أميلي نوتومب تسرد حكايات والدها ليرقد بسلام
الروائية الفرنسية البلجيكية أميلي نوتومب (دار ألبان مشيال – باريس)
لا تغيب الكاتبة الفرنسية البلجيكية أميلي نوتومب عن الساحة الأدبية، إذ التزمت بإخلاص منذ انطلقت في مسيرتها الإبداعية بإصدار رواية كل عام، وهذا ما يعرفه عنها القراء، الذين ينتظرون جديدها في كل موسم أدبي. لكن هذه المرة مع رواية “الدم الأول” التي صدرت عن دار “ألبان ميشال” وتقع في 180 صفحة، تحمل الكتابة سبباً مختلفاً يتجاوز الحضور الأدبي إلى رحلة التعافي. ومع هذا العمل أصبح في رصيد نوتومب ثلاثون رواية، وتدخل روايتها الجديدة حلقة السباق مع 521 رواية أخرى في الساحة الأدبية الفرنسية، على رغم أنه لم يقع عليها الاختيار ضمن قائمة الروايات الست عشرة المرشحة للفوز بجائزة غونكور، مع أن روايتها مدرجة في لائحة جائزة رونودو” المهمة أيضا. وتعلق إيميلي على هذا الأمر في أحد لقاءاتها الصحافية قائلة: “لن أحصل على الغونكور، يعتبر المحكمون أنني كاتبة ناجحة ولست في حاجة إليها”.
يشير عنوان رواية “الدم الأول” إلى رابطة الدم التي لا يمكن الفرار منها، والتي تجبرنا دائماً على التحديق في ذواتنا أولاً، ثم في ذوات آبائنا وأمهاتنا كي نعرفهم أكثر ونعرف ما الذي تركوه فينا. وإذ يمكن اعتبار هذه الرواية ضمن كتابات السيرة الذاتية في رحلة نوتومب الإبداعية، إلا أنها ليست الرواية الأولى في هذا المجال، فقد تحدثت عن جوانب من حياتها الشخصية في روايتيها “بيوغرافيا الجوع” و”ذهول ورهبة”، وفي أعمال أخرى. ولعله من المعروف عن نوتومب أنها كاتبة غريبة الأطوار والاختيارات، والمتأمل لمجموع صورها الشخصية وأغلفة كتبها أيضاً يصل إلى هذه النتيجة، على الرغم من تخليها مؤخراً عن ارتداء القبعات، إذ لطالما ظهرت وهي تضع قبعات مختلفة الأشكال والأحجام، حتى أنها سُميت بالكاتبة ذات القبعة. كما لا يُمكن التنبؤ بما ستكتبه، ففي العام الماضي أصدرت رواية “عطش” التي تركت فيها “يسوع” يتكلم عن نفسه بضمير الأنا.
العودة إلى العائلة
تعود نوتومب في “الدم الأول” إلى طفولة والدها وتتسلل إلى قلب العائلة “النوتومبية” الكبيرة، وتقترب مباشرة من شخصية أبيها “باتريك”، ومن سلالة نسبه العائلي لتحكي عنه بالتفصيل، عن طفولته ومراهقته ثم عمله الدبلوماسي، وكأنها تريد تكريمه ووداعه في هذه المواجهة السردية. لقد غيبه الموت في مارس (آذار) 2020، إثر بلوغه الثالثة والثمانين من عمره، خلال اجتياح وباء كورونا للعالم وبداية الحظر الأول، لذا كان رحيله مؤلماً لها جداً بسبب عدم قدرتها على رؤيته والقيام بتأبين تقليدي لوداعه بسبب الحظر. وقد بدا لها أن أفضل طريقة لتعويض هذا الغياب، وتكريم الأب الراحل هي عبر استحضاره من جديد، ومنحه حياة أخرى، وفرصة لسرد قصته. تقول: “عندما ذهبت أخيراً إلى قبره في نهاية يوليو (تموز)، أدركت أن الوقت قد فات. لقد فاتني شيء حقيقي برحيله، لا يمكنني تعويضه. في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 شعرت بالسوء أكثر فأكثر، لذا قررت استعادة والدي من خلال الكتابة، ولم أتخيل أي طريقة أخرى غير تركه يتحدث بصيغة المتكلم”.
روايتها الجديدة “الدم الأول” (دار ألبان ميشال)
تبدأ أحداث الرواية في شهر أغسطس (آب) عام 1964 مع والدها باتريك وهو في الثامنة والعشرين من عمره، مع حدث هام وتراجيدي كان شاهداً عليه خلال عمله كملحق دبلوماسي في الكونغو، حين استولى متمردون على مدينة “ستانليفيل” واحتجزوا أكثر من ألف وستمئة شخص أجنبي كرهائن، من بينهم أكثر من خمسمئة شخص بلجيكي. ثم تكررت مواقف مماثلة في مدن أخرى في الكونغو. وكان على الدبلوماسي الشاب المحتجز التفاوض والتحاور مع من سموا أنفسهم “جيش التحرير الشعبي” ليحول دون قتل الرهائن؛ ولم تنته تلك الواقعة إلا في 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، بعملية جوية مشتركة أميركية بلجيكية جريئة سُميت “التنين الأحمر”، وقد وقع فيها ضحايا من الطرفين.
خيالات الطفولة
في إحدى الصور بالأبيض والأسود، تحديداً في عيد ميلاد باتريك يوم أن أتم الرابعة من عمره يظهر في الصورة، مرتدياً بذلة سوداء من المخمل ذات ياقة عريضة بيضاء، محاطاً بأشخاص بالغين وبجانبه أمه الأرملة الجميلة والأنيقة، التي سيفترق عنها في ما بعد ويترك هذا أثراً في نفسه.
تتناول مؤلفة “زئبق”، الجانب الواقعي في حياة الأب وتكتب بضمير المتكلم، مؤكدة أن كل ما كتبته ينطلق من أحداث حقيقية، ويخلو من الجانب الخيالي. وعلى رغم قولها هذا لا يمكن استبعاد الخيال، فالنص حافل بقصص وأحداث نفسية حساسة ودقيقة، بخاصة في سنوات الطفولة. هذه التفاصيل اليومية والحياتية التي لا يمكن نقلها إلا عبر من عايشها، لا تبدو محكية لها، بقدر ما يبدو أنها تسللت إلى مخيلتها خلال عملية الكتابة، مثل لحظات تأمله في الغابة ووصفه للثلج الأبيض الذي يُثقل أغصان الأشجار ويدفعها للاستسلام، ويوميات باتريك وانشطاره بين عالمين، الدلال الزائد من قِبل أسرة أمه، والإسراف في الجدية والصرامة في التربية والتعليم من جانب أسرة أبيه.
عاش باتريك يتيم الأب، فقد رحل والده في عام 1937، وهو لا يزال رضيعاً لم يتم الشهر السادس من عمره. وظل برفقة أمه حتى بلوغه السادسة، سن التحاقه بالمدرسة الابتدائية، حينها انتقل إلى “آردين” للإقامة مع جده البارون “بيار نوتومب” في ممتلكات الأسرة، وتحديداً في قلعة “بادي” المشيدة في القرن السابع عشر على الطراز الباروكي وتقع بالقرب من غابة، وتطل على بحيرة وحديقة تعج بالأزهار البرية. لم تكن سنوات إقامته في القلعة أليفة، بل إن المشاهد المتعلقة بطفولته ووجوده مع الجد تستدعي إحساساً مريراً بالوحدة، بخاصة مع قرار الأم بأن لا ترافق باتريك إلى القلعة، مما جعل وعيه في سنوات الطفولة والمراهقة يتشكل برفقة جده “بيار”، البارون الكاثوليكي الصارم جداً في تربيته، لكنه في الوقت نفس علمه حب الشعر، فالجد كان مغرماً بشعر رامبو ويعتبر أن “الشعر هو الرفقة الحقيقية التي تنير عتمة المجهول”، لذا تصبح مجموعة قصائد رامبو التي تلقاها باتريك من جده هدية ثمينة لا غنى له عنها.
تتضح من خلال السرد الصفات الشخصية لباتريك، فهو رجل شجاع وذكي ولطيف ويتمتع بحس عال من الدعابة، يبدو أن إميلي ورثت هذه الخصال عنه، بل إن حس الدعابة هذا هو الذي أنقذه من القتل على أيدي المتمردين في الكونغو حين سأله قائدهم هل لديك أطفال، فيجيبه: “نعم لدي اثنان”، “وهل تريد أن يكون لديك طفل ثالث”؟ فيجيبه باتريك بذكاء: “هذا يتوقف عليك سيدي”. تعتبر نوتومب أن رده الذكي هذا يدل على عمق تفكيره وسرعة بداهته، بل إنه السبب في قدومها إلى الحياة عام 1967.
تكتب نوتومب في هذه الرواية بإيقاع سريع، وبقليل من حس الفكاهة الذي كان أقوى حضوراً في رواياتها الأخرى. إنها تكتب هنا كي تتعافى من حزنها، كتابة من أجل الشفاء ووداع الأب الذي رحل من دون أن تتمكن من رؤيته، لذا تبدو أكثر اطمئناناً الآن بعد نشر حكايته، وهي تقول: “أظن أن أبي يرقد بسلام الآن”.
د.لنا عبد الرحمن
independentarabia