طوكيو تفتتح مكتبة باسم موراكامي الذي قد “يرتكب جريمة”
أعماله وأسطواناته والكتب التي يجمعها في متناول قراء الروائي الذي حير النقد الياباني
يرافق الحديث عن الكاتب الياباني هاروكي موراكامي في معظم النقاشات الأدبية تنوع في الآراء والمواقف بشأن رواياته وقصصه، وغالباً ما تكون هذه الآراء متطرفة في قبوله بالمطلق أو رفض كتابته واعتبارها من فئة الأكثر مبيعاً أي أنها شعبية وتناسب الذوق العام للقراء. وهذا ينطبق على معظم قراء موراكامي في شتى أرجاء العالم، ويكفي أن نتابع تعليقات القراء على أعماله الأدبية في مواقع القراءة، لنجد أيضاً من ينتظر ليلاً توزيع رواياته على باب المكتبات، كما حصل في نيويورك ليلة صدور روايته “1Q84”.
موراكامي الذي يُعتبر من أكثر الكتاب اليابانيين المعاصرين قراءة في العالم، شُيدت من أجله مكتبة كاملة في طوكيو، لتكون هذه المكتبة صلة وصل بين آسيا والغرب، ويتمكن عبرها محبو أعماله من زيارة المكتبة والتعمق في العوالم “الهاروكية”، بين كتب وموسيقى وتسجيلات ومخطوطات.
المكتبة التي افتتحت للجمهور في الأول من أكتوبر الحالي، أطلق عليها اسم “مكتبة هاروكي موراكامي” في “البيت الدولي للآداب في جامعة واسيدا” حيث درس الكاتب، الذي يبلغ من العمر الآن 72 عاماً. تضم المكتبة المؤلفات الأدبية، والأسطوانات الموسيقية لأشهر المؤلفين اليابانيين المعاصرين، وتحوي في جزء منها مقهى أدبياً يعرض رسوماً للكائنات المفضلة لدى موراكامي وهي “القطط”. والمكتبة مخصصة لدراسة الأدب الياباني والأدب العالمي أيضاً، واللافت بشكل ملحوظ أنها تحتوي على نسخ طبق الأصل من الكتب الموجودة في مكتبة موراكامي الخاصة، وعلى استوديو إذاعي أيضاً، فمن المعروف عنه أنه مولع بالموسيقى وامتلك في وقت ما نادياً لموسيقى الجاز.
“ماذا لو ارتكبت جريمة؟”
رفض موراكامي في زيارته للجامعة، وخلال المؤتمر الصحافي قبل افتتاح المكتبة بأيام قليلة، أن تُلتقط له الصور بجانب المكتبة، إذ نادراً ما يظهر هذا الكاتب في الأماكن العامة. ارتدى بنطلون بيج، وقميصاً أصفر مع سترة زرقاء بحرية، ووصف مشاعره نحو المكان بأنه يؤجج الذكريات داخله، وروى كيف تغيب عن الدروس أثناء الاحتجاجات الطلابية التي هزت اليابان في أواخر الستينيات. وكشف عن أمله في أن تكون هذه المكتبة بمثابة مكان للتبادل بين العالم الأكاديمي والطلاب وعامة الناس؛ قائلاً “يقوم المعلمون بالتدريس والطلاب يتلقون العلوم والمعارف، هذا مهم، ولكن على الرغم من كل شيء، آمل أن يشعر الطلاب بالحرية في تقديم أفكارهم وتطويرها في شكل مشاريع ملموسة”. ثم توقف عند شعار المكتبة “اكتشف قصتك، تحدث إلى قلبك”، وقال إنه يشعر بأن جائحة كورونا تسببت في إذكاء التشاؤم لدى الجيل الشاب، وخلقت لديهم إحساساً باللاجدوى، لذا يحتاج الناس إلى المُثل بشكل أو بآخر، ودور الروائي هو تقديم عينات منها ضمن قصص عالية الجودة.”
صاحب “كافكا على الشاطئ“، الذي لا تخلو رواية له من وجود دعابة ساخرة محيرة تقف على حافة الهزل والجد، لم يُضع هذه الفرصة كي يطلق دعابته قائلاً: “بصراحة، كنت أود أن يتم بناء هذه المكتبة بعد وفاتي، لكنها شُيدت وأنا على قيد الحياة، لا بأس هذا يُسبب لي التوتر قليلاً، إذ ماذا لو ارتكبت جريمة، من المؤكد أن هذا سوف يُضر بالجامعة”.
كافكا وسبوتنيك
لا يمكن أن تخلو أي رواية لموراكامي من تضفير عناصر امتاز بتوليفها في ضفيرة واحدة: السريالية، الفانتازيا، الخيال العلمي، الغموض القدري الذي لا يمكن تفسيره أو الفكاك منه… ورغم ما يبدو من عقلانية ورزانة ظاهرة عند أبطاله، فإن هذا سرعان ما يتلاشى بسرعة مفسحاً المجال لمنطق عبثي يحكم الأحداث ويغير المسارات. وللمفارقة يمضي هذا كله بالتجاور مع حرصه على إدراج عظات صغيرة عن الحياة، كأن يقول في “كافكا على الشاطئ”: “كما تعلم، المال لا ينمو كالفطر في الغابة” أو: “لا تنشأ حكمة الحياة الواقعية من معرفة كيف يمكننا التغلب على شخص ما، بقدر ما تنشأ من تعلم كيفية قبول الهزيمة بنعمة”.
معظم أبطال موراكامي يشبهونه شخصياً، يعشقون القراءة والكتابة والموسيقى والطهو، يهيمون مع الكتب ولا يرضون عنها بديلاً. هكذا هي سوماير بطلة رواية “سبوتنيك الحبيبة”، “مهما قدمت لها الحياة من خيارات كانت تريد أن تصبح كاتبة، لا يمكن لشيء أن يحول بينها وبين إيمانها بالأدب”. يقدم موراكامي أبطاله بأسلوب مباشر، يصف مزاياهم النفسية ومواصفاتهم الجسدية، تفضيلاتهم الشخصية للحياة وما يحبونه ويكرهونه، هذا كله يعطيه للقارئ دفعة واحدة، لأن المفاجأة لن تأتي من هنا، بل بما سوف يواجه البطل لاحقاً من مغامرات متناقضة رأى بعض النقاد أن أعماله تجمع بين الواقعية السحرية عند ماركيز، وسريالية سلمان رشدي.
في رواية “كافكا على الشاطئ”، يبدو البطل محكوماً بقدرٍ “أوديبي” على غرار الميثولوجيا الإغريقية، وذلك بعد توقع والده الذي يقول له: “يوماً ما ستقتل أباك لتبقى مع أمك مثل قدر “أوديب” وستراود أختك ولا مفر لك من قدرك هذا”. لذا يقرر الفرار من قدره بأن يمضي في رحلته الخاصة. كافكا ولد مراهق مولع بالكتب يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، يلتقي خلال رحلته برجل عجوز أمي وسحري يُدعى ناكاتا، أحدهما يحمل ماضياً يهرب منه، والآخر يبحث عن الغد، أحدهما يتطلع إلى الأمام، والآخر ينظر إلى الوراء، شخصان مختلفان تماماً، لكن مصيرهما يتشابك بشكل قدري غير مفهوم.
يوميات طائر الزنبرك
في روايته “يوميات طائر الزنبرك” الصادرة حديثاً في جزأين عن دار الآداب، تحضر التفاصيل الواقعية جداً في بداية النص، بطل يسلق “الباستا” ويستمع لموسيقى “روسيني”، لحظة أن يتلقى اتصالاً غامضاً من امرأة مجهولة، تقول له “أود مناقشة طبيعة مشاعرنا”. وانطلاقاً من هذه اللحظة تتغير تفاصيل كثيرة في حياته. يمضي موراكامي على النسق ذاته الذي انتهجه في أعماله السابقة بين غموض بوليسي، وسخرية باطنية واختفاءات محتومة للأشخاص والقطط، وتلويحات قدرية غامضة مثل جملة “قمر مكتمل وخسوف”، وأسئلة محيرة على نسق “هل نسي طائر الزنبرك أن يلف الزنبرك الخاص به؟” و”في نهاية المطاف، هل من الممكن أن يفهم إنسان إنساناً آخر فهماً كاملاً في يوم ما؟”.
تظهر فتاة يافعة ذات ستة عشر عاماً، تطرح أسئلتها الغريبة على البطل الذي يبحث عن قطه التائه، تعرض عليه المساعدة، في أسلوب يشبه التنويم المغناطيسي تقول له: “أجد موت الناس أمراً فاتناً وأنيقاً”. أو أن يعرف السيد هوندا الوقت الذي سيموت فيه بالضبط، أيضاً هناك شخصية الملازم ماميا وقصة مشاركته في الحرب العالمية الثانية.
حفيد خائن للكلاسيكية اليابانية
تحمل روايات موراكامي قدراً من المتعة عند القراءة، ومن الأسئلة المطروحة على مدار أعماله، لكن في الوقت عينه لا يعتبر جماعة من النقاد في اليابان، موراكامي، حفيداً مخلصاً للأدب الياباني الكلاسيكي. ففي رواياته مستوى من التغريب يُغازل عبره الحياة الغربية – الأميركية تحديداً – من خلال حضور إشارات مرتبطة بالنسق الثقافي الاجتماعي الأميركي الذي يفضله أبطاله، مثل مقهى “ستاربكس”، “كوكا كولا” “ماكدونالد” وكنتاكي” وغيرها. وهذا ما يبدو غير مرحب به في اليابان. اختيارات أبطاله ومواقفهم لكونهم شخوصاً يقدسون الفردانية والميول الذاتية المحضة، هذا ما لا نجده عند كاتب مثل يوكيو ميشيما في روحانية أبطاله وإيمانهم بالعواطف الإنسانية كمرجع أساسي في الحكم على الأشياء. ولا نجدها أيضاً عند كاتب ياباني آخر حاز نوبل عام 1994 هو كينزابوري أوي، الذي عبر عن دهشته من تحول اليابان إلى بلد يمضي مسافات بعيدة عن تراثه الحضاري والثقافي، كي يلحق بالحضارة الغربية.
موراكامي لا يُنكر اختلافه عمن سبقه، فقد قال في أحد حواراته: “أنا أختلف عن ميشيما وكواباتا في كثير من المجالات، سأواصل الكتابة بطريقتي، ربما هذا ما يميزني عن كثير من الكتاب اليابانيين الكلاسيكيين أنا لا أؤمن بضرورة مواصلة التعلق بهم. بالنسبة لي لا أضع حدوداً بين مكوناتي الثقافية الشخصية الموزعة ما بين الأدب والثقافة الشعبية، وغالباً ما تنتابني خلال الكتابة رغبة في توظيف عناصر الرواية العاطفية داخل رواية بوليسية أو رواية خيال علمي، أستعين بالإطار دونما المساس بالمضمون”.
لكن من جهة أخرى، إذا كان من الممكن اعتبار موراكامي كاتباً يجسد صبغة “التعولم” الثقافي في اليابان، بيد أن ثمة من يمضي على نهجه من الأجيال التي تلته. ومن المؤكد أن الخلطة “الهاروكية” في رواياته مع النجاح المدوي الذي حققه في جذب قراء وكتاب منحازين لكتابته، ربما في شكل غير مباشر، ويمكن في هذا الصدد ملاحظة كاتبة مثل بانانا يوشيموتو في عملها “مطبخ” مع فردانية أبطالها وارتباطهم بعالم الكتابة والموسيقى والمطبخ.
في كتابة موراكامي، ثمة غواية الدمج والتقاطع التي يقع فيها الكاتب بشدة، جمع كل ما لا يجمع في بوتقة واحدة، وشبك التفاصيل النفسية للجنس البشري بكل ما يدور في الداخل من حيرة معتمة وتساؤلات جنونية ورغبات متضاربة، وقلق وجودي لا مناص منه، يتجلى على مدار النص في أشكال شتى، بين الفقد والبحث والارتحال ولقاء الغرباء، والتساؤل عن الحروب، والاقتصاد… وهل أنقذ الرفاه العالم حقاً من الغرق في الظلال الكئيبة. لا يمكن تفكيك كل ما يقصده صاحب “الغابة النرويجية” بسهولة، من دون أن نضع حيزاً كبيراً للعبث الكرنفالي الذي يُسير حياة أبطاله فيمضون بها للعثور على أجوبتهم الخاصة.
independentarabia