أفراح صغيرة

كم صارت المسرات والأفراح بكبيرها وصغيرها تبدو بعيدة عنا مئات السنوات الضوئية! صار من الصعب علينا ملاقاة أي بهجة ، ففي كل يوم ثمة حزن نراه في عيون أم فقدت ابنها، أو جار تعرض لأذى ما سواء بالاعتداء أو السرقة. لكن في الوقت عينه أفكر اذا كان من المجدي الاستسلام لحالة الخوف والترقب التي نحيا بها، أو اذا كان من المجدي التساؤل عن زمن استمرارها، أم أن المهم الآن هو تعلم فن العيش وسط كل الصعاب والمخاوف. ربما هذه هي الرسالة التي رأيتها في واجهات المحلات التي تزينت بالورود الحمراء، وبهدايا عيد الحب، التي تقدم للأحباء وعدا بمزيد من الأيام الحلوة. يأتي عيد الحب بعد مرور العام الأول على ثورة يناير، كم من الأشياء تغيرت، وكم من الأحزان عرفت طريقها الى كثير من القلوب، خلال هذا العام. ولعل الحب في حقيقته  يُمثل فعل ثورة. فالثورة لا تنفصل عن الحب، إذ كيف من الممكن لشخص يقوم بالتضحية بحياته في سبيل قيم معينة، أن لا يكون عاشقا جديرا بالحياة. ولعل كلاهما : العاشق، والثائر، وجهان لعملة واحدة حيث يمثل الحب عندهما الحالة القصوى للعطاء.

لكن هل من الممكن تحديد الحب في يوم معين، حتى يكون هناك عيدا له؟

أم أن هذا اليوم الذي  يأتي في الرابع عشر من فبراير ليس إلا محاولة للحصول على بعض المحبة، المرفقة ببهجات صغيرة صرنا نسعى اليها بشوق في زحمة حياتنا اليومية!

هكذا يأتي يوم  عيد ” الفالنتين” الذي اتفق عليه عالميا للإحتفال بالمحبة، وفي هذا اليوم الذي اعتاد المحبون فيه الاحتفاء بوجودهما معا، يتذكر العزاب أيضا وحدتهم، وتخيم عليهم كآبة شديدة حين يشاهدون  الورود الحمراء في أيدي الأحبة والعشاق. وربما لا يكون هذا ناتجا عن (حسد) بقدر ما هو طبيعة بشرية نتيجة الإفتقاد للآخر الذي يتم التعامل معه على أنه مكمل للذات. من هنا يكون التعزيز لفكرة الحب عبر تصدير الإحساس بالنقص والحاجة لمن يكمل الذات، ومن هنا أيضاً يأتي النقص الحقيقي حين نتعامل مع أنفسنا  على أنها غير  مكتملة وتحتاج لمن يأتي ويملئ هذا النقص.

في كتابه “فن الحب” يرى عالم النفس إيريك فروم  أن الحب ليس  قوة عليا تهبط على الإنسان، كما أنه ليس واجبا مفروضا عليه، إنه قوته التي جاء بها ليرتبط بالعالم، ويجعله عالمه حقا. يشرح فروم في كتابه فكرة “الحب” بأنها حالة تحمل داخلها موقفا من الكون،  إنه موقف يخرج فيه الإنسان من حالته الجزئية ويعانق العالم كله من خلال محبوبه ويرتفع من ذات جزئية إلى ذات كلية.

إذن الحب هنا رؤية نحو الحياة، لا ترتبط بشخص معين، ولا بيوم معين، أو أسبوع أو شهر. إنه موقف شخص ما من العالم ككل لا نحو الحب فقط، فهو يتعامل بحس المحبة نحو الأشياء، وهذا الحس يتطلب يقظة تؤدي لانتصار الحياة على الأشياء، والإنسان على الآلة، وعلى هذا الأساس يكون أيضا “كل فعل حب تيقظ وحنو، وبصيرة، وكل فعل كسل وأنانية، وجشع هو موت. فالحب الأصيل يكون حب مثمر، يعبر عن وجوده بمظاهر من المعرفة والمسؤولية والإبقاء على الذات،فكلما كانت الذات مكتملة كان الحب صحياً بعيدا عن العلل التي تؤذيه.

يرى  إيريك  فروم أننا  في الحب نعطي من الشيئ الحي فينا، نعطي من فرحنا،وشغفنا، من أحلامنا، ومن قدرتنا على الفرح. وهذا العطاء في حد ذاته فرح رفيع لأنه لا ينتظر مقابل. يقول : ” ومع هذا الحب المثمر تتولد الحرية، المثمرة التي هي تنمية للشخصية، وبهذا تتحقق إمكانيات الإنسان الغافية،فالإنسان يستطيع أن يكون حرا، وفي الوقت نفسه غير وحيد، هذه الحرية يستطيع الإنسان أن يحققها حين يكون نفسه”.

إن مفاهيم إيريك فروم عن الحب الشمولي، الكوني، الواسع، غير بعيدة أيضا عن مفاهيم المتصوفة العرب القدماء، إذ لا يمكننا في هذه المناسبة أن لا نذكر أبيات الشعر الشهيرة لابن عربي التي يقول فيها :

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي   إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

و قد صار قلبي قابلاً كل صورة        فمرعى لغزلان و بيت لأوثان

و دير لرهبان و كعبة طائف          و ألواح توراة و مصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت          ركائبه فالحب ديني و إيماني

 

د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى