ثلاث مسافات من الغاردينيا

في مشهد من طفولة بعيدة، على شرفة بيت يمكن رؤية جزء من البحر عبرها، أذكر بوضوح مشهد جدتي وفي يدها إبريق مُخرم لري النباتات، تنحني برفق على زهرة الغاردينيا، وتتلمس أطرافها، وهي تغني لنفسها بصوت خافت أغنية “يا وردة الحب الصافي تسلم ايدين اللي سقاكي” م تكن جدتي تسمح لأحد بالاقتراب من نباتاتها التي تشغل سور الشرفة كله بزاوية قائمة، أصص جردينيا وورد جوري، وشجرة فُتنة (ياسمين هندي) ونباتات حبق وريحان، مما يٌشعر زائر تلك الشرفة بالانجذاب الحتمي إلى غواية الرائحة، والثمل بعطر الورد الجوري الأحمر الذي يتجاور مع بياض الياسمين فيشكلان لوحة في منتهى الجمال.

كنت أقترب سرا من بتلات الغاردينيا، أشمها، أتلمسها، يجذبني صغرها ورائحتها النفاذة التي تتفوق على رهافة الياسمين الخجول، لم أكن أقطف أي زهرة، بل إني أحس بالذنب لو فعلت، كما لو أني سأنتزع طفلا من حضن أمه.

ظلت العلاقة مع الغاردينيا ترتبط عندي بتلك الذاكرة البعيدة، جدة تُشبه ملامحها ليلى مراد في شبابها، ترتدي ثوبا أنيقا وبسيطا وتسقي ورودها، لكن هذا المشهد سيتغير تماما بعد عدة أشهر، حين تتساقط القذائف من حولنا ، ويصير من العبث البقاء في منزل سوف تتهدم شرفته لاحقا وتتناثر وروده، كان السؤال الذي طرحته على جدتي ونحن نوشك على مغادرة البيت، وبذاك العقل الطفولي الجاد : “من سوف يروي تلك الورود والنباتات بعد مغادرتنا؟” ولما لم أجد اجابة، أردفت بعبارة ” لماذا لا نأخذهم معنا؟”

ظللت لأيام أفكر أن جدتي بتركها ورودها في البيت، هي لا تُحبهم بالقدر الكافي الذي يجعلها تغامر بأخذهم معها ، لزمني كثير من الوقت لأدرك أن ليس ثمة فعل خيانة في الأمر، وأن هناك منطق آخر للحرب، يحكم الحياة ككل في لحظة ما.

هكذا وبسبب الهجرة القسرية صرت أُراقب رحلة نشوء حديقة جديدة في مكان آخر.. هذه المرة بدت المساحة المتاحة لزراعة الورد أكبر من الشرفة، جنينة من عدة أمتار هي جزء من بيت صغير، مساحة من التراب تُغري أصحاب القلوب الخضراء في تقليبها وزرعها وريها..الجنينة التي أزهرت بعد عدة أشهر تفتحت في احدى زواياها شتلة غاردينا جديدة، بيضاء مزهرة، ضواعة بعطرها الذي لا يمكن ادراك خطورته إلا بعد الاقتراب منها، لثمها، شمها، وتذوقها أيضا.. مرة واحدة فقط تجرأت على مضغ أوراق الورد الجوري الأحمر، وجدت مذاقه أقل حلاوة من رائحته ، بعد مرور سنوات عدة سوف أكتشف أن هناك مربى الورد، الذي هالني تخيل طريقة غمر أوراق الورد المنزوعة عن أمهاتها، بالماء والسكر وطبخها على النار كي تُصبح وجبة حلوة على شكل طبق مربى، لم أتمكن من استساغة الفكرة ولا طعم مربى الورد.

***

مشهد2

لما انتقلت للحياة في القاهرة، وفي بيت يقع على شارع الهرم، تُطل شرفته على الشارع الصاخب بالمارة والسيارات والميكروباصات، بدأت مغامرة جديدة مع النباتات، السؤال لمعرفة ما هي النباتات التي تحيا بقوة ولها عمر طويل هنا. تقول جارتي التي تسكن في الطابق الثالث عشر، أن نبتة البوتاس تأتي في أولوية المزروعات، ماذا عن الغاردينيا، والورد البلدي، والفل والياسمين؟ ترد بتشكك :” جربي، بس عمرها قصير”.

أضع  نباتاتي الجديدة في أسفل سور الشرفة، أصص فيها  نبتة غاردينيا ، وورد بلدي، وريحان ونعناع ، ونبتة بوتاس في الجانب الظليل، تؤكد جارتي أن البوتاس يحب الضوء لكن أشعة الشمس تحرقه ، أحرص على رعاية مزروعاتي أسقيهن بالماء المذوب فيه ملعقة صغيرة من السكر وحبة من الأسبرين مرة في الأسبوع وفق نصيحة أمي، أرش الأوراق بالماء، أقلب سطح التربة على مهل، وأنتبه أن لايصيبهن العطش ، لكن زهور الغاردينيا ظلت عزيزة على الظهور، وحين تظهر براعمها تتفتح زهرات صغيرات، تظل في عمر الطفولة، ولو طال زمنها فإنها تنفلش قليلا مثل سيدة مندفعة تعرض كل ما لديها، ثم تلملم حاجياتها وتمضي بسرعة.

***

لطالما خمنت أن ثمة أرواح تسكن النباتات والأشجار، وأن تلك الأرواح تختلف مع اختلاف نوع النبتة، فالروح التي تسكن ياسمينة، لها من الهشاشة والخفة ما لا يمكن مقارنته مع روح شجرة سنديان عتيقة، أو شجرة أرز مضى على وجودها مئات السنين.. التقادم الزمني في عمر النبات يشق طريقا خصبا في عالم النزاع الروحي، بحيث نلاحظ بسهولة كيف أن شجرة  راسخة تم اقتلاعها من أرضها تشق طريقها لتبزغ من التراب عبر فرع صغير يخرج للوجود بقوة معلنا عن استمرار حياة الشجرة الأم.

أذكر في إحدى الزيارات العائلية لأقارب في الجبل – أقصد جبل لبنان – كان في بيتهم جزءا زجاجيا من سقف مائل في إحدى الغرف المطلة على نتوء جبلي فيه أشجار حور وصنوبر خيل لي أنها قريبة جدا ، تزامن أن كنت هناك ذات شتاء، حين انهمر المطر بغزارة، وكانت الرياح تعبث بالأشجار فتميل تجاه السقف فيخيل إلي أنها لابد ستسقط مُهشِمة السقف المائل، لكن هذا لم يحدث بل كانت أوهامي وحدي، بسبب حفيف الأوراق، واهتزاز الأغصان  المتداخلة مع صوت الرعد العواصف.

بعد سنوات حين قرأت كتاب “معجزات زن”، تذكرت هذا السقف وأنا أقرأ حكاية امرأة تسكن في بيت شبه زجاجي بالكامل داخل مكان يشبه الغابة، وبأن بيتها تتشارك فيه مع الأشجار والطيور وكل المخلوقات البرية التي لا يفصلها عنها سوى عازل يكشف لها ما يحدث في العراء. تضطر هذه المرأة في لحظة ما إلى بيع بيتها لأنها لا تقوى على تكاليفه، حين يأتي المشتري يبدأ في اظهار انزعاجه- من النباتات والأشجار التي تطوق المكان- كي يُبخس البيت حقه في السعر، طريقته المزدرية في الحوار دفعتها أن تعدل عن قرارها، ليس هذا هو المشتر المناسب للسكن في بيتها الذي أحبته بكل جوارحها.

مشهد 3

بعد الانتقال لمدينة 6 أكتوبر، كانت المحاولة الثالثة للحياة مع زهرة الغاردينيا .. تفاءلت بأن المكان هنا أقل تلوثا مع وجود أشجار البانسيان التي تُلطف الأجواء، قلت أنه آن الأوان لمحاولة جديدة.. حين كنت في أحد شوارع المعادي، لمحت مشتل تصطف فيه هذه النباتات إلى جانب بعضها لتشكل مسارا من اللون الأبيض الساحر الذي يتجاور مع  أوراقها الخضراء الداكنة واللامعة ، شممت عطرها عن بعد، استدعتني رائحة عتيقة مؤثرة، تجلب مسرات كثيرة . حفظت نصائح البائع بدقة حول طريقة  نقلها من الآنية الحديدية إلى أصص أخرى؛ إذ يجب نقل النبتة بعناية دون تقطيع الجذور.. كنت مبتهجة جدا بحضور صديقتي الجديدة،وضعتها عند نافذة المطبخ، بحيث يمكنني رؤيتها ومناجاتها على مدار اليوم، فقد خبرت  من طول التجربة  أن الغاردينيا حساسة جدا للاهتمام والرعاية، تحب الأجواء الرطبة، وتحتاج إلى جو دافئ ليلا ونهارا ليس حارا وليس باردا، لذا لن ينفع تركها  في الخارج ، هنا عند النافذة يصل ضوء قوي وغير مباشر، مع هواء متجدد باستمرار.

في اليوم نفسه أحضرت مع نبتة الغاردينيا شجرة ليمون صغيرة، استقرت في أرض الحديقة، وسرعان ما تأقلمت مع التربة، وانسجمت بمجاورة شجرات أخريات مثل شجرة جوافة كبيرة تصل أغصانها إلى نافذة الجيران، لكن طرحها للثمر عزيز جدا ولا يتجاوز خمس أو ست حبات في الموسم ، وشجرة مانجو واعدة، مع شجرة نارنج كريمة الثمار لكنها لاذعة بشدة، فيصعب تناول ما تجود به.

في عزلة كورونا، وبغرض البحث عن أنشطة إضافية لتبديد الملل، وتنويع الجهود البدنية، عادت الزراعة ضمن أولويات اهتماماتي، مضيت إلى أقرب مشتل لشراء بذور وشتلات، وسماد، وتربة خصبة.. اشتركت في جروبات لتبادل الخبرات الزراعية، إلى جانب فيديوهات اليوتيوب التي تقدم  تجاربا شخصية تنتج عنها وعودا بمحصولات بيتية من الطماطم والخيار والجرجير والكوسا.. تنجح المحاولات مع النعناع والبصل الأخضر والزعتر والريحان، بينما شتلات الخيار التي وصلت لمرحلة الاِزهار لا تلبث أن تذبل بين ليلة وضحاها. أسأل أهل العلم والخبرة، تأتيني النصائح الذهبية والاجابات المختلفة، التي تصب كلها في جملة واحدة :” لابد من المحاولة مرة أخرى.”

لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى