عالم غريق
لعل تأمل بسيط لعناوين الصحف والمواقع الإلكترونية، يكشف مدى هوس الإنسان المعاصر بتتبع الأخبار التي تحمل قدراً من العنف، حيث لم يعد الأمر مقتصراً على الحروب التي تغرق بلداننا، بل تجاوزه إلى تتبع أخبار بشر عاديين تفصلنا عنهم جبال وبحار ومحيطات، لكنهم تحوّلوا إلى ضحايا نتيجة لحدث ما، قد يكون اغتصاباً، أو قتلاً، أو سرقة، أو حتى موتاً بريئاً كان الغرض الأول منه نوايا علاجية للتخلص من الآلام، فكان الخلاص من الحياة ككل.
وإذا كان هذا الأمر لا يُعتبر جديداً تماماً، فقبل ثورة الاتصالات كان هناك عشاق لصفحات الحوادث يتلهفون على قراءة الجرائم ومعرفة تفاصيلها الدقيقة، ولنفس الأسباب تحقق الروايات البوليسية نسبة عالية من القراء، كما تلاقي أفلام الأكشن إقبالاً مرتفعاً على شباك التذاكر، مقارنة بأي فيلم آخر يناقش قضية إنسانية على مستوى عميق.
الخبر الذي استوقفني يقول: شاهد: “امرأة تتجمد حتى الموت”. ولأنه على حسب قول الشاعر العربي: “تعددت الأسباب والموت واحد” فإن موت المرأة الذي يبدو بعيداً على أسباب الحروب والكوارث البشرية الأخرى، فإنها فارقت الحياة بسبب التجمد كما يثبت الفيديو المصور المرافق للخبر، والذي يكشف أن امرأة شابة تعمل مديرة لأحد المراكز العلاجية لتنشيط الدورة الدموية وعلاج الآلام في لاس فيغاس، فارقت الحياة بسبب نقص الأكسجين، حيث تقوم تقنية العلاج على عزل المريض داخل مساحة صغيرة وتسليط هواء النيتروجين على كامل جسده فيما عدا الرأس كي يتمكن من أخذ كمية الأكسجين اللازمة، لكن المديرة المسكينة تجمدت ولاقت حتفها قبل أن تخرج من الغرفة مرة أخرى.
ما يسترعي الانتباه أكثر من نقطة في الخبر، ما يهم منها هنا هو الجانب الإعلامي حيث كلمة “موت بسبب التجمد” تبدو صادمة للقارئ وتسترعي فضوله، مع التأكيد أن الضحية لم تتعذب وأنها فارقت الحياة خلال ثلاث دقائق؛ من هنا تبدو فكرة التعرّض للتعذيب حتى الموت، حتى وإن كانت وفق ظرف محض قدري تحتل صدارة الأخبار، في مقابل استبعاد صياغات أكثر إنسانية قد تروي نفس الحكاية مع إدانة واضحة للسماح باستخدام هذه التقنية العلاجية من دون احتياطات كافية، بل إن الخبر يذكر على استحياء أن هذه التقنية العلاجية لم تثبت فاعليتها، لكن في المقابل صار لها ضحايا.
في بلداننا يبدو الموت أكثر مجانية، جماعي، ومن دون إدانات أيضاً، هناك الحروب التي لا تزال طبولها تدق على أكثر من جبهة، هناك قوارب الموت، حوادث السيارات والطائرات، الموت من الفقر والجوع والبرد، الموت من الكمد والانتظار.
لكن المأساة الحقيقية للإنسان لا تكمن في الموت فقط، لأن كل بشري يدرك أن الفناء حتمي.
إن جوهر المأساة القديمة والأزلية هي في إمكانية تحوّل الإنسان إلى قاتل، أو متسبّب في القتل، أو مشارك به، أو مستمتع في تلقي أخباره ومعرفة ضحاياه؛ حيث يبدو أننا في هذه المرحلة من الزمن ننتمي لحضارة تلصّصية مهووسة بالموت، ومرعوبة منه، وتبث أخبار الرعب، يكفي رؤية بعض صفحات التواصل الاجتماعي التي تنقل أخباراً على وزن: “امرأة يلتهمها أسد”، “فتاة تقاوم الاغتصاب”، “رجل يتعرّض للسحل”، لندرك مدى القلق العميق المسكون في نفوس البشر.
وهنا يبدو السؤال الدائم ما إذا كانت ميول البشر الفطرية تميل للعنف وفق النظريات الفلسفية، أم أن خوف الإنسان الأبدي من الموت هو الذي يجعله في حالة ترقب دائم لأخباره، ومعرفة أسبابه، لتأجيله إلى أطول مدى ممكن!
د.لنا عبد الرحمن