الواقع والفن في الحياة الروسية

“أقوى المحاربين هما الوقت والصبر” يمكن لمقولة تولستوي  هذه أن تنطبق بحكمة على مجمل الحياة الروسية بكل حقولها التي تشمل التاريخ والأدب والعمارة والفنون، إذ ما من بلد قط تعرض لتحولات سياسية واجتماعية كبرى في غضون ما يقارب أقل من قرن مثل تلك التي تعرضت لها روسيا. بداية مع أحداث ثورة  1905 التي فرضت بعض الإصلاحات، ثم ثورة 1917 التي استبدلت الملكية القيصرية بـ “حكومة مزدوجة”، ثم أوصلت الحزب البلشفي إلى السلطة بقيادة فلاديمير لينين، وتم القضاء نهائيا على حكم القيصر وأعدم هو وعائلته.

مع إطلالة عام 1939، ظهرت بوادر الحرب العالمية الثانية، وكان لروسيا مشاركة كبيرة فيها لتنتهي الحرب عام 1945 ، مع قيام الجيش السوفيتي بوقف الغزو الألماني على “لينينغراد”، سان بطرسبرغ- حاليا. سيطرت روسيا على العديد من دول أوروبا الشرقية وسميت بالاتحاد السوفياتي، واستمر هذا حتى عام 1991، حين حصلت تحولات كبرى، انهار النظام الشيوعي وبدأت روسيا مرحلة أخرى من تاريخها الجديد، لا يمكننا أيضا أن ننسى الإشارة إلى مصطلح ” الحرب الباردة”، بين روسيا وأمريكا، التي ظلت مستمرة حتى ما قبل تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي.

***

مما لا شك فيه أن السيطرة الروسية على عدد كبير من بلدان أوروبا الشرقية ودول البلقان ترك انعكاسات واضحا على ثقافة تلك الدول، هذا يتجلى بوضوح في العمارة والابداعات الأدبية، من رواية وشعر وفن تشكيلي. فقد سيطر الاتحاد السوفيتي  على خمسة عشر جمهورية، أصبحت الآن دولًا مستقلة.

في زيارتي لأذربيجان عام 2019، وفي شارع “خاتاي”، في قلب العاصمة باكو، بدا الطراز المعماري الروسي حاضرا بقوة في الأبنية عبر الأعمدة الضخمة والعريضة، المساحات الواسعة، والنوافذ المتسعة. أما في الأدب فإن الأعمال الأدبية المتاحة في المكتبات، مكتوبة باللغة الآذرية أو الروسية، لكتاب وكاتبات من آذربيجان، فلا توجد ترجمات بالإنجليزية أو الفرنسية، بل  إلى الروسية فقط. لعله من المهم التنويه هنا بشأن خضوع آذربيجان لسيطرة الاتحاد السوفيتي جاء بعد كلمة لينين الشهيرة ” لا غنى لنا عن نفط باكو”.

من الدول التي زرتها وينطبق عليها هذا الكلام أيضا  هي ” جورجيا”، إنها  دولة أخرى مجاورة لآذربيجان وكانت خاضعة للسيطرة الروسية. في قلب العاصمة ” تبليسي” ضمن أكثر ما يلفت النظر هو  حديث الناس بالأسواق باللغة الروسية إلى جانب الجورجية خاصة بين كبار السن وكل من ولد قبل عام 1980، فاللغة الروسية حاضرة في النظام التعليمي حتى الآن ، تماما كما هي الانجليزية في البلدان العربية، ولعل  هذا يبدو طبيعيا  فقد دامت سيطرة  الاتحاد السوفيتي أكثر من ستين عاما.

الحياة والفن

يتجلى تأثير الواقع الاجتماعي على الفنون عموما في كل مجالاتها، وعند تناول الابداع الروسي تتضح آثار الواقع وتحولاته في الأدب والفن التشكيلي والشعر، خاصة في مرحلة روسيا القيصرية، ثم قيام الإتحاد السوفيتي، أما في مرحلة التسعينات فيبدو حضور السينما أكثر سطوعا من الابداعات الروائية أو التشكيلية.

تقدم لوحة ” عودة غير متوقعة” للفنان الروسي ايليا ريبين (1833- 1930) نموذجا مصغرا عن الحياة الإجتماعية في روسيا أيام حكم القيصر، من خلال اللوحة التي تصور الأب العائد من معسكرات الاعتقال في سيبيريا، حيث جرت العادة ذاك لوقت على القيام  بنفي المعارضين والمتمردين إلى سيبيريا،  وغالبا ما يلاقون حتفهم هناك، بل من النادر أن يعودوا إلى عائلاتهم.

في اللوحة يظهر الأب العائد بثيابه الرثة، تفتح له الخادمة الباب بينما بقية أفراد العائلة – الذين يتضح عليهم أثر الاستقرار الاجتماعي والرفاه- تعلو وجوههم الدهشة، الطفلة الصغيرة التي تجلس إلى الطاولة تبدو أنها لا تذكر الأب الغائب، بينما أخيها الذي لم يجلس بجوارها  تعلو وجهه ملامح الفرحة بعودة أبيه. الزمن في اللوحة يشير إلى  حضور  لينين  في المشهد السياسي، حيث نرى صورته معلقة على الحائط. يمكن اعتبار هذه اللوحة جزءا تمهيديا من الواقع الانتقالي بين مرحلتين : الحكم القيصري ثم ظهور لينين وتحول البلد إلى النظام الاشتراكي، كما أن  إيليا ريبين يُعد من  أحد أعظم رسامي التيار الواقعي الروسي في القرن التاسع عشر، الذي برع في تصوير ملامح البشر وعواطفهم وما يختلج في صدورهم، وهذا ما ساعده  على تجسيد وجوه متعددة من الحياة الروسية.

ثمة فنان روسي آخر برع في تصوير الحياة الإجتماعية في مرحلة القيصر وهو قسطنطين ماكوفسكي ( 1839-  1915) نقلت لوحاته واقع التفاصيل اليومية للشعب الروسي، اللوحة التي بين أيدينا بعنوان ” العروس الروسية”، وفيها تصوير لمشهد من يوم عرس لفتاة من الطبقة الأرستقراطية، ويتضح مدى فخامة الثياب التي ترتديها النساء واهتماهمهن بطقوس الفرح والتفاصيل الاجتماعية والنفسية التي تعلو الملامح، إلى جانب اللون الذهبي الطاغي في حضوره على اللوحة، سواء في لون الثياب المتداخل مع الأبيض، أو في الظلال المنعكسة على السقف والأثاث.

حدث تغيير كبير في أسلوب ماكوفسكي  بعد السفر إلى مصر وصربيا في منتصف سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث تغيرت اهتماماته من المشكلات الاجتماعية والنفسية إلى المشكلات الفنية من جانب الألوان والشكل، وظهر هذا جليا في لوحاته.

***

فيما تلا نهاية الحكم القيصري سوف نلاحظ في هذه المرحلة تحولا كبيرا في الفنون التشكيلية، حيث الصور التي حضرت داخل لوحات الفنانين طغى عليها حضور الطبيعة والفلاحين والأرض والقمح والنساء العاملات في الحقول.

في بداية النظام الاشتراكي في روسيا وخلال مدة حكم لينين تحديدا كان هناك نوع من الحريات والتجريب في الأدب والفن، وبعد انتشار روايات تولستوي وتشيخوف ودوستويفسكي، أصبح للكاتبين الشيوعيين مكسيم غوركي وفلاديمير ماياكوفسكي، حضورا نشطا على الساحة الأدبية، وتم أيضا نفي المئات من المثقفين والكتاب والفنانين أو حظرت أعمالهم.وهذا الكلام ينطبق أيضا على حقبة ستالين، بل إنه تم تضييق الخناق أكثر على الفنانيين والكتاب، خاصة ممن أُعتبرت أعمالهم غير داعمة للنظام الاشتراكي. إن أبرز حادثة أدبية مدوية  ينبغي ذكرها هنا حصول الكاتب ألكساندر سولجينتسين على جائزة نوبل في الأدب، وكيف تم  نفيه لاحقًا من الاتحاد السوفيتي، لاعتبار أنه قبل جائزة من دولة معادية.

وداعا لينين

لعل ما يجدر التوقف أمامه عند الحديث عن التجربة الاشتراكية والشيوعية، أنها قسمت العالم كله تقريبا إلى جبهتين، مع النظام الاشتراكي أو ضده، وهذا التأييد أو الرفض حضر في شكل الحياة الإجتماعية والابداعية، وأدى أيضا سياسيا إلى انقسام بلد واحد إلى معسكرين، كما حصل في ألمانيا، وانقسامها إلى ألمانيا الشرقية المؤيدة للمعسكر الاشتراكي، وألمانيا الغربية المدافعة عن الرأسمالية.

في فيلم ” وداعا لينين” للمخرج ولفغانغ بيكر، نرى الحياة في ألمانيا من منظارين، ما قبل سقوط جدار برلين وما بعده. يحكي الفيلم قصة أم لديها طفلين، بينما الأب يهرب إلى ألمانيا الغربية، وهي تقع تحت سطوة الحكم الاشتراكي فتضطر للتظاهر بأنها من أشد مؤيدي الاشتراكية. تتصاعد الأحداث لتدخل الأم في غيبوبة، بعد علمها أن ابنها الأكبر يتم القبض عليه في مظاهرة معادية للنظام، وبينما هي في غيبوبتها تحدث التحولات الكبرى في ألمانيا، يسقط جدار برلين، وتبدأ الحياة الغربية في التسلل إلى الواقع الاشتراكي، وفرض أنماط جديدة من العيش لم تكن معروفة من قبل. يتناول الفيلم بشكل كوميدي ساخر موقف الابن الذي يُفكر في حالة أمه التي ستكتشف بعد يقظتها من الغيبوبة أن الحياة تغيرت تماما، لذا يعمد الابن إلى التمويه وإيهامها بأن الواقع مازال كما هو كي يخفف عنها هول صدمة انهيار حياتها السابقة، وقناعاتها التي عاشت عليها سنوات طويلة.

يُعتبر هذا الفيلم من أهم الأعمال التي رصدت التحولات السريعة نحو الرأسمالية، وانهيار النظام الشيوعي في حياة البشر العاديين. وعند الحديث عن التحولات الحياتية نجد صداها في الفن أيضا من خلال قبول المجتمع الروسي لأنماط الفن الغربي، سواء  في الموسيقى ودخول موسيقى الروك والجاز والبوب بعد أن كانت ممنوعة في الحقبة الشيوعية، أو في الفن التشكيلي  مع ظهور فنانين انفتحوا على النمط الحداثي الغربي في لوحاتهم وظهر تأثرهم بالواقع الجديد.

الآن، في المدارس الفنية الروسية الحديثة يمكن أن نلاحظ اتجاهات متنوعة، تُبرز قدرة الفنانين على استيعاب مدارس فنية متعددة وصهرها في بوتقة جديدة، الاستفادة من الإرث الفني الكلاسيكي العريق، ودمجه بمدارس شتى من التعبيرية والتجريدية مرورا بالرمزية والسوريالية  وصولا للاستفادة  من التصوير والتقنيات الرقمية الحديثة.

على سبيل المثال قدم الفنان الروسي الكسندر كوليكوف الذي شارك في المهرجان الروسي للفن المعاصر في أبريل 2021،  في مجموعته “أساطير من الشرق” لوحة للملكة سمير اميس عمل على دمجها رقميا  على خلفية صورة  لمتحف بوشكين، وهو في معظم أعماله  الفنية يدمج بين القديم والحديث مستفيدا من كل التقنيات، ويمكن ملاحظة هذا في سائر لوحاته مع العمل على إزالة الحدود بين الصورة والرسم  إلى جانب استخدام تقنية الكولاج.

د. لنا عبد الرحمن

مجلة ( الفنون )

زر الذهاب إلى الأعلى