آني آرنو تروي مأزق حمل الفتاة الفرنسية خارج الزواج
روايتها "الحدث" تحولت إلى فيلم سينمائي وتثير قضايا ذاتية وعامة راهنة
الكاتبة الفرنسية آني إرنو (صفحة الكاتبة على فيسبوك)
بعد مرور ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً على صدور روايتها الأولى “الخزائن الفارغة” والاعترافات المدهشة للبطلة الشابة سيلينين، أصبح لدى آني آرنو مئات الآلاف من القراء، كما أن كتابتها كانت موضوعاً للعديد من أطروحات الدكتوراه، التي لم تنته من تحليل طريقتها في الكتابة الفريدة والعالمية في آن واحد. تكتب آرنو من دون نسيان مكان قدومها من بلدتها الريفية البعيدة، حيث المقهى الذي أنشأه والداها في “يافتو” في أعالي نورماندي.
من خلال الكتابة المنبسطة التي بدأتها برواية “المكان” وصولاً إلى تحفتها الفنية “السنوات” الصادرة عن دار غاليمار، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر الدولية عام 2019، وأكدت مكانتها الأدبية الرفيعة، بما تضمنه من قضايا عامة وصفتها آرنو بأنها أحداث مضت ومن الصعب أن تعود”، مروراً بتفاصيل حساسة حول أصولها الشعبية، تقول: “أنا أول من أنجز دراسات عليا في عائلة تتكون من العمال والتجار الصغار”. وتتحدث أيضاً عن أمور حياتها العاطفية، لكن من دون أن تقدم نفسها بشكل مباشر، أو تأخذ قارئها إلى سرد مراوغ. أصدرت آني آرنو منذ عام مجلداً بعنوان “كواترو” أو مقتطفات ضمت العديد من مؤلفاتها، إضافة إلى مجموعة من الصور، والصفحات غير المنشورة من يومياتها، وهذا يؤكد طريقة آرنو الخاصة في الكتابة التي جعلت منها كاتبة رائدة، حملت خصوصيتها، ودفعت عدة أقلام روائية للسير على نهجها.
“الحدث” سينمائياً
في هذا العام تحول عملها الروائي “الحدث”، إلى فيلم سينمائي من إخراج أودري ديوان وهي مخرجة فرنسية من أصول لبنانية، قام بالبطولة آناماريا فارتولومي، وقد حاز الفيلم جائزة الأسد الذهبي في مهرجان نيس عام 2021. وقد صدرت الترجمة العربية لهذه الرواية، أكثر من مرتين، منها عن دار ميريت للمترجمة هدى حسين، وعن دار الجمل للمترجمة سحر سيالة.
الرواية بالترجمة العربية (دار الجمل)
رواية “الحدث” مكتوبة بضمير المتكلم، وتتناول قضية حساسة تدور في ستينيات القرن الماضي، حين تقرر البطلة وهي طالبة جامعية أن تقوم بعملية إجهاض، في الوقت الذي كان ممنوعاً على الأطباء القيام بهذه العملية. تروي آرنو تشابك المشاعر النفسية التي تعاني منها البطلة ليس على المستوى الذاتي فقط، بقدر توقفها عند المخاوف الاجتماعية نتيجة الموقف الذي وجدت نفسها فيه، لنقرأ: “أخبرني طبيب النساء بأني حامل. ما كنت أحسبه ألماً في المعدة، كان غثياناً إذاً، ومع ذلك وصف لي حقنا حتى تعود دورتي الشهرية. لكن لم يبد عليه أنه واثق من فاعليتها. عدت إلى الحي الجامعي مشياً، كتبت في المفكرة: أنا حامل، يا للهول”.
البطلة آن أمامها القليل من الوقت، والامتحانات تقترب، وبطنها ينتفخ، وكانت محاولة الإجهاض تعني، وفق قانون ذلك الوقت أن السجن من الممكن أن ينتظرها هي وكل من ساعدها في تنفيذ هذه الخطوة. لذا من المهم الكتمان والتستر على الحدث، الذي لا يبدو أن البطلة توليه قدراً من السرية، إذ تكشف حالها أمام العديد من الأصدقاء سعياً لإيجاد من يساعدها على الخروج من المأزق. تواجه آرنو هذا الحدث بشجاعة بالغة معتبرة إياه مسألة شخصية بحتة وأن من حقها وحدها القرار واختيار الزمن الذي سوف تصبح فيه أماً. لا تبدو الكاتبة في خلاف مع فكرة الأمومة في حد ذاتها، إذ يخال القارئ في بعض الفقرات أنها غير متأثرة بالقرار. لا يوجد أي انثيال عاطفي رغم ما يبدو على البطلة من حساسية شديدة، ولكن أن تكون أماً في العشرين وهي على مقاعد الدراسة فهذا يبدو أمراً جنونياً. في أحد حواراتها تصف آرنو علاقتها بالأمومة وبولديها بأن حياتها ظلت لوقت طويل، تدور حولهما وحول اهتمامها بهما، وكيف تأثرت هي أيضاً بنوع الموسيقى “الميتلك” التي كانا يستمعان إليها.
الرواية بالأصل الفرنسي (دار غاليمار)
لعل الجدير بالتوقف أمامه هو أسلوب آرنو في الكتابة الذي يميل إلى الجمل القصيرة والتكثيف، والحركة الانتقالية السريعة داخل المقطع السردي، إلى جانب التداخل بين المشهد الخاص والعام الذي يشير للزمن وسرعة الانتقال بين السياسي والشخصي، كأن تقول: “بعد مرور أسبوع اغتيل كينيدي في دالاس. لكن هذا الخبر لم يكن شيئاً ذا بال قد يثير اهتمامي”. لا تكتفي آرنو بسرد ما يتراكم داخل البطلة من تداعيات نفسية، بل إنها تقدم صورة اجتماعية لما يحيط بها من أشخاص معظمهم يرفض الإجهاض، وقسم آخر يدعي حرية المرأة في الاختيار، بينما ضمنا يدين المرأة كما هو الحال مع زميلها في الجامعة “جان” الذي ينتمي إلى جماعة سرية تناصر النساء وتؤيد تحديد النسل. لكن في اللحظة التي صارحته بحملها اعتراه فضول ذكوري مهين تصفه قائلة: “لم أحب الطريقة التي عاملني بها، كان جان براغماتياً، واثقاً أنني لن أحمل منه، بما أنني حامل أصلاً”. تسلط آني آرنو الضوء على واقع اجتماعي متكامل لسنوات الستينيات والتحولات التي يتطلع إليها، في الوقت الذي ترغب فيه البطلة أن تعيش ضمن الكتب، وأن تكون امرأة مثقفة حقاً.
ضوضاء العالم
حظي نص “السنوات” باهتمام عالمي بعد وصوله إلى قائمة “البوكر” العالمية 2019، جعل آني أرنو في الواجهة بما فيه من ثراء وتأصيل لتجربتها، التي أرادت من خلال هذا النص تحديداً أن تحكي سيرة الخاص والعام في ضفيرة واحدة، أكثر من نصف قرن من الأحداث تحتشد في صور متلاحقة تنفصل وتتصل في التحام سردي سلس ميز سردها. الذاكرة والماضي وما تلاشى بعيداً، ما استدعته من يومياتها ومن أوراقها، تشبكه بحنكة تثري السرد. حاولت الكاتبة في هذا النص المذهل أن تربط بين الماضي والحاضر، وترى أن “العالم في النتيجة ينقلب رأساً على عقب، ونحن نشيخ أيضاً”.
أفيش الفيلم المأخوذ عن الرواية (الخدمة الإعلامية)
تترسخ كتابة آرنو في العلاقة مع الزمن بكل أشكاله، وهذا جلي جداً في كل نصوصها. ثمة حضور للأنا الشاهدة، في مقابل العالم الخارجي كله الذي تراقبه على مدار حياتها الطويلة، والتي تجاوز زمن الكتابة فيها أكثر من ستين عاماً أمضتها صاحبة “المكان” التي بلغت الثمانين من عمرها، وهي تصوغ هويات أبطالها، وتنسج حولهم حكايات عميقة وحميمة وبسيطة في آن واحد. لا تنتمي آني آرنو إلى الكاتبات اللاتي يدعين القتال من أجل أفكار أكبر من الكتابة، إنها أكثر القضايا الجديرة بالنضال من أجلها، وعبر الكتابة تطرح كل ما تود الدفاع عنه. لقد اختارت أن تكتب ما تريد بعزلة وصمت، من دون أن يعنيها أن تكون مرئية جداً في الوسط الثقافي الباريسي، لذا فضلت البقاء على مسافة آمنة كأنها تحمي نفسها من غواية الشهرة التي جاءتها متأخرة نسبياً.
تصف آرنو كتابتها في “السنوات” بأنها تلقائية وبسيطة وبعيدة عن التعقيد الإبداعي، إذ كانت تتجاوب مع الكلمات والصور التي تنثال في ذاكرتها بسهولة، سواء إذا استدعتها أغنية تنطلق من الراديو، أو ذكرى موقف عاطفي أثار داخلها الحنين والشجن، أو حكاية قديمة قفزت من الذاكرة، كانت تسارع لتدون ما يأتي إلى خاطرها على الفور. تدور الأحداث بين 1945 و2005، وقد اعتبر بعض النقاد هذا الكتاب سيرة ذاتية رغم أنه مكتوب بضمير الغائب، لكن آرنو تنفي هذا الأمر وترفضه، بل تؤكد أنها تكتب لأن لديها ما تريد أن تقوله.
لا نستطيع أن ننسى أيضاً التحولات التي حدثت في فرنسا وأوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، فمن خلال الصور والذكريات التي خلفتها الأحداث والكلمات والأشياء، تقدم كاتبة “مذكرات فتاة” وصفاً للمجتمع الفرنسي، وتعطي إحساساً بمرور السنين، من فترة ما بعد الحرب إلى اليوم. وفي الوقت نفسه ينبثق وجودها هي كساردة مراقبة لكل ما هو شخصي وجماعي وسياسي أيضاً. لكن سر نجاح هذه الكتابة أنها لم تتمحور حول الذات، ولم تغرق فيها أبداً، بل ظل السرد لكل ما هو ذاتي، مغزولاً بخفة مع الأحداث الشمولية لكل ما يحيط بها، لتكشف عن ستين عاماً من الانطباعات والمعالم التي تميز حقبة ولحظة من الزمن، وجود التلفزيون، الهاتف القديم، ثم ظهور الكمبيوتر والآيباد. تقول: “في كل مرة يتم دمج الجهاز الجديد في حياتنا، إلى حد لا يمكننا تخيل الحياة من دونه”.
نص “السنوات” يبدو بمثابة تذكير مذهل بما يجعل الحياة تستحق العيش، عبر الأحاسيس الصغيرة، الملذات العظيمة إلى حد ما، ثم اللحظات المجيدة التي تنبثق فيها السعادة من شعاع الشمس أو من رائحة يعاد اكتشاف تأثيرها علينا.
لنا عبد الرحمن
www.independentarabia.com