شهادة : مواجهة الفناء
ماذا يمكن للروائي أن يكتب في لحظة الدم؟ هذا السؤال الذي لا يمكن حصره فعليا عبر اختصار ما يحدث بأنها” لحظة دم ” فقط، لأن السؤال في بعده البراغماتي سوف ينفتح على تأويلات شتى تتشعب لتشمل الخراب الذي ينخر الواقع العربي المشرع على بلدان يرعاها إله الحرب ، حيث التهجير والفقد والموت،بتر الجذور وفقدان الانتماء؛ هناك أيضا اللجوء الاجباري ولحظات الحنين القصوى؛ ثمة أيضا خوف قصي ودان، متوغل في تعتيم المعنى أو تضبيبه بحيث تختلط الصور فلا تبدو مفهومة، تمكن من قراءة المشهد العبثي الذي تحول إلى كرنفال وثني.
من الممكن للروائي أن يكتب عن ذكرى شجرة ياسمين في ساحة الدار، بالتوازي مع أهمية تدوينه انتشار رائحة البارود في شارع كان يحتفي بالبهجة في زمن يبدو الآن موغل في القدم، ولا يمكن التنبئ باحتمال عودته القريبة إلا عبر أمنيات تصعد إلى السماء مع تنهيدات حارقة تيقن أن الوقت سيطول.
إن الوقائع اليومية التي يقف الكاتب شاهدا عليها، ليست جزءا من كابوس طويل، بقدر ما هي مزيجا ساما من تفاعلات سياسية وإقتصادية ودينية تعمل على تعميق إحساسه بالعجز عن التغيير، وإدراك أن المنظومة الكبرى التي تُسير هذه البلاد تحتاج إلى تغييرات جذرية كي لا تستمر النتائج كما هي الآن.
الروائي بوصفه شاهدا على عصره بشكل أو بآخر، سوف يجد نفسه متورطا مع لحظة الدم أيضا..سواء بالكتابة عنها في زمنها، أو اختزالها في ذاكرته لتحضر على شكل واقعي أو شبحي في نصوصه، ولعله من البديهي أيضا في كل مرحلة تحدث فيها تحولات كبرى أن تُنتج أدبا يعبر عنها، خاصة أن المنطقة العربية توالت عليها الحروب والثورات بشكل متلاحق، بحيث لا تكاد تمر عشر سنوات كاملة من دون وجود حرب أو ثورة في هذا البلد أو ذاك. إن النتاج الروائي العربي بغزارته وتنوّعه، وبالوتيرة المتصاعدة التي عرفها منذ قرابة خمسين عاماً، شكل رافداً إبداعياً مهماً يعكس بالإضافة إلى الواقع؛ التفاعل الفني والمعرفي والحدثي، والثقافي والاجتماعي لكل حقبة زمنية، لأن عمل الروائي هو البحث ثم البحث، والعثور على بدايات الأشياء، وما ورائها، ثم الكتابة من وسط المنطقة التي تتداخل فيها الأحلام، بالخيالات والكوابيس، بالأشباح والدمى الناطقة، مع احتفاظه بايمان شخصي بالقدرة على الاستمرار ومواجهة الفناء بالكلمات.
…
- نشرت بمجلة ” الجديد” اللندنية
د. لنا عبد الرحمن