الروائية الكورية هان كانغ لا تقول وداعا للمفقودين
بعد روايتها "النباتية" الحائزة "مان بوكر" الدولية تنقل جو مجزرة "جيجو"
ابتعدت الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ – أكثر الكتاب شهرة في بلدها- خمسة أعوام عن الساحة الثقافية، ثم عادت برواية “لا أقول وداعا”، التي صدرت هذا الأسبوع باللغة الكورية ولم تترجم إلى الإنكليزية بعد، وقد تحدثت الكاتبة عن روايتها الجديدة خلال مؤتمر صحفي ثم بثه عبر اليوتيوب منذ أيام .
لا يبدو على كانغ أنها من فئة الكُتاب غزيري الإنتاج، بل من الذين يحتاجون إلى وقت كاف للتأمل في كتابتهم، كما أنها من الممكن أن تبدأ في أكثر من عمل ابداعي في وقت واحد.بدأت كانغ روايتها الجديدة في 2014 ، وعملت عليها بشكل جاد خلال الحجر الصحي لجائحة كورونا، وصفت حالتها بأنها أحست بالرغبة لأن تكون على تواصل مع الآخرين، وأرادت فعل هذا عن طريق الكتابة.
تنشغل المؤلفة ذات الـ 51 عاما في هذه الرواية بعدة قضايا انسانية منها مذبحة المدنيين التي وقعت في جزيرة “جيجو” في الثالث من أبريل 1948، وتقدم الحدث في سرد شاعري للنضال الطويل والصامت للناجين من المذبحة بهدف العثور على أفراد أسرتهم المفقودين .لكن يظل الحب في جوهره الحقيقي هو محور هذا العمل، تقول كانغ : ” لقد أخذت مني هذه الرواية وقتا طويلا للكتابة، وعندما سُئلت عن نوع الرواية التي أكتبها ، شعرت بالحيرة بشأن التفسيرات التي يجب أن أجيب عنها، في بعض الأحيان قلت إن الأمر يتعلق بالحب المطلق، وفي أحيان أخرى قلت إن الأمر يتعلق بالعبور من الموت إلى الحياة ، تحديدا تناولت أحداث الثالث من أبريل في جزيرة “جيجو”. لقد كنت صادقة عندما قلت كل هذه الأشياء، لكن إذا كنت سأختار ، أود أن أختار العبارة التي تقول إنها رواية عن الحب المطلق.”
كشفت هان كنج إن مصدر إلهامها للرواية جاء من حادثتين في حياتها: حلم رأته في يونيو 2014 ، ثم المشي مع صاحبة المنزل الذي أقامت فيه لمدة شهر في ” جيجو” في أواخر التسعينيات. تأثرها بالحلم الذي شاهدته حضر في أول صفحتين من الكتاب مع استرسالها في وصف الحلم ، حيث كانت تسير في حقل مغطى بالثلج، ثم يتحول إلى مقبرة على وشك الانجراف بسبب ارتفاع المد.
الحدث الآخر الذي ألهمها الرواية لحظة سيرها مع مالكة البيت الذي سكنت فيه لحظة تقف السيدة العجوز في الشارع وتشير نحو جدار طويل وهي تقول : ” هنا تم قتل الناس”، تصف كانج تلك اللحظة قائلة : ” كان صباحًا رائعًا وصافيا جدا، لكنه حمل إلي احساسا مخيفا حقاً”.
تسافر بطلة الرواية جيونغ ها إلى جزيرة جيجو، بناءً على طلب صديقتها إن-سيون. وبعد هبوب عاصفة ثلجية حادة تصل جيونغ ها إلى منزل صديقتها، هناك تواجه ماضي العائلة المؤلم، خاصة مع جونغسيم والدة إن- سون التي أمضت سنوات عمرها في محاولة العثور على ابنها الذي فقدته في أعقاب مذبحة جيجو.
الحب الذي تتحدث عنه كانغ يتجلى في عدة علاقات داخل النص، وأهمها علاقة الأم مع واقعها المؤلم، وايمانها حتى النهاية بالحياة والناس،ومحاولة إبقاء جذوة الأمل في داخلها.
تنتقل البطولة في الرواية بين عدة شخوص، في البداية ” جيونغ ها”، ثم صديقتها “إن سون” وحكايتها الشخصية سواء في قصة حبها أو في ارتباطها بوالدتها واحساسها المستمر بالأسى بسبب ما تعرضت له الأم، ثم والدة إن سون وما لديها من عذابات مخزونة عن المذبحة واحساسها المستمر بمن رحلوا، وبين الشخصيات النسائية الثلاث ثمة خيط متصل يربطهن جميعا، وهو ايمانهن بجوهر الحب، وبأن الحب الحقيقي، يمنح الانسان قدرة على الحياة أكثر من مرة، بل إنه يمنح المحب قدرات خارقة للطبيعة.
تصف كانج علاقتها مع هذا العمل قائلة: “لم يكن في نيتي الكتابة عن المذبحة، وكان علي أن أقرأ الكثير من المواد لكتابة هذه الرواية للحصول على معلومات، لكن وقت كتابة العمل تم إغلاق المكتبات بسبب جائحة ” كوفيد19″، لذا استعنت بالإنترنت، وبما لدي من كتب منشورة”.
استلهامات المرأة الشجرة
روايتها الشهيرة “النباتية” لم تصل إلى يد لقارئ العربي إلا بعد أكثر من عقد على صدورها في كوريا عام 2007، إذ تُرجمت إلى العربية عام 2018،بعد فوزها بجائزة المان بوكر عام 2016، مُنحية من أمامها الروائية الايطالية ايليا فيرانتي، والروائي التركي أورهان باموك، لتحقق كانغ العالمية عبر بطلتها ” النباتية”.
وكما يتضح من عنوان “النباتية” ثمة تبئير في البحث عن الصلة بين المرأة والنبات فالرواية عن امرأة تستيقظ ذات نهار وتقرر أن تُصبح نباتية، وبقدر ما يبدو هذا الأمر مجرد اختيار شخصي إلا أنه يتحول بمرور الوقت إلى حدث كاشف للبطلة ولجميع الموجودين في حياتها، زوجها، والدها، أختها وزوج أختها.
” النباتية” هي صدى لقصة قصيرة كتبتها كانج من قبل تحت عنوان ” ثمرة سيدتي” استلهمتها من لوحة لامرأة تتحول إلى نبتة، ويبدو أن هذه الصورة ظلت تلاحقها وتدفعها للكتابة عنها من جديد لكن في شكل أوسع،وبصورة أشد قتامة وشراسة هذه المرة.
يجد قارئ رواية “النباتية” عدة طبقات عند تلقيها، لا يمكن التعامل مع هذا النص من منظور الأحداث فقط، إذ نجد مواجهات مباشرة مع العنف البشري في مقابل التشكيك بوجود البراءة الإنسانية.
تُفاجئ رواية ” النباتية” القارئ في توقفها أمام تصادمات فكرية ترتبط بالمرأة، سواء من جانب قلقها الوجودي وتراكم الذكريات السلبية داخلها، أو عبر سيطرة النظام البطريركي على حياتها، والذي يتجلى في النص عبر الأذى الجسدي والجنسي الذي تواجهه البطلة، أيضا الهجر، وايذاء الذات، إلى جانب النظر بدونية للمرأة من قبل الزوج والأب، والاحساس الغامر عند كليهما بلزومية قيامها بالطاعة، كأن يصفها زوجها قائلا: “كانت قليلة الكلام، فمن النادر أن تطلب مني شيئا، ولا تعترض وتثير المشكلات، مهما تأخرت في عودتي إلى المنزل”.
لا ترى الكاتبة أن النظام البطريركي في كوريا هو الذي أجج في داخلها الرغبة للكتابة عن وضع المرأة، بل أسئلة كثيرة أخرى في داخلها تقول : ” هذه الرواية ليست لائحة اتهام فردية للنظام الأبوي الكوري. كنت أرغب في التعامل مع أسئلتي الطويلة الأمد حول إمكانية أو استحالة وجود البراءة في هذا العالم ، الذي يمتزج فيه العنف والجمال، إنها أسئلة عالمية أرقتني خلال الكتابة”.
تنشغل كانج في كتابتها باستمرار في اكتشاف العنف البشري وجروحه،والطبيعة المأساوية للحياة، إلى جانب حساسية التواصل في إدراك العالم الحسي ، مع محاولة عرض الواقع ، كما تكشف كتابتها عن علاقتها بالبيئة واهتمامها بها من خلال تشريح علاقة الانسان مع الأرض والطبيعة والنبات.
تتحدث هان كانج دائما عن علاقتها المبكرة مع الكتب، فهي ابنة الروائي سونغ وون هان، لذا اعتادت أن تكون محاطة بالكتب، تقرأ بنهم منذ الطفولة، وتصف نفسها بأنها “تضحك وتبكي مع الكتب” وأنها في الرابعة عشر من عمرها قررت أن تصبح كاتبة، وهذا ما فعلته، كتبت الشعر في بدايتها وأصدرت قصائد “الشتاء في سيول”، ثم كتبت قصص قصيرة، قبل أن تنتقل لكتابة الرواية، وتصدر عدة أعمال مثل : ” غزال أسود” و “يداك باردتان”، ” الصبي قادم”، ” أفعال بشرية”، وغيرها من الأعمال الروائية، حصلت هان كانج على العديد من الجوائز في كوريا إلى أن حالفها الحظ مع رواية ” النباتية” التي نقلتها من المحلية إلى العالمية.
لنا عبد الرحمن
www.independentarabia.com