بوتين يستغل الحملة ضد رولينغ ليهاجم سياسة الإلغاء الغربي

صاحبة "هاري بوتر" تبرر موقفها السلبي من التحول الجنسي وقراؤها يتهمونها بالنفعية

فوجئت الأوساط الثقافية الأوروبية بما أعلنه الرئيس الروسي بوتين في تصريح له قارن بينه وبين الكاتبة البريطانية ج. ك. رولينغ بكونهما ضحيتي “الإلغاء الثقافي الغربي”. هذه المقارنة الاعتباطية التي لم تقنع السياسيين والإعلاميين، دفعت الروائية رولينغ على استنكار هذا التصريح “القيصري” وعلى الرد على بوتين وادعاءته التي تفوق التصور. وبرأيها أنه لا علاقة بين رفض بعض قرائها في الغرب لموقفها السلبي من “الترانس” والتحول الجنسي، وإدانة الغرب للحرب الوحشية التي يخوضها بوتين ضد الشعب الأوكراني المسالم. تصر رولينغ على رفض ما تسميه “إنكار الجنس البيولوجي” جهاراً، وتدعو إلى الحفاظ على النوع البشري الذي يمثل الوجه الحقيقي للحياة البشرية، ولم تتقدم باعتذار من قرائها الكثر الذين يؤيدون هذا “التحول” والذين يدافعون عن المثليين وكافة حقوقهم. واتهمت رولينغ بتغريدة لها، بوتين واستنكرت مجازره التي يرتكبها في أوكرانيا واعتداءه على المدنيين الصامدين، إضافة إلى ملاحقته المعارضين في الدخل الروسي وسجنهم ونفيهم وخنق الحريات بصلافة. وكانت رولينغ أطلقت نداء من أجل مساعدة الأيتام الأوكرانيين الذين ما زالوا صامدين في المياتم الأوكرانية.

معروف أن جي. كي. رولينغ، مبدعة الشخصية الأسطورية هاري بوتر، لم تكتف بعدم الكشف عن اسمها الأول “جوانا” عند إصدار سلسلة هاري بوتر، بل يبدو أنها أحبت التنكر دائماً خلف شخصية ذكورية، كي تؤجل الكشف عن هويتها الحقيقية حتى التأكد من نجاح إصداراتها في الأسواق. ومع روايتها البوليسية “دماء معتكرة” التي نشرتها أيضاً تحت اسم “روبيرت غالبرث”، ثم الكشف لاحقاً أن “روبيرت” هذا، ليس إلا جوانا رولينغ المعروفة بـ”جي.كي. رولينغ”.

هذا الكشف وضع المؤلفة في مأزق التساؤل عن السبب في معاداتها المتحولين جنسياً، بعد أن قامت بنشر تغريدة على صفحتها الشخصية تقول فيها ما مفاده، إنه لم يعد من السهل تحديد من هي المرأة، وأنها ضد حصول المتحولات من النساء على حقوقهن القانونية في المساواة مع النساء الأخريات. جاء كلامها هذا بعد إعلان الحكومة الاسكتلندية أنها بصدد إصدار قوانين لحماية حقوق المتحولات من النساء، ومنحهن حق الاعتراف بـ”النوع الاجتماعي”. لم تمر تغريدة رولينغ مرور الكرام بل سرعان ما سببت غضباً ساطعاً ضد المؤلفة لدى جمهورها العريض، والعديد من الفنانين والفنانات الذين شاركوا في بطولة أعمالها، وكذلك الكتاب والكاتبات الذين اعتبروا أنها مصابة برهاب المتحولين جنسياً، وأنها تناقض نفسها بمثل هذه التصريحات. لم تصمت رولينغ بل ردت بتغريدة أخرى مستعينة فيها برواية “1984” لجورج أورويل، قائلة: “الحرب هي سلام. الحرية هي العبودية. الجهل قوة، هكذا يقلب النظام الحاكم الحقائق للسيطرة بشكل أفضل على الناس”.

تنكر للهوية

هذا الغضب لم يأت فقط من التغريدة، بل مضى البعض في تحليل ظاهرة رولينغ الإبداعية، وطريقتها في التفكير ورؤية العالم. لقد اختارت هذه الكاتبة عند ظهورها الأول التنكر لكيانها الأنثوي، وعدم التصريح باسمها الحقيقي، وهويتها، وحكايتها إلا بعد أن حقق بطلها هاري بوتر شهرة مدوية، وجنت ملايين الجنيهات من وراء هذه السلسلة المليئة بأعمال السحر والخوارق. والمفارقة أيضاً أنها اختارت لرواياتها بطلاً مذكراً، وليس فتاة تخوض المغامرات بدلاً من هاري، كما أنها لم تقدم في أعمالها أي شخصية نسائية خارقة بالتوازي مع هاري، فهل هي تعادي النسوية؟ مثل هذه التساؤلات المشروعة تضاعفت مع روايتها “دماء معتكرة” التي صدرت ضمن سلسلة رواياتها البوليسية، ونشرتها أيضاً باسم رجل، وتساءل البعض معلقين على التغريدة: “أليس في هذا السلوك كثير من التناقض؟”، فيما اعتبر آخرون أن جي كي رولينغ مجرد مدعية وأنها لا تدعم حقوق النساء.

في مسيرة رولينغ المعروفة لدى الجميع أنها خاضت معاناة جسيمة قبل الوصول للشهرة، وتحقيق هذا النجاح الكبير الذي جعلها على قائمة الكاتبات الأكثر ثراء في العالم. فقد عانت رولينغ مثل أي امرأة وحيدة تربي طفليها من دون وجود رجل، من قلة في مصادر الدخل، واضطرارها للعمل طوال ساعات في مهن بعيدة عن الكتابة، تلجأ إليها كي تؤمن المال. وكشفت في كثير من حواراتها كيف كانت تستيقظ فجراً قبل أن يصحو طفلاها، كي تتمكن من الكتابة في الجزء الأول من سلسلة هاري بوتر، التي بيع منها 450 مليون نسخة، حول العالم.

ربما كان من المفترض لهذه الأحداث المفارقة في حياة رولينغ أن تجعلها أكثر دعماً للنساء، ولكن يرى البعض أنها تثبت في اختياراتها الإبداعية لشخصيات رواياتها، أنها غير معنية بالتجارب المؤثرة والمؤلمة في واقع المرأة، قدر ما أنها تميل لتقديم أبطال يحققون لها نجاحاً جماهيرياً، تحافظ من خلاله على عرشها بأن تظل ضمن قائمة “الأكثر مبيعاً”.

اختفاء الوحوش

لا تعتمد رولينغ، في “دماء معتكرة”، على التقنيات التي استخدمتها في سلسلة هاري بوتر، كي تتجنب أي تكهنات قد يتوقعها القراء عن كتابتها. هنا لا توجد وحوش خرافية، ولا أعمال سحر خارقة للطبيعة. تتخلى المؤلفة عن كل هذا وتمضي في عالم الخيال الإجرامي مع شخصية “كورمارون سترايك” المحقق العملاق، المحارب العائد من أفغانستان الذي فقد ساقه ووضع مكانها ساقاً بلاستيكية. ابن مطرب روك مدمن على المخدرات، نشأ في كنف عمه وخالته في بيئة متواضعة في غرب إنجلترا، مثل رولينغ نفسها. ثم يتبين أنه شخصية محببة ومعقدة، في آن واحد. ويكون على المحقق أن يحل لغز جريمة وقعت في سبعينيات القرن الماضي. وقد استلهمت رولينغ قصتها هذه من حادثة قتل حقيقية وقعت ضحيتها عام 1974، طبيبة كانت تغادر عيادتها وتنوي الذهاب إلى حانة لتلتقي بصديقتها. لكنها تختفي بشكل غامض، ثم يتم الكشف لاحقاً أنها قتلت على يد قاتل متسلسل تنكر بزي امرأة، كي يتمكن من الاقتراب من ضحيته.

تبدأ الأحداث مع سترايك أثناء زيارته لخالته جوان في كورنوال، حين يقترب منه شخص غريب ويعرض عليه تعيينه تحرياً خاصاً لمعرفة ما حدث لوالدته التي اختفت قبل أربعين عاماً تقريباً. يقبل سترايك كورموران هذه القضية التي لم يتم الكشف عن ملابساتها. وعلى الرغم من المحاولات المستميتة التي قام بها محققون آخرون من قبل، يمضي في البحث عن هذا الاختفاء، ويكرس برفقة مساعدته المزيد والمزيد من الوقت من أجل محاولة كشف خيوط اختفاء الطبيبة، التي مضى عليها عقود طويلة. يعود إلى صفحات الجرائد التي تناولت الحدث، ويستمع إلى تسجيلات الشهود للعثور على أول الخيط، فيلتحم الماضي مع الحاضر في تداخل مثير، كعادة رولينغ في الكتابة.

الرواية التي تجاوز عدد صفحاتها بالإنجليزية 900 صفحة، وتمت ترجمتها إلى الفرنسية الشهر الماضي، تقدم أيضاً تفاصيل اجتماعية وفنية عن الحياة في إنجلترا، دامجة بين الواقعي والبوليسي في إطار مشوق. تتحدث رولينغ مثلاً عن الحزن العميق الذي أصاب البطل بعد معرفته إصابة عمته بالسرطان، وعن الطفولة الحزينة لسترايك، وعن فرق الروك والموسيقى التي شاعت في ذلك الوقت.

شخصية البطل التي قدمتها رولينغ تجسد النموذج التقليدي لصورة المحارب المساعد للضعفاء، ومنقذ الأرامل واليتامى، المحقق الذي يسعى للوصول إلى الحقيقة والانتصار للعدالة، من خلال استخدام قدراته الذهنية والبدنية الفائقة التي تمكنه من القيام بإنجازات مختلفة عن الرجال العاديين أمثاله. إنه شارلوك هولمز معاصر، يقتفي آثار الألغاز ويقوم بالمغامرات المحسوبة ويجمع الدلائل والقرائن كي يصل إلى غايته. ولكن لم تتمكن رولينغ من أن تضفي خصوصية على شخصية سترايك سوى في علاقة الحب الملتبسة مع مساعدته، المتحولة جنسياً، التي كانت رجلاً في ما مضى. ولعل هذه النقطة بالتحديد أثارت أيضاً نقمة قراء رولينغ ومتابعيها، معتبرين أنها تستخدم قضيتهم ضمن أعمالها لتحصل على المزيد من القراء فقط، من دون أن تكون داعمة لهم حقاً.

د.لنا عبد الرحمن

  independentarabia

 

زر الذهاب إلى الأعلى