة في المرآة، ليس لها علاقة بالمرأة الأخرى القابعة هناك في القاع” (ص44).

في قصة (ورق اللعب) التقت بطلة القصة بامرأتين كأنهما شبحان لم تخرج من لقائهما إلا بخوف جامح سيطر عليها أثناء وبعد اللقاء، المرأة الأولي هي من أتتها في مكان جلوسها، ملثمة لا يظهر منها غير عينيها، ألقت بأوراقها على الطاولة أمامها، عرفت من خلال ذلك أنها تريد أن تقرأ لها الطالع، الرؤية التي قدمتها البطلة لهذه السيدة تقول إنها امرأة غير عادية، غير طبيعية، ربما تتعامل مع أحد العفاريت ليعينها علي مآربها، خافت منها، سألت في مخيلتها صديقها الفيلسوف فأجابها جوابًا متخيلًا، إن هذا الأمر غير معقول، وأنها تتخيل كل ما حدث، حين دخلت الحمام وجدث امرأة تظهر في المرآة بمواصفات مخيفة كما حدث مع العرافة سابقتها، هنا ننظر لها بعد هذين المشهدين حين خلصت منهما حائرة مضطربة ما بين تصديق نفسها واللجوء لمعرفة رأي أصدقائها إذا حكت لهم، مهند حبيبها الغائب الذي فضل المال على الحب حين تركها وذهب إلى إيطاليا، يرسم الوجوه مقابل المال؛ لكنها في النهاية تركن لرأيه وترى أنه هو من سيصدقها حين تحكي له، وصديقها الفيلسوف لا يصدق هذا الأمر ويحيله إلى التخييل والهلاوس وإحالات العقل الباطن.

للكبار والصغار

في قصة مدينة الألعاب تخاف السيدة التي ذهبت لمشاهدة العرض مما يحدث في مدينة الألعاب، حركة الفتاة على الحبل والأسد الرابض على الأرض، الوحيدة بين المشاهدين الكبار والصغار التي أصابها الاضطراب “تجنبت مرارًا الدخول لمدينة الألعاب، إنها مكان مفزع بالنسبة لها، كل ما فيه يدفع للدوار، لأن الأشياء تكون في موضعها المناسب تمامًا، وفي العالم الخارجي الأشياء لا تكون على هذا الحال، العالم في الخارج مضطرب، ومدينة الألعاب تخلق اضطرابها الخاص، الذي تراه منظمًا مقارنة مع اضطراب العالم” (ص55). هذه المرأة يتجادل داخلها صوتان: الصوت الأول: أنها لو مكان لاعبة السيرك سيلتهمها الأسد لا محالة، وصوت العقل يقول لها إنها لاعبة سيرك، لاعبة تعرف كيف تمشي على الحبال الرفيعة، وصوت آخر يرد “لا يهم، لا يهم، لكنها قادرة على القفز، على التسلق ومراوغة الأسد والفرار منه دون أن يلتهمها” (ص56). صورة فيها إسقاط واضح على الواقع، على علاقة الرجل بالمرأة، المرأة هنا تمثلها الفتاة لاعبة السيرك القادرة على القفز والمراوغة، على التسلق والفرار، ومن هنا لا يستطيع الأسد التمكن منها، الأسد الذي يمثل الرجل هنا، وكأن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تربص، كل منهما يتحين الفرصة للوقيعة بالآخر، وإن كان هذا التربص وصف به الرجل، فقد وصفت المرأة بالمراوغة والفرار. السيدة خرجت من مدينة الألعاب لأنها لم تستطع التحمل، أحست باضطراب شديد، دخنت سيجارًا على غير عادتها، ذهبت للتفرج على عالم المدينة حولها “التي تتوزع إلى غرف بلاستيكية، وخيم تنطوي على حيلها وحكاياتها وخفاياها” (ص57). بعد هذه المشاهد المتتابعة لهذه السيدة بين داخل وخارج مدينة الألعاب وصلت إلى نتيجة إنسانية مهمة “في مدينة الألعاب تعود الأشياء إلى أماكنها المناسبة، ويبدو الأشخاص على حقيقتهم أكثر مما هم في الحياة” (ص59).

في قصة (الضوء) نموذج جديد لامرأة كفيفة، تتمتع في نظر الراوي بالحرية التي لا تتوفر له حين لا تقع ضحية المقارنة بين النور والعتمة، كانت الجارة الكفيفة تتسلي بالغناء، تعرف أن صوتها شجي ويدفع للبكاء، كانت تقطر أحزان بصيرتها في أغنيات متنوعة عن القدر الحال، حرة في رأي جارها لتجردها من المقارنة بين النور والعتمة، بعيدة عن إطار المعاناة التي عاشت فيه بطلات قصص المجموعة حين كان الصراع محتدمًا بين الداخل والخارج. سهى التي أحبت شابًّا يبحث عن العتمة، حتى في حبه لها عشق سواد ملبسها التي تتزيا به دون غيرها من بنات العمارة، حتى ضفيرتها السوداء كانت عاملًا من عوامل الجذب له “يوم صارحته سهي بأنها تحبه، رأي في عينيها ذلك الوميض الذي يخيفه، ويدفعه للهروب، لمعت عيناها السودوان بسطوع وبدا له اللمعان مثل خيوط تنطلق من عينيها لتكبله، فسارع بالفرار وتركها وحيدة” (ص62).

في قصة (محطة نيويورك بئر ستوكهولم) نجد هذا التباعد بين الحبيبين الذي رأيناه في القصة السالفة حين يقابل الرجل الحبيب حب محبوبته بالفرار والبعد، إحساس صعب حين تلاقي المرأة الحبيبة نتيجة حبها المخلص، الفراق بديلًا للقرب والوصال “كلاهما يعرف أن الآخر موجود في مكان ما من هذا العالم، كلاهما يدرك الآخر، وكلاهما يستمر في تجاهل الرغبة بتحويل هذا الإدراك إلى واقع، الخوف من الواقع، من مواجهة الحقيقة، يجعل كل منهما، ثابتًا في مكانه” (ص71).

تربط الذات الكاتبة العلاقة التي بين الحبيبين بالحرب التي شهدها المكان، تلك التي كانت شاهدًا على ما اتسمت به العلاقات بين الناس، الحرب والحب ثنائية ثقيلة الائتلاف، تصنع الفرقة بين المحبين، وكما تبيح كل أساليب القتال، والمراوغة، والتفاوض، والخديعة، فقد وسمت العلاقات بين الأحبة في زمنها بهذا السمت، صارت هذه الأساليب متواترة بين المحبين “لقد بدأت قصتهما مع الحرب، لهما بداية مشتركة، بدأت كوقع القنابل، بدأت كما تبدأ الحرب، واستمرت كما تستمر الحرب تمامًا، طالما أن أحد الطرفين يواصل فعل الكتابة” (ص71)؛ لكنها تعي جيدًا ما يفعله الحبيب من مراوغة وتهرب من المسؤولية، فهو الذي يتشرنق حول نفسه، ويبتعد دون أن يعي دوره في الوصل، وتقريب البعيد “يتوارى وينسج شرنقة حول نفسه ارتفعت حتى طوقتهن وغدا وعيه عاجزًا عن التملص منها” (ص71)؛ لكن الكاتبة/ الراوية ترى أن زمن ما قبل الحرب يختلف عن زمن ما بعدها “كما لم يعد زمن ما قبل السير على الخط، يتشابه مع السير نفسه الآن، ليس أمامهما سوى الانتظار، انتظار نهاية الخط أو تقاطعه” (ص72).

سحر المحبوبة حينما دُفنت البئر التي كانت تجلس في الحديقة قبالتها “صارت.. تأتي لتقعد على المقعد الخشبي المواجه للبئر المدفونة، يغمرها إحساس أن هناك ما دفن في داخلها أيضًا، صار منسيًّا ومهملًا مثل البئر التي اكتشفتها يومًا” (ص73). لقد قدمت الكاتبة عبارة مهمة عن هذه العلاقة “كان مولعًا بالانتظار، وكانت مخلصة للغياب” (ص77). وكأن كلاهما مع تقادم الزمن، وتباعد المكان، ارتضي ما وصلت إليه هذه العلاقة المشتركة، ما زالت الوحدة تطارد سحر بما تواجه في هذه البلاد الباردة من غياب للروح التي تؤنس، والقلب الذي يتسع للخلاف، والجسد الذي يستطيع أن يجعل مشاعره مادة مهمة لصهر البرودة، وبعثرة الضباب، وحلب السحاب “هدير القطارات يزحف داخل رأسها، جرس الكنيسة يرن فينبهها أن البرد سينتهي حتمًا ذات يوم.. أنين خافت، تتنهد ما زالت إذن.. في شارع مجهول لا يعرفها فيه أحد، يتسلل أزيز إلي جسدها، أزيز تتداخل فيه الأصوات المنهكة، يلامس الأعصاب العارية، فيتحول إلى طنين يذكرها بوحدتها، كل الوجوه غريبة هنا” (ص77).

سحر الغياب

إن سحر في كل مرة ترى حبيبها يتعامل مع وجودها بالغياب، يبحث دائمًا عن تحقق وجودها الغائب، عن العتمة التي يرى من خلالها الوجود ثم لا يراها، عن الضباب المحيط الذي لا يترك مساحة لرؤية الفضاء المحيط، حضورها حضور غائم مشبع بالضباب، فماذا يفعل كي يتحقق من وجودها، إنه يهتدي لسياسة الإيلام لأن “فعل الإيلام وحده سينقل وجودها في عالمه من خانة الحضور الغائم المشبع بالضباب والغموض إلى خانة الوجع، على أحدهما أن يجرح الآخر ليتأكد من حقيقته” (ص79)، إن ما يشغل حبيب سحر هذه المفارقة الغريبة، وإن كانت مقصودة بين عملية التشكيك الدائم في وجودها، وبين البحث الدائم عن تشكلات الحضور “لماذا لا يسحب منها طرف الخيط ويتحكم وحده باللعبة منهيًا بذلك كل تساؤلاته حول وجودها ككل في عالمه” (ص79). طول الوقت يحاول أن يصنع لنفسه الأساليب والوسائل التي تمكنه من التخلص منها، على الرغم من حضورها الدائم بجميع تفاصيلها في تفاصيله اليومية “لم يتعلم بعد وسيلة تخلص ذاكرته من تفاصيلها المتناثرة، رائحة القهوة المرة التي تحبها، قفازين من الدانتيل يتذكرهما كلما لاح له لون أسود، دمية يابانية صغيرة من الخشب، تزين مكتبته أهدتها له يوم ميلاده وقالت إنها تحتفظ بدمية مشابهة” (ص80).

هي علاقة من نوع خاص، هي لا تبحث عن حقيقته التقليدية من خلال طرق تقليدية، لأنك ستصل إلى طريق لا يصدق، ولا يمكن أن يقنن بالطريقة التقليدية التي تمنح الأشياء مسمياتها، إنها التفاصيل التى حكمت هذه العلاقة المغايرة فهي “لم تكن زوجته، ولا حبيبته، ولا عشيقته، كانت المرأة القادرة علي إيلامه بلا رحمة، بينما هو مشغول بتفاصيلها الصغيرة” (ص80)، نعم وهو كذلك لا يعرفها جيدًا إلا بالألم، ولا يتأكد من حضورها إلا بالوجع، وكلما توغل في الوجع، كلما اقترب من هذا العالم الضبابي الغامض “لم يكن في علاقتهما فرح منتظر، هناك انتظار دائم وقلق، وتساؤلات تشبه المستحيل، معلقة بين هاويتي الفراغ” (ص80).

الجروح العارية

صارت سحر تبحث عن التحرر والانعتاق من هذه العلاقة التي لم تحس فيها بالقرب الذي ينبغي، الهالات الضبابية المحيطة، والصقيع الساقط على كل الأركان جعلها تبحث عن علاقة أخرى، طالما أن حبيبها قابع مكانه في الضباب “البحث عن حياة موازية مفترضة، بديلة، كان يجب أن يكون هاجسها، أفول سريع خارج السيطرة، يدفعها للفرار، واعية بعمق ضرورة التحرر” (ص81)، باحت بذلك سحر، ولم تكن في حاجة إلى إخفاء مشاعرها، كانت على ثقة من أنه سيقدر بوحها هذا، كل منهما يبحث أن يرى جرح الآخر حتى لو كان ذلك كالرقص في العتمة، كلاهما يرقص من الألم، ويعلم برقص الآخر؛ لكنه لا يريد أن يراه، هنا في هذه المساحة من البوح تتداخل تفاصيل الجسد معلنة عن وجوده دون الكشف عن هويته داخل ذلك الفضاء الأعمى، ربما جميلة هي البدايات؛ لكن النهايات في أغلب الأحايين مؤلمة من كثرة ما تراكم عليها من شدة الألم، ومن هذه الجروح العارية التي تتعرى من الجلد الذي يحيط بها، واللحم الذي تفصله عن بعضه البعض حتى يكون الجرح فوق العصب الحساس فيكون الألم مميتًا، ها هما قد وصلا معًا لهذه الدرجة من الألم، هو غارق في عزلته وصمته وتفاصيله التي لا ترى، عاشق العتمة هذا قبل أن يغادرها يشعل النور، فتظهر التفاصيل، وتتضح الأشياء التي كان من قبل يعشق غموضها وعتمتها، ذابت التفاصيل تحت أشعة الشمس، لماذا انتظر حتى لحظة النهاية كي يسلط الضوء على تفاصيل ما بينهما ويخرج من عتمته، هو يريد أن يكفن ما حوته علاقته برداء أبيض أنيق قبل الذهاب إلى مثواه الأخير، حاول أن يداري عري جسده، لكنه جاء بعد فوات الأوان. يظهر مع الفضفضة سبب جديد لهذه النهايات الصعبة، إنه غياب الثقة “كانت تحكي ببرود في لقائهما الأخير قائلة بمنطقية: إذن دعني أسمي ما حدث بيننا أزمة ثقة.. لا، دعني أكن محددة أكثر لأقول أزمة ثقتك بي” (ص85). أصبحت سحر هي من تستطيع أن تتحكم في التخلص من النهايات الحزينة والبدء من جديد “جمعت الورقة في يدها، وألقت بها إلى سلة المهملات.. أمسكت ورقة بيضاء ناصعة تمامًا، كزت سن القلم، كانت تفكر في كلمة البدء” (ص88).

الكاتبة في هذه المجموعة تلح على دعم المرأة من خلال كشف معاناتها الإنسانية، وتشير إلي العديد من الأطراف التي شاركت في صناعة أزمتها، كانت موفقة في التنسيق بين الحدث والشخصية، فكلما قامت بتغيير حدثها ومشكلها الذي تعانيه شخصيتها النسائية، قامت في الوقت ذاته بتغيير الشخصية، لذلك نجد في المجموعة شخصيات متنوعة مما عدد حولها نماذج التسلط والقهر، جاءت (سلمي) فتاة ليل، يمتهن المحيطون الأقربون جسدها، كما يمتهن أهل البيت التي تخدم فيه آمنة جسدها وخصوصيتها، والطفلة التي تعاني بسبب مشاكل والديها، والأم التي تعاني الوحدة والعوز بسبب سفر أبنائها وتركهم لها وحدها، والزوجة التي تتزوج من رجل لا تريده، والابنة التي تعبت بعد موت أمها التي كانت همها ربط بناتها في نسيج واحد، والمرأة التي تعاني من صعوبة العالم حولها وترى نفسها في مدينة ألعاب، الأسد رابض يستعد لكي يلتهم الفتاة التي تلاعبه وتراوغه ولن يستطيع التهامها، كما يأتي نموذج الحبيبة (سهي) التي تعترف بحبها لمن تحب لكنه يعشق العتمة، و(سحر) التي يقابل حبيبها قربها بالبعد عنه، يتضح مما سبق هذه التشكلات المتنوعة لنماذج المرأة؛ لكنها تتفق جميعًا في هذا الحس الاغترابي، وهذا الجسد الهش الذي صنعته علاقات الواقع غير السوي، وفرضته ظروفه الكرتونية الهشة للعلاقات بين المرأة، وما يحيط بها من أشياء.

د.شعيب خلف

مجلة ( ميريت ) الثقافية

زر الذهاب إلى الأعلى