أخاف الكتابة عن نجيب محفوظ
اعتراف لابد منه ربما يكون بعيدا ..
كانت الأم تتحرك في المطبخ حركات سريعة، ربما تعد شيئا للطهو، أو قالبًا من الحلوى، صوت الراديو جزء لا ينفصل عن حركتها المطبخية، البنت الصغيرة التي تراقب أمها تلاحظ ملامح الفرح التي هاجمتها فجأة عند سماع خبر ما..ثم مسارعة الأم لتنقل الخبر لصديقتها عبر الهاتف، قائلة : ” نجيب محفوظ أخذ جائزة نوبل”.
سوف تمر أعوام عدة قبل أن تعي الطفلة دلالات الخبر. وقبل أن يصير اسم هذا الرجل مفتاحًا سريًا في سنوات الصبا، لكسب رضا الخال الغاضب حين يفاجئ شباب وصبايا العائلة وهم يقرأون كتبًا لا تعجبه، فيبادر بالهجوم، قائلًا :” هه..أنت.. ماذا قرأت لنجيب محفوظ؟” هذا السؤال الصارم والاتهامي تحول إلى “فوبيا” بين مراهقي العائلة نتج عنها تبادل الروايات المحفوظية تجنبًا للسخرية والغمزات الدالة على الجهل.
صورتان من أيام الطفولة، والصبا، ترتبطان بحضور نجيب محفوظ كروائي متفرد. صورتان ليس لهما صلة بالأفلام المأخوذة عن أعماله، ولا بحياته أو أسباب شغله هذه المساحة التي تخصه وحده. صورتان تسربتا إلى العقل الواعي عبر آراء آخرين، وكان علي العثور على علاقة أخرى تجمعني مع محفوظ، غير فرحة الأم، ورضا الخال عند معرفته بأني قرأت ” بداية ونهاية”، أو ” رادوبيس” أو أي من الروايات الموجودة في مكتبة البيت.
**
تخيفني الكتابة عن نجيب محفوظ، ثمة رهبة محيرة تنتابني- هذه هي الحقيقة- تخيفني حد الهروب، والحاجة إلى قرار المواجهة والتساؤل عن مصدر هذا الخوف؟ ما الذي يمكن قوله أكثر مما قيل ؟! كيف لا تتحول كلماتي إلى “كليشيهات” متشابهة، وتنجو من فخ الابتذال! هذا هو تحديدًا ما يخفيني، فالأمر بالنسبة لي أكثر تركيبا وعمقًا، من الحديث عن روائي عظيم، أو رجل نبيل، للتأكيد على عظمة إبداعه أو نبل روحه، هو لا يحتاج لشهادتي كي أؤكد على ما قيل، فهناك من عرفه عن كثب، ومن قرأ أعماله مرارًا وسيكون قادرًا على الكلام في هذا الجانب أفضل مما سأفعل.
عما سأحكي إذن! هل أكتب عن رؤيتي الخاصة لهذا الراهب الصوفي.. الرجل الأسمر النحيل، الذي تمنيت سماع صوته عن قرب، أعترف أني تمنيت لو أمسك يده أيضًا، هذه اليد التي ظلت طوال عمرها مؤمنة بعمقٍ بجدوى الكتابة،لم يساورها شك أو تراجع. يد نبيلة تكتب بصمت ويقين.
كنت كلما سمعت أو قرأت شيئًا يتعلق بـ”أحفاد نجيب محفوظ”، أو ” كتابة رسالة إلى نجيب محفوظ”. يتكرر سؤال في داخلي: ” هل يكفي لنا حقًا ممارسة فعل الكتابة، لنكون من أحفاد محفوظ؟ ألا ينبغي أن يكون ثمة تقاطع ما، أو تشابه في العلاقة مع الكتابة فتلتقي عند نقطة ما مع الرؤية المحفوظية للكتابة والعالم؟
تقفز إلى ذهني رواية ” أولاد حارتنا”. .ثمة دماء تنتقل من الأجداد للأحفاد؛ هذا أمر بديهي في علم الوراثة. أما في الكتابة فالأمر أكثر رحابة وشمولية، حيث تنتقل الجينات عبر الكلمات والأفكار والصور. لا يمكن لكاتب عربي مهما تباين أسلوبه أو عالمه عن عالم نجيب محفوظ وكتابته، إلا بأن يتوقف طويلًا متأملًا في تجربته الإبداعية ككل. هذا التأمل الذي يحدث بوعي أو من دون وعي، يظل متفاوتًا حسب الجينات المسافرة، فيترك عند البعض حالة من الدهشة بسبب الشخصية الروائية، أو اللغة الخاصة التي امتلكها، أو قدرة التعبير؛ أيضًا ولعله الأهم:الإخلاص لفعل الكتابة. هذا الإخلاص الأقرب للزهد أكثر ما يشدني في تجربة محفوظ، إيجاد إيقاع شجي للحياة والكتابة وللآخرين، من دون أن يخدش هذا أي شيء في جوهر روحه؛ وبالتوازي مع الإخلاص للكتابة أسرتني شخصية إحسان في ” القاهرة 30″، وكمال عبد الجواد في الثلاثية”، وحكايات ” الحرافيش” وهزائمهم، وكما سيطر علي الخوف المبثوث في صفحات ” اللص والكلاب”، و ” الكرنك”.
**
الأشياء التي تبدو في أماكنها، في روايات محفوظ، هي ليست كذلك، سرعان ما يتلاشى بريق العالم المنظم، وتحل مكانه فوضى هادئة، تتسلل رويدًا رويدًا لتعبث بالحيوات الرتيبة، تعيد تشكيل وعيها أو تنعطف بمسارها نحو المجهول. هذا ما أدركته في المرحلة الثالثة من إعادة قراءتي لروايات محفوظ. كان الدافع كتابة بحث عن ” الثورة في أدب نجيب محفوظ”، ومن هنا كانت العودة إلى رواياته من جديد. هذه المرة بدت لي الرؤية أكثر نضجًا، وربما أكثر إصرارًا على القراءة والتحليل، وعدم التراجع. عالم محفوظ شاسع جدًا على الرغم من حدوده الموهومة. وأنا أعد البحث كنت أفكر كيف لكل هذه الكتب أن تتناول تجربته بكل هذا الزخم والتنوع؟ تجربة إعداد البحث خرجت منها بأن هناك ما يقال دومًا، وأن فكرة عدم السقوط في فخ الابتذال تتلاشى عند استيعاب اختلاف التجربة والمتلقي لروايات محفوظ. حكاياتنا لا تتشابه عنه، ولا كتابتنا، حين نحكي عما يخصنا وحدنا، وعن جمالية تلقينا الخاص لحالات أبطاله بكل أفراحهم ومراراتهم، وتنوع مواقفهم في الحياة. في هذه القراءة الثالثة تعلمت رؤية التاريخ من زاوية جديدة، تخليت عن قناعاتي المسبقة في صواب الاتجاهات والنوايا، ولعل هذه الرؤية حررتني من هاجس خوف الاقتراب من عالمه، أو التساؤل عن مدى وجود صدى لكلماته فيما أكتب. لم يعد هذا يشغلني، ولا يخيفني لأن صدى الكلمات أبعد مما أظن.
نجيب محفوظ..أيها الجد الأكبر..لروحك السلام.
—
* شهادة ألقيت في الندوة التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة بعنوان ” أحفاد نجيب محفوظ ” ديسمبر 2013
د. لنا عبد الرحمن