الإنسان الثالث

 

 

في أتون الحروب،في مواجهات عواصف الشتاء العاتية،يصبح للحياة وجوها متعددة، للحد الذي لا يمكننا من  تميز وجهها الحقيقي. لكن الموت وهو المناقض للحياة يحرض في حضوره الرمزي والواقعي بكل ما فيه من دمار وأشلاء ومرارات والتياع، خيال الفنانين، أقلام الكُتاب، أفكار العلماء الخطرة كمحاولة للنجاة منه، أو لتأجيل حضوره إلى أقصى زمن ممكن.

 

(1)

يبني الكاتب العراقي أحمد السعداوي روايته “فرانكشتاين في بغداد” على فرضية فانتازية حين يقوم بطل الرواية هادي العتاك بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية خلال شتاء 2005، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً يدعى ” الشسمه” أي الذي لا اسم له، لكن ” الشسمه” سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من المجرمين الذي قتلوا أجزاءه التي يتكوّن منها.

وإذا كان هذا يقع ضمن التخييل الروائي، فإنه واقعيا لم يعد  ضربا من ضروب الخيال أو وهم الفانتازيا، بل افتراض علمي يخضع حاليا للتجريب، ورغم صعوبة تقبل الأمر حيث يبدو لي مشوبا بغموض كثيف وضع أي  تخيل للمشاعر البشرية التي من  الممكن أن يكون عليها الإنسان الثالث المركب، حين يكون رأسك ينتمي لشخص، وجسدك لشخص آخر..

هذا الأمر يأخذ أبعادا أخرى بالنسبة لطبيبين أحدهما من الصين ويدعى رين، والآخر من ايطاليا ويدعى سيرجيو كانافيرو، فقد اقترح الأخير في أحد المؤتمرات الطبية في أميركا  أن يقوم بزرع رأس بشري على جسد بشري آخر؛ لكن الإقتراح لم يلاق قبولا في أميركا في حين تبنته الصين، وتعاون معه الطبيب الصيني رين،  لكن فعليا العملية ستتم في روسيا لأن المتبرع روسي يدعى فاليري سبيريدونوف ويعاني من مرض جيني نادر، جعله مقعدا وبدأت أعضاء جسمه تضمر  وتفقد وظائفها، ما عدا الرأس، ولأن فلاديمير خبير كمبيوترات ويعتز برأسه، ولا يجد أمامه أي حل آخر للحياة فقد وافق على زرع رأسه في جسم شخص آخر ميت للتو. تتضمن  العملية جز رقبة المتبرع بآلات حادة، ثم لصقها على جسد ميت طازج بعد تبريده بما يشمل من خياطة الأوعية الدموية في العنق والأعصاب والمجاري التنفسية، ثم إدخال الإنسان الجديد  في غيبوبة صناعية لمدة شهر، أو أكثر، ويتوقع الطبيب سيرجيو الذي يعتبر أن عمليته ستحقق ثورة في مجال الطب أن يتمكن المريض من المشي بعد مرور عام كامل، هذا مع العلم أنه سيدخل في غيبوبة اجبارية مدة شهر كي تتمكن الأعضاء من التفاعل بينها.

 

(2)

الفن الذي يقدم الأجساد الفاتنة في النحت، والأشلاء المركبة في الرواية، يحضر أيضا في لوحة “الغرينيكا” لبيكاسو؛ تتداخل الوجوه والجثث بين البشر والحيوانات، وكائنات أخرى  مركبة، هذه اللوحة تعتبر من ضمن أعظم أعمال بيكاسو  التي رسمها كرد فعل على الحرب الأهلية الإسبانية التي بدأت عام ١٩٣٧ بين الجمهوريين والوطنيين تحت قيادة فرانكو؛ ( قتال بين ديمقراطيين وديكتاتوريين) حين استدعى فرانكو النازيين لمساعدته فقصفوا المدينة. في لوحة ” غيرنيكا” يمكننا عبر تفكيك الشخصيات والوجوه وسائر الأشياء الموجودة في اللوحة الوصول للمعطى عينه، في يمين اللوحة امرأة تصرخ من الألم أو من هول ما رأت، وجه مفزوع يطل من النافذة، حصان ميت، يد ترتفع تحمل مصباحا،أشلاء متداخلة ملقاة على الأرض؛ وفي يسار اللوحة توجد امرأة تحتضن طفلا، وبالقرب منها ثور ينقسم جسده بين اللونين الأبيض والأسود، حيث يبدو هذان اللونان مسيطرين على اللوحة، مع تدرجات اللون الرمادي، مما يضفي احساسا بمأساوية اللوحة وما تجسده من أحداث.

 

(3)

تروي الأسطورة اليونانية أن بجماليون وهو أحد ملوك قبرص، وكان  نحاتا بارعا  صنع تمثالا لامرأة فائقة الحسن والجمال اختار له اسم جالاتيا، فهام به حبا ومن شدة هيامه ابتهل إلى إلهة الحب والجمال افروديت أن تهبه امرأة في جمال تمثاله كي يتزوجها؛ استجابت افروديت لأمنيته و رأت أن تقدم له هدية أفضل مما طلب ، بأن تبث الروح في تمثاله وتبعث فيه الحياة ، وهكذا تزوج بجماليون من المرأة التمثال؛ لكن جالاتيا الزوجة تتحول لامرأة ، تمارس طقوس الحياة العادية. تسرد الأسطورة أن جالاتيا كانت متكبرة مما جعل الحياة معها لا تطاق بالنسبة للملك النحات. نزلت من مقامها المرموق في قلبه لذا عاد إلى  افروديت مرة أخرى يعبر لها عن ندمه ويرجوها أن تأخذ الروح منها فاستجابت الآلهة  إلى طلبه ثانية ، وأعادتها تمثالا كما كانت ، فما كان من النحات إلا أن حطم التمثال كراهية للمرأة التي عرفها.

مصاب بجماليون بأمنية الخلق، أن يشكل انسانا من لحم ودم على هواه، ومن أيام آلاهة الأولومب وحتى الآن لم ينل البشر هذا المنى، الذي ظل رهينا للأسطورة وللإبداع.

 

(4)

الإنسان الثالث..الفكرة العلمية التي تبدو حتى الآن  خيالية جدا كونها لم تنفذ على جسد بشري صار على قيض الحياة، تحمل على المستوى الفلسفي والفكري تساؤلات لا نهاية لها، من سيكون الإنسان الثالث الذي جاء من رأس شخص وجسد شخص آخر، ولو فرضنا أن الأفكار موطنها الرأس، لكن هذا الرأس كيف ستكون علاقته مع جسده الجديد الذي يختلف عن جسده الماضي الذي سكنه من قبل..أتخيل رأس عالم، على جسد مجرم محكوم بالإعدام، أيهما هو حقا؟ وكيف سيتعامل الرأس مع اليدين الملوثتين بالدماء..وهل يمكننا التساؤل عن القلب، عن الروح، أي روح ستسكن الإنسان الثالث، وكيف سيتم التعامل معه قانونيا ودينيا، واجتماعيا، أسئلة كثيرة لن ينجح العلم في الإجابة عنها، ربما يتمكن من ايجاد حلول لها، لكنها ستظل معلقة بلا إجابات حاسمة مع الهوية الجديدة التي تم الصاق الحياة بها.

إن أى انسان هو في النهاية مركب من شخصيات مختلفة، في حالة تناحر مستمر مع عوالمه الداخلية، فكيف سيكون الحال بين إنسانين في جسد واحد، سيجد علماء النفس، والمعالجين النفسين حالات جديدة على طاولات بحثهم، وإذا كان من الممكن معنويا  وجود رأس تجتمع في داخله أفكار عالم وذهنية مجرم، لكن أن تصير الفكرة متفرعة لجسدين، في شكل كائن مخلق

فمن المؤكد أن القائمين على الفكرة لم ينشغلوا بالتفكير بالتركيبة النفسية له، لكن الثابت أيضا أن الإنسان المحتمل وجوده في يوم ما ستفتح حياته إن استمرت بوابات الخيال المنعم والجحيمي، لتظهر أفلام وروايات وأغاني تحكي عن البشري الجديد، تضعه تحت مجهر التحليل النفسي والاجتماعي والأدبي لمعرفة عوالمه الداخلية، ومقارنتها بحياة من أخذ رأسه، ومن أخذ جسده.

الخيال الفانتازي يقودني للتفكير  إن كنا سنحيا حتى يوم قريب نمشي فيه في الشارع ونرى رأس شخص عرفناه، يتمختر على جسد شخص آخر لم نعرفه، وسنحتار إن كان علينا أن نلقي السلام أم  نشيح بوجهنا بعيدا ونمضي خائفين.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى