الروائية الآتية من جزر موريشيوس تنافس على الجوائز وتخاطب كل النساء

الفرنكوفونية ناتاشا أبّاناه تروي ندوب الطفولة التي لا تزول

 

الروائية الفرنكوفونية ناتاشا أبّاناه (موقع الفرنكوفونية)

لا تعتبر الكاتبة الفركوفونية المنحدرة من جزر موريشيوس ناتاشا أبّاناه أنها تكتب عن حالة فردية في روايتها “لا شيء يخصك” (غاليمار)، بل إنها من خلال تناولها قصة بطلتها “تارا” تتكلم عن كل النساء وما يحدث لهن بعد تجربة الفقد. تكتب أبانا عن مواضيع حساسة مثل الذاكرة والتشظي والجسد والموت. وهذه الرواية التي تُنافس في جائزة “فيمينا” اعتبرتها الصحافة الفرنسية ضمن أهم الروايات في هذا الموسم الأدبي وتُقرأ على دفعة واحدة، ربما بسبب استخدام الكاتبة لغة غنائية حساسة مع ضمير المتكلم على مدار النص، مما يشعر القراء بنوع من الألفة مع بطلتها، إلى جانب قوة السرد المفعمة بالذكريات والصراع الداخلي في آن واحد.

تبدأ الرواية مع صوت “تارا” وماضيها التراجيدي الذي يُعاود الظهور بعد وفاة زوجها، فهي تغرق في حزن يشل حياتها ويجعلها عاجزة عن القيام بالمهام اليومية المطلوبة منها، مثل إعداد طعامها والاهتمام بنفسها والاعتناء ببيتها الباريسي. وعوضاً عن هذا تمضي البطلة مستسلمة لآلام خسارة الزوج، وانتهاء مرحلة من الحياة بعد غيابه. في الوقت عينه تبدأ أشباح الماضي في الظهور لها من جديد عبر ذاكرتها التي قررت أن تمحوها، لكنها اختزنت صوراً مؤذية من سنوات الطفولة والشباب حين كان اسمها ” فيجايا”. تقول “لم تعد تلك الفتاة تكتفي بالعيش في أحلامي، بل إنها تريد الظهور من جديد، تدفعني لتخرج من داخلي، وأنا لم أعد أمتلك القوة للسيطرة عليها، إنها هي التي تجعلني أنسى الكلمات والأحداث، هي التي تجعلني أرقص عارية”.

ذاكرة ضبابية

يلتقي الطبيب إيمانويل مع تارا في بلدها البعيد حين يكون في مهمة إنسانية، وهناك يقع في حبها ثم يقرر أن يصطحبها معه ويتزوجها، لكن بعد مرور خمسة عشر عاماً يموت إيمانويل وتغرق تارا في كآبتها. على الرغم من الحب الشديد الذي حملته لزوجها، فإنها لم تقص عليه كل حكايات الماضي وفضلت أن تدفنها في أعماقها، ظناً منها أنها ستتلاشى مع الوقت.

تظهر شخصية “إيلي” ابن زوجها الذي يشعر بالقلق عليها، يزورها ويعتني بها ويرتب منزلها ويحاول إقناعها بالذهاب إلى المستشفى، لكن من دون جدوى. لقد اختفت شقتها وسط فوضى رهيبة، تنتشر في كل مكان، في غرفة المعيشة توجد أطباق قذرة مكدسة بشكل عشوائي، مع بقايا وجبات منتهية، وصحف قديمة ومجلات، وأوراق مناديل مجعدة، ونباتات خضراء ذابلة، وملابس متناثرة هنا وهناك. بماذا عليها أن تبدأ؟ أمسكت تارا بكيس قمامة وذهبت لإحضار المكنسة، لكنها تُماطل ولا تتحرك إلى الأمام خطوة واحدة، تفكر أن العاصفة ستحل قريباً وهي تحس بالرطوبة والحرارة، لذلك تخلع ملابسها: البلوزة والتنورة، ثم تستلقي على الأرض. يغمرها إحساس شديد ومستمر بالتعب. بعد ثلاثة أشهر من وفاة زوجها إيمانويل، لم يعد الحزن وحده هو الذي يتركها مستاءة ومرتبكة، بل ذكرياتها المأساوية التي ظنت أنها دفنتها بعيداً. سرعان ما يكتشف القارئ أسباب معاناتها، فهي تعيش أسيرة العنف الذي تعرضت له في الماضي، وما حدث لها بعد الانتقال إلى باريس كان مجرد فقدان ذاكرة وهمي، فقط من أجل حمايتها من ماض لا تود تذكره، لا تريد تارا أن تترك حياتها بعد الزواج والرحيل، بيد أن ماضيها المأساوي في “بلد دمره تسونامي” يظهر على سطح ذاكرتها ويسبب لها الخوف، في تلك الأرض تركت ” فيجايا” وسط الأنقاض لتصبح تارا، زوجة إيمانويل.

اسم “فيجايا” الذي أطلقه عليها والداها ويعني النصر يتناسب مع الشخصية القديمة لها المختلفة عن تارا. فيجايا كانت تحب الرقص والغناء والفرح وتؤمن بالطفولة الأبدية، تلقت تعليمها في المنزل على يد والدها، وهو مفكر حر يرفض المذاهب الدينية أو السياسية التي تُدرس في مدارس بلده، بينما أمها عرافة تمارس قليلاً من السحر والعلاج بالنباتات والتعاويذ لأهل القرية، هذه الأم الغامضة قليلاً هي التي علمت فيجايا الرقصة الصوفية “بهاراتاناتيام”.

بين عالمين

لكن هذه الطفولة المثابرة على الدراسة والمرح في آن واحد، لن يبقى منها شيء، فيحل مكانها العنف، وحوش بلدها يترصدونها ويتركون في داخلها ندوباً لا تزول، توشم روحها وتلغي إرادتها الحاضرة من أجل العودة للماضي ومواجهة كل الخسائر والتحرر من كل هذا الوجع. لكن “تارا” الآن في أضعف حالاتها، وحيدة، وحزينة، ولا تعرف من هي تحديداً، هل هي فيجايا أم تارا، ولمن عليها أن تنتصر؟ تقول “لم يخبرني أحد أنني كنت غبية عندما قلت إنه في يوم ما سيكون لديَّ أجنحة حقًا فأطير بحرية مثل الطيور”.

هذه الرواية المظلمة والعنيفة يختلط فيها الحزن والحنان والذاكرة الطفولية المتداعية. تخوض الكاتبة في مونولوغات داخلية طويلة وعذبة وتساؤلات عن وضع المرأة وكيفية النجاة من آلامها ومخاوفها، بخاصة تلك الآلام الناتجة عن العنف وعن كوارث كبرى مثل الحروب والنكبات والزلازل والتهجير، وما ينتج عنها من نفي طوعي أو إلزامي. لذا لا تذكر الكاتبة أبداً اسم البلد الذي جاءت منه بطلتها، ومن خلال حكايتها تُلامس ناتاشا أبانا آلام جميع النساء المنفيات اللواتي تم اقتلاعهن من جذورهن، كي يبدأن حياة جديدة في بلد آخر مع لغة أخرى وأشخاص جدد؛ يرافقهن ارتباك الغربة والتساؤل عن الهوية المشطورة بين الماضي والحاضر. وحين نتخيل أن حضور الأمس بعيد عن اليوم يبدو العكس تماماً، لأن الأمس يحضر في كل الصور والتفاصيل. هنا مع تارا تبزغ الخيالات من ماضي فيجايا، ذكرياتها مع البحر، مع أشجار جوز الهند، مع رائحة المانجو، ورقصة “الباراتاناتيام”، حين كانت تضرب الأرض بكعب حذائها العالي، وهذا يمكن ملاحظته في صورة الغلاف المشطور إلى جزءين، في النصف الأسفل منه صورة التنورة الملونة التي ترتديها فيجايا في زمنها البعيد.

كاتبة عابرة للحدود

تعتبر أبّاناه نفسها كاتبة عابرة للحدود تكتب باللغة الفرنسية التي تعلمتها على مقاعد الدراسة مع الإنجليزية، وتقرأ بها مقطوعات شعرية ونثرية منذ الصغر، ومع أجدادها وأسرتها تتحدث لغة “الكريول”، وهي إحدى اللغات الهندية. الجدير بالذكر أن هذه الرواية هي العاشرة للكاتبة ناتاشا أبانا التي تعمل صحافية ومترجمة تكتب تقارير في العديد من الصحف الفرنسية إلى جانب عملها الروائي، وقد انتقلت للإقامة في فرنسا منذ عام 1998، ومن أعمالها السابقة رواية “مدار العنف”، التي نالت عنها جائزة التلفزيون الفرنسي للرواية عام 2017.

الروائية سالي روني تفتقد العالم الذي أبعده زمن الحجر تصف أبّاناه شخصيات أبطال رواياتها قائلة “معظم أبطالي يعانون قيوداً اجتماعية ونفسية وجسدية، وعوائق بسبب الظروف المعيشية التي ينبغي أن يكافحوا كي يتحرروا منها. أدرك أن هذا النوع من الصراعات أبدي، وقد يستمر من الميلاد إلى الموت، إنه ما نطلق عليه اسم القدر”. كلامها هذا ينطبق مثلاً على روايتها “الأخ الأخير”، التي تروي فيها قصة راج وديفيد، وهما طفلان واجها الحرب العالمية الثانية في معسكر لليهود المرحلين إلى موريشيوس.

لعل من الممكن بسهولة تلمس تقاطعات بين أبّاناه وأبطالها الممسوسين بذكريات الطفولة، إذ تختزن ذاكرتها مقداراً من آلام القصص القديمة التي سمعتها من أجدادها، وأصبحت أشبه بالأساطير، هي المولودة في جزيرة “موريشيوس” تنحدر من عائلة من الهنود “المجندين” في نهاية القرن التاسع عشر، الذين أُجبروا على المنفى وتم تجنيدهم ليحلوا محل العبيد المحررين. تقول “كان من حسن حظي أن أعيش في منزل أجدادي، وأن ألتقي بطريقة يومية وحميمية مع جدتي التي تحدثت معي بحرية شديدة. أخبرتني عن قصص المعسكرات، كنت أتبعها طوال الوقت. أرافقها إلى العديد من الأماكن، وحين نذهب لركوب الحافلة تشير إلى البعيد وتطلب مني ألا أذهب إلى هناك أبدًا حيث كان المخيم. كان الأمر بالنسبة إليَّ كما لو كانت تريني سجنًا… شيء خطير ومخيف”.

    د.لنا عبد الرحمن

  independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى