الكتابة هي الطريقة الوحيدة لعيش الحياة

 

 

تجربتي في الكتابة.. أن  تناول هذا الأمر بالنسبة  لي ليس بالهين  على الأطلاق،اذ أن مجرد فكرة التساؤل عن ماهية الكتابة،أو لماذا نكتب،يبدو لي شاقا،وعصيا على وضع صيغة معينة لفعل الكتابة أو لتجربتها،فالكتابة  حسب الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس” ليست وسيلة للعيش إنما طريقة عيش” لذا سأكتفي بالحديث عن تجربتي في الكتابة التي تعود بداياتها لأعوام بعيدة،من الممكن أن أربط بينها وبين فعل القراءة،الذي كان النواة الأولية لادراكي أن الكتابة لا غيرها  ستكون طريقتي الوحيدة لعيش الحياة.

أعتبر نفسي محظوظة لنشأتي في عائلة تهتم بالقراءة، أمي تحديدا منذ  الطفولة كانت تشتري لي الكتب وتحرضني على القراءة ، ربما لهذا السبب ظلت علاقتي بالكتب وطيدة رغم انتقالنا بسبب ظروف الحرب الاهلية بين بيروت دمشق، الجبل والبقاع، ثم بيروت مرة اخرى. ظلت هناك مكتبة في كل بيت كنا نسكنه.. هذه الالفة مع الكتب جعلتها   مخلوقات نبيلة تعيش معنا، لذا لم يكن أمامي في أيام البرد في الجبل،سوى الاحتماء بالكتب هروبا من البرد والملل، كانت القصص تأخذني الى عوالم ساحرة وبعيدة، يخيل إليّ انها حلم وأنني لن أكتشفها في يوم من الأيام.لذا فيما بعد حين جاء فعل الكتابة،لم أحس أنه منفصل عن فعل القراءة،وكما لو أن  البداية هي وصل لمرحلة سابقة،ثم كان علي النظر إلى كتابتي  من خارج ذاتي،رؤيتها بموضوعية وحياد بعيدا عن الانفعال الشخصي.

كان أكثر ما يشغلني أمرين،حدث الموت،ربما لأني واجهته كثيرا منذ الصغر ،ثم العلاقة مع المدينة.

انشغالي بالموت جاء من ذاكرة الحرب، من هنا جاء عنوان مجموعتي القصصية الثانية “الموتى لا يكذبون” فقد حاولت في بعض قصص المجموعة ملامسة فكرة الغياب المادي للجسد وحضور الروح المبهم،الغامض،هذا ما فعلته في القصة التي حملت عنوان المجموعة،كذلك تناولته من قبل في مجموعتي القصصية الأولى “أوهام شرقية”،عبر قصة “تقمص” وقصة  “”لون مر””،وقصة “المعبر”.

رغم أنني لم أحيا الحرب مباشرة،بعبارة أكثر دقة كشخص راشد،لقد شاهدت بعين الطفولة جزء منها،وفي مراهقتي عشت إفرازات الحرب وآثارها  على المجتمع،لكن علي التنبيه هنا لأمر  يعرفه الجميع وهو أن ذاكرة الشعب اللبناني مليئة بالحروب،لا يمكن أن يغيب هذا الأمر في الواقع،لذا لا يمكنه أن يغيب في الكتابة، لا أقدر أن أقول أن كتابتي هي عن الحرب بشكل مباشر، بل إن ما كتبه الكتاب اللبنانين الكبار في أعمالهم الروائية يشكل تأريخا لكل بشاعات الحروب وإفرازاتها المسمومة على جيلها وعلى الجيل الذي تلاه، من هنا لا يمكن لجيلنا أن يكتب أروع مما كتبوا هم عن الحرب،هنا أنا لست في صدد المقارنة طبعا،لكن كما أظن أن  كتابة جيلنا تعنى بالأثر الأجتماعي لما بعد الحرب وليس بالحرب نفسها كوقائع.كان التلميح  النقدي الذي وجه لكتابتي سواء في المجموعتين القصصيتن المذكورتين،أو في روايتي الأولى “حدائق السراب” هو نبض الأبطال بذاكرة الحرب،ووجود أثر نفسي مباشر على سلوكهم وردود أفعالهم.هذا صحيح إذ لم يكن بامكاني التطهر بسهولة من ذاكرتي ومن مشاهداتي الراسخة في العمق.

تنبهت لهذا الأمر أكثر  بعد كتابة  روايتي “تلامس” التي صدرت هذا العام  حيث  تحضر الحرب حتى الجزء الأخير من الرواية كصورة خلفية للنص،تحضر عبر نتائجها على شخصية الأب،الأم،الجدة،العمة المصابة بالجنون ،لكن الرواية تنتهي وقائعها بحرب جديدة (حرب تموز)،أي تنفتح على معاناة أخرى للجيل الشاب.لعلها بقايا الحرب يضاف إليها دخول العولمة إلى حياة الناس،هذا لم يهز المجتمع الللبناني فقط،ربما أثر على كل المجتمعات العربية بشكل أو بآخر،لكن  في رواية “تلامس” حاولت رصد شريحة اجتماعية معينة من المجتمع اللبناني (الطبقة الوسطى)،التي لا تملك  وسائلها  الكافية للصمود ومقاومة التيار،مما يؤدي لانسحابها لذا بدت الشخصيات متجاوبة مع واقعها،لأنها جزء منه.لعلي انشغلت أيضا في الحديث عن  الصورة المعبرة عن لبنان فى الاعلام،والقول أنها  ليست الصورة الحقيقية ولا تغطى كل شرائح الشعب اللبنانى مثل الدراما المصرية التى  تقدم القصور والفيلات  فإنها لا تغطى كل الشعب المصرى والقاهرة المقدمة تختلف عن قاهرة الافلام.

أما المدينة في الكتابة  فهي “بيروت” هي المكان الدائم الذي أكتب عنه،إنها أرضي وساحتي التي لم أتمكن من الخروج منها بعد،رغم أنني لا احيا علاقتي معها من بوابة “التعلق” بالمكان كواقع،بل من شرفة الحرية،حيث رؤيتي لها وعلاقتي بها متحررة من التعلق المكاني المرهق،

فالأماكن ماديا  لا تشكل لي شيئا ،أشعر أنى أحيا ضمن مربع كتبى وأوراقى، وأعمل على تحرير نفسى من الارتباطات بالأشياء والتعلق المميت، أعيش الحياة داخليا أكثر، لذلك العلاقة مع بيروت تبدو لي علاقة نفسية وكتابية أكثر مما هي واقعية،ربما لأني باستمرار أغادرها وأعود إليها،أمارس رؤيتي لها عن بعد وقرب،من الداخل والخارج،بكل عللها وحسناتها،لأعرف أن لامفر لي منها،من هنا ظل هاجس المكان لا يسيطر علي واقعيا لكنه يعنى لي ابداعيا الكثير،فكما أني لا أستطيع تغيب الشخصيات في نصوصي،لأنها محور العمل،كذلك لا أستطيع تغيب المكان الذي هو المدينة ( بيروت).

مازلت  أتطلع   للكتابة  عن “الحب”، لأني لم أكتب عنه بجوهره الحقيقي كقوة شافية للروح، ومحرضة على الحرية  والسلام،لا أعني “الحب” فقط بمفهومه المحدد بين رجل وامرأة يتكاملان،بل أعني  رؤية الإنسان من داخله بعين الحب القادرة على رؤية كل الفرح الموجود على الأرض،وكل آلام البشرية في آن معا، عين الحب الواعية،المتجددة مع كل فجر تمنح الرحمة،الحنان،الدفئ،وأيضا القسوة المتناغمة لتقويم النفس ودفعها للنهوض دوما من عثراتها،وخيباتها.

هذا الحب اليقظ وجدته عند “كزانتزاكيس” في نصه الرائع “تقرير إلى غريكو”،تماما كما وجدته بشكل آخر عند “ماركيز” في  روايته “الحب في زمن الكوليرا” وعند ايزابيل اللندي في روايتها “ابنة الحظ”، عذرا اذا كنت أورد هذه الاسماء لتوضيح فكرتي،لكن حسبي أني أحكي عن أشخاص لي من ألفة الحياة والوقت معهم حد أنه لا يمكن بالنسبة لي إلا اعتبارهم مرشدين على مدى العمر والكتابة.

حتى هذه اللحظة أسأل نفسي “لماذا أكتب” فلا أجد أي جواب سوى ان الكتابة تمنحني  غبطة داخلية من نوع خاص لا يمنحها أي شيء آخر، من دون الكتابة أحس بجفاف داخلي ونضوب، لذا أواصل الكتابة استجابة لظمأ ذاتي لا يرتوي.

د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى