عندما تعتمد الكتابة الجديدة فن السرقة عبر الكولاج

 

 

تذويب المعاني، محاولة إخفاء معالمها مجازاً، ثم إعادة تشكيلها بسهولة، تحديدها، نسخها اختزالها إلى جمل وفقرات عائمة، تجهيل المصدر، نسبها إلى شخص آخر، إلى صفحات أخرى، لعبة تآكل للأصل تفرضها شبكات التواصل الاجتماعي، ولا ينتمي هذا بالطبع إلى فن الكولاج المحدد تعريفه بأنه “تكنيك فني يقوم على تجميع أشكال مختلفة لتكوين عمل فني جديد”، هنا ليس ثمة عمل فني جديد يتشكل، بل عملية تعمية تتداخل فيها الحقائق والتمويهات، ولا يُمكن الكشف عنها بسهولة.

وإذا كانت الحياة الاجتماعية أصبحت في جزء كبير منها حياة إلكترونية، وهذا ليس خياراً بل ضرورة ملحة عند كثير من البشر، فإن الحياة الإبداعية أيضاً تنتظم بشكل ما داخل وسائل التواصل التي أصبحت صلة أساسية لِإطلالة المبدعين على العالم، يراقبون من خلالها ما يحدث حولهم، ويخضعون للمراقبة في الوقت ذاته.

ساهمت الحياة الإلكترونية – الإبداعية، في تكريس حالة من تسيّل المعاني والأفكار والآراء واستباحتها. في مستوى مصغر لا يمكن رصد كم الأفكار المنسوخة من بعضها، حيث لا يمكن معرفة أو اكتشاف القائل الأول إلا عبر تكريس وقت كاف لترصد وتتبع حركة المحاكاة والاستنساخ الحادثة تباعاً بشكل عفوي ربما في بداية الأمر، ثم عن قصد لاحقاً.

اختار العديد من المبدعين الابتعاد عن منصات التواصل تماماً، رفضوا التواجد عليها أو إنشاء صفحات خاصة، رافضين ما يمكنها أن تمنحهم من حضور جيد وسط جمهور يبحث عن كاتبه المفضل، معتبرين أن كل ما يحدث من حضور افتراضي غير مجدٍ في مقابل عزلة حقيقية لصالح القراءة أو الكتابة، أو الانغماس في اهتمامات بعيدة من الإبداع.

 

شرفة وشارع مزدحم

فئة أخرى رأت أن الإطلالات الافتراضية لا تقل جدية عن الوقوف على شرفة تُطل على شارع مزدحم، حيث لا يمكن للمرء أن يتفوّه بكل ما يخطر بباله لأنه مرئي ومسموع من المارة والعابرين، وإن كان محمياً ببعد المسافة عنهم، إلا أنه لن يكون محمياً من رشقات سكاكينهم الافتراضية، لذا تعامل هؤلاء بحذر وانتباه مع كل ما يقولونه ويفعلونه على هذه الشبكات، الغاية محددة هنا إنها تواصل ضيّق في حدود عملية لنشر رابط ما، أو للتعليق على منشور يرونه مهماً، أو للتواصل المهني والإبداعي بشكل تلغرافي ومقتضب، هذه الفئة الثانية لن نجد لها حضوراً فعالاً ويومياً، ولا مشاركات باليوميات والتفاصيل الحياتية والشخصية، إنها مجموعة اختارت النأي عن المهاترات المحتملة والتضحية بالمزايا الانتشارية والإعلامية، وفي الوقت نفسه عدم الانفصال تماماً عن الواقع الجديد الذي فرض نفسه على الحياة الإبداعية.

الفئة الثالثة الأكثر حداثة واندماجاً وتقبلاً لتغيرات الواقع والعوالم الافتراضية، وقبولاً للمزايا والعواقب، بدت أكثر تفاعلاً وإسهاماً في الحضور والمشاركة اللحظية لكل أحداث الحياة، تحديث صفحاتهم الشخصية مرات في اليوم ومتابعة صفحات الآخرين والتعليق عليها والتفاعل معها، واستبدال المعارك الأدبية التي كانت تحدث على الصفحات الثقافية في الجرائد والمجلات، وفي المقاهي سابقاً، بالتعارك إلكترونياً، وحدوث كل ما يمكن حدوثه في الواقع من نقاش حيوي وعميق، أو تبادل صيحات وشتائم وتنغيصات وغمز ولمز، يتم التعبير عنه بالكلام أو بالوجوه التعبيرية (الإيموجي) التي تفي إلى حد ما بالمراد قوله.

إن هذه التصنيفات، لا يمكن حصرها ضمن هذه الأنواع فقط، إذ ثمة فئات أخرى تكتفي بصفحات شرفية من دون مشاركات، أو بالمتابعة من وقت إلى آخر، أو بالمشاركة لوقت ثم إغلاق الصفحة بحسب الحاجة.

التنكيل، التنمر، هجوم الجيوش الإلكترونية، وارد حدوثه بالطبع عند خلافات الرأي الحادة، وليس من شرطٍ لحدوث ذلك وقوع أذى مباشر على الأشخاص، بقدر ما يرتبط الأمر برغبة في بث الغضب الساطع إلى من يُعتبر مجسداً لفكرة متنازع عليها بين طرفين، بخاصة في حال وجود جدل سياسي أو فكري أو ديني حول قضية ما، يكفي كتابة بوست شائك يطرح قضية مثيرة للجدل وسوف تتحول تلك الصفحة إلى أرض معركة حقيقية، من المؤيدين والخصوم للمشارك الذي طرح الفكرة.

عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان يرى في عالم الإنترنت أننا نحيا ضمن “السجون الرأسمالية المفتوحة” التي نمضي داخلها كمستهلكين ومتفرجين في آن واحد، لكنهم يحظون بالمتعة والترفيه.

 

كولاج عابث

انطلاقاً من هذا الترفيه تبدو فكرة الكولاج الافتراضي العابث، من نسوخ غير مكتشفة تحدث كل يوم في ظل انعدام الموهبة عند البعض، أو وجود رغبة في اللعب والعبث، عند البعض الآخر، أو التأكيد بسخرية على امتزاج المعاني وضياعها في برميل كبير الحجم يستحيل على المرء رصد كل الأشياء المتناهية الصغر الموجودة فيه، مما يدل على أنه ليس ثمة رقيب، ولا مُنصف لما يمكن أن يقع، فالسطو على فكرة، جملة، عبارة، قصيدة، نص، من الصعب أن يحول دون حدوثه في هذا الفضاء الشاسع،و لا يوجد من حامٍ إلا الحس الأخلاقي الداخلي للأفراد، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل من الممكن أن يحدث ويستمر لزمن من دون أن يلاحظه أحد، أو يتنبه إلى أن إحدى الصفحات يتطابق محتواها مع صفحة أخرى لكاتب ما، هنا تبدأ عملية التقصي التي تنتهي بكشوف مُحبطة، تنطوي على خيبة أمل وتساؤلات عن الأخطار التي يُمكن أن تحيط بتفاصيل الحياة ككل من جانب الحرية والخصوصية المجروحة، التي تُستباح بشكل أو آخر، وتترك مجالاً للسطو على الأفكار والمعلومات. إنها العواقب التي لا يمكن تجنبها للتكنولوجيا.

في كثير من الأحيان تتم إضافة أسماء مجهولة إلى حسابات التواصل الإلكترونية، يتم قبولهم بناء على وجود قائمة من الأصدقاء المشتركين، ثم يتبين في ما بعد أنها شخصيات لا وجود لها، هذا لا يعني أنها تنتمي إلى عالم الأشباح أو الكائنات الفضائية، بل إنها شخصيات مفترضة ينحصر وجودها في أسماء وصفحات وهمية، تكون الغاية من وجودها أغراضاً تقع ضمن إطار التخفي، التلصّص، ومراقبة الغير من خلف حجاب، وفي بعض الحالات تحظى هذه الصفحات باعتراف أدبي وتتمكن من تأسيس مجموعات وصفحات إعجاب، وهذا هو المفجع، وجود كيانات لأسماء لا هوية لها، يتم قبولها وعرضها في الرف الإبداعي كعناصر فاعلة.

لقد ساعدت وسائل التواصل الكاتب الأعزل على الخروج من محليته، تخطيها والوصول إلى البلد والمكان الذي يريد الوصول إليهما، لكنها في الوقت نفسه جعلته يدفع ثمن فاتورة المسافات من الوقت والجهد والتفاني المخلص للوجود الإلكتروني، والتسليم باحتمالية حصول التعقب، والرصد والفرز، والاستهداف من مجهولين عبر الثقوب التكنولوجية. لن أتحدث هنا عن إدمان النظر إلى صفحة فيسبوك أو متابعة تغريدات تويتر ومنشورات انستغرام وتضارب كل هذا مع فكرة الكمون والإبداع، بل ما يحضر بجلاء هو المراعاة الفعلية للأعراف الافتراضية المتفق عليها ضمناً والرغبة في الحضور خوفاً من النسيان والتلاشي من ذاكرة الآخرين، ليصير الحال تناصاً مع العبارة الديكارتية فتكون أنا أكتب “بوست” إذن أنا موجود.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى