بودا بار.. شعرية سرد المأساة والمصائر المتقاطعة

 

في رواية بودا بار للروائية لنا عبد الرحمن الصادرة مؤخرا 2021 عن منشورات ضفاف والاختلاف عدد بارز من النواتج الجمالية والقيم الدلالية التي تؤكد خصوصية سردها وتميز خطابها الروائي، فهي واحدة من الروايات التي تذهب بعيدا في التنقيب النفسي في نماذجها الإنسانية وتشكل شخصيات مختلفة عن السائد، وذات حضور قوي تبقى ظلالها حاضرة بقوة في ذاكرة المتلقي، هي رواية كثيفة في سردها، وأقرب إلى غابة بما فيها من الأنماط الإنسانية المتشابكة وذات المصائر المتقاطعة، وتتشكل شعرية هذا السرد من عدد من المنابع الجمالية فيه، أبرزها قدر التشابهات أو الاختلافات التي تتحقق في كل قصة فرعية، وكل شخصية في الرواية هي أقرب إلى حكاية فرعية وقصة جديدة يتم طرحها بتكثيف داخل الفضاء السردي الإطاري الذي يبدو غائما أو غير صارم الحدود، والحقيقة أن هذا الأمر يجعل بنية الرواية الكلية أقرب إلى طبيعة الحياة، ويجعلها تبدو عفوية ومصدقة وكأنها ليس فيها تأليف أو خيال، وأنه ليس فيها إلا الحقيقة، وفي هذا النسق التشكيلي المازج بين نقاط الاختلاف والتشابهات ميزة جمالية أخرى، وهي أنها تصنع إيقاعا خاصا لعالم الرواية، ويمكن أن يكون عالم الرواية نفسه له إيقاع، وهو مختلف عن الإيقاع السردي، وإيقاع العالم الروائي يتشكل من تفاوت نغمات الحكايات وتفاصيلها وقدر ما يتواتر أو يتكرر ويتشابه منها، وقدر ما يكون مختلفا أو مغايرا، بالإضافة طبعا إلى النسق التركيبي الذي يتم عبره دمج هذه النغمات مع بعضها أو يضمها إلى بعضها، وهو نسق قد يبدو للوهلة الأولى عشوائيا أو بلا نظام، ولكنه في الحقيقة يتشكل وفق نظام كامن في عقل منتج الخطاب السردي ولو بغير وعي منه مطابقا لصورة الحياة وطبيعتها، ولكن بشكل مكثف وفي نموذج مصغر.

وربما تكون التشابهات التي في بعض الحكايات على نحو ما نرصد هي أبرز ما يلفت الانتباه وتشكل مكونا خطيا يتفاعل مع الاختلافات، إنه أمر أقرب إلى امتزاج الخير والشر وتداخلهما وصراعهما، صراع القيم والمعاني المتناقضة والتحامها، على سبيل المثال نجد أن الجمال يصبح لعنة وسببا في الدمار والهلاك وموت الشخصية، وبخاصة إذا كان جمالا استثنائيا، ويتكرر في الرواية لدى شخصيتين متعاقبتين زمنيا لم تلتقيا أبدا، لكن كانت الروابط بينهما لاحقة عبر الأبناء، وهما شخصيتي جمانة المقتولة وغزلان أم دورا، والأمر نفسه أحيانا بالنسبة للغنى أو الثراء الذي يتحول إلى سبب للرعب أو الخوف من المجهول أو يتسبب في الحسد ويصنع لدى بعض الشخصيات في الرواية هواجس وعبئا نفسيا. ثم بجانب هذه التشابهات تكون هناك اختلافات أخرى كثيرة، تتمثل في قوى الشر أو في النماذج المضادة، وهي الأخرى متناسلة في الزمن وممتدة ويكمل بعضها بعضا من حيث الأدوار أو التوظيف أو التنوع، فنجدها متحققة في الرجال وفي النساء كذلك، ومثال ذلك التكامل بين شخصيتي ديبة المرأة صاحبة المجمع السكني وهي رمز لبقايا الحرب بكل شرورها، وكذلك القاتل المأجور. المهم أن هذا التنوع في التركيب وتشكيل شخصيات هذا العالم الروائي وأنماطه يمنحه ثراء كبيرا ويجعله يتشكل على نحوي شعري كما هي شعرية الحياة نفسها، وهو ما يمنح المتلقي شعورا غامضا بالشجن والعجز عن التفسير، فيبدو الخير والشر يمضيان جنبا إلى جنب بشكل محير وبلا تفسير.

وهكذا تبدو رواية بودا بار بحكاياتها الكثيرة التي شكلت نسيج عالمها أقرب إلى سيمفونية كبيرة فيها عديد النغمات والمقاطع الموسيقية التي يكون منها الثابت والمتغير، ما يشكل قلب السيمفونية أو اللحن الأكبر وما يشكل نغمة فرعية أو حلية موسيقية على الهامش أو ترديدا وتكرارا يتفاعل مع آخر. فنجد مثلا أن المأساة وقصص الحب تمثل خطوطا متوازية تمضي في فضاء الزمن بثبات من الماضي إلى المستقبل، ويوازيها خط الخيبة أو السقوط، أو المزج بين هذا وذاك، قصة دورا مع آزاد فيها شيء من قصة والدها حبيب وأمها غزلان، ودائما هناك الثابت الممتد من الانكسار أو الخيبة والمختلف أو المتغير من طريقة كل شخصية في التعامل مع خيباتها.

يمثل الطبيب يوسف الجد/ الجراح الذي أصر على البقاء في الحرب الأهلية النغمة الثابتة في اللحن، ممثلا للخير أو للعطاء والصمود وحب الحياة، وهكذا يبقى حفيده وسميه يوسف الصغير سؤالا ممتدا، عن إمكانية أن يكون مثل جده أم يصير فجوة في الزمن مثل أبيه وأمه، وغيرهما من البائسين، وهكذا تبدو كافة حكايات الرواية مفتوحة على احتمالات عديدة في مصائرهم وهكذا يكون الخطاب الروائي كله أثرا مفتوحا أمام تأويلات المتلقي الذي يجد دائما أمامه مساحات للتوقع أو أن يكون له تخييله الموازي لتخييل الرواية.

من جماليات هذه الرواية كذلك أنها رواية أقرب إلى الشكل البوليسي ولهذا فهي حافلة بالتشويق وثرية بالمحفزات التي تجعل المتلقي مشدودا إلى التوغل فيها طوال الوقت ليستكشف كثيرا من الأسرار والوحدات الغامضة أو التي تحتاج إلى تفسير أو يتوقع بعض الحوادث المفاجئة من كثير من الشخصيات، فهي رواية حافلة بالتوتر والقلق وفيها نوع من الصراع الخفي أو المتواري تحت ركام من الرماد. لكن الأهم في تقديرنا أن هذا الشكل البوليسي الذي يبدأ من نقطة القتل واختفاء جثة القتيلة الفاتنة جمانة لا يشتغل بشكل أحادي وسطحي على جريمة القتل إنما يستغل هذه الحادثة وهذا الإطار البوليسي ليطرح حياة كاملة صاخبة بالحيوية والحركة وتكتظ بالأنماط الإنسانية والقصص الفرعية المشوقة هي الأخرى وذات تشابكات كثيرة، ويتم توظيف المكان على نحو بارع في الربط بين هذه القصص كلها التي يجمعها هذا الحي في العاصمة اللبنانية ويبقى المكان مصدرا للأسرار في الرواية عبر تاريخه وامتداده الرأسي في الزمن وبما مرّ عبره من الحوادث الصعبة مثل الحرب الأهلية، وفي الرواية يتم التركيز بشكل أكبر على مجمع عمارات ديبة بما لها من تاريخ غامض ومصير عبثي في انتقال الملكية حددته الحرب، وبما يرتبط به من الجثث أو القتلى السابقين، عبر أشكال عديدة من القتل، وكأن المكان على هذا النحو صار مفتوحا على عوالم ميتافيزيقية وليس فيه حواجز أو سدود فاصلة بين الحياة وما ورائها، وهذا ما جعله مناسبا لشخصية العرافة التي أصبحت مكملة لهذا السمت المكاني وهو نوع التوفيق أو التوافق في الأبعاد السيميائية؛ ذلك لأن العرافة هي الأخرى تشير إلى عالم الأشباح والأرواح الغاضبة أو المغدورة التي قد تعود إلى الحياة مرة أخرى عبر أشكال مختلفة من العودة سواء بالاستحضار بالوسيط الروحي، أو بالتسلل والأشباح أو أن يكون بينها وبين أحد الأحياء سر ما، وهكذا فإن شخصية هيام العرافة تتناسب وتتوافق بشكل كامل مع سمات المكان وأحد أهم ملامحه، وهو ما يتكرر كذلك مع منزل القلعة الغامض ونظرة دورا أو أبيها وعائلتها له. والحقيقة أن هذه النقطة لتشير إلى نوع من التشابك والتعاضد الإشاري بين الشخصيات والمكان بحيث يكون مصيرهما واحدا، أو يكون كل واحد منهما ناتج عن الآخر، فلا تعرف هل الذي شكل المكان بهذا الشكل ومنحه غرائبيته وأبعاده الأخروية والسحرية هو الإنسان أم أن الإنسان هو الذي أصيب بلعنة المكان وكان مصيره على هذا النحو المأساوي بسبب المكان. والمكان المقصود هنا يتسع عن مجرد عمارة أو شارع أو حي ليشكل فضاء أرحب قد يكون رامزا إلى لبنان أو منطقتنا العربية بكل ما تحمل من الغموض والأبعاد السحرية والأسطورية المتجذرة فيها. يبدو عالم الرواية مؤسسا على بيئة غامضة، وكأن شيئا ما من الماضي يطارد الجميع ويدفعهم إلى هذا المصير الغريب. ربما تكون الحرب الأهلية بمخلفاتها وبقاياها من الطائفية والكراهية، والفساد. والحقيقة أن الرواية فيها المستويان من الدلالة، الرمزي والمباشر، ما يؤشر إلى حياة واقعية في الحي بكافة تقاطعاتها، وما يجعل هذه الحياة في الآن نفسه دالة على الواقع اللبناني وأزمات لبنان ومشاكله، ولكن هذا المستوى يحتاج إلى جهد تأويلي ولا يتضح إلا مع نهاية الرواية غالبا، وفي المستوى الرمز يمكن أن تشير جمانة المقتولة إلى وضع لبنان وترديها السياسي، وبخاصة أن القاتل يظل مجهولا، ويتفرق دمها بين كثيرين منهم المحبون ومنهم الكارهون. وفي أحد الفصول يميل الخطاب السردي إلى تقنية الأصوات ليدلي كل طرف برأيه أو اعترافه حول علاقته بجمانة التي تشبه أطراف الشعب اللبناني وفصائله بهذا البلد الذي عشقوه جميعا ولكنه انتهى إلى هذا المصير الصعب، وبخاصة أن جمال جمانة وفتنتها تشبه واقع لبنان وحاله وتفرده.

يشتغل خطاب الرواية على توظيف الفن والموسيقى على نحو جيد، فتكون هذه العناصر والتفاصيل المرتبطة ببعض الأغاني الأجنبية أو العربية أو السيمفونيات مانحة لهذا العالم بعض نبضه وحيويته وتجعل حضوره قويا ومجسدا أمام المتلقي، وتكون دالة كذلك على سمات الشخصيات وطباعها وثقافتها أو حالتها المزاجية، فالحقيقة هي قادرة على إنتاج عديد الجماليات عبر توظيفها التلقائي وجعلها جزءا طبيعيا من عالم الرواية وأحداثه. وفيها الكثير من الجماليات الخاصة بالتشكيل السردي مثل التعامل مع الزمن عبر مستويات عدة، فإذا كان هناك الخط الزمني الراهن الذي يؤطر فضاء الرواية من بدايتها حتى النهاية من بعد حادث مقتل جومانة توغلا في هذا الزمن مع المستقبل واستكشاف شخصيات الحي القديمة والوافدة، لكن هناك كذلك الاسترجاعات الكثيرة وغير المحدودة بزمن معين، وترتبط بكافة الشخصيات تقريبا، حيث يأتي الرجوع إلى الماضي حتميا وينير ماضي الشخصية ويجعل لها جذورا تاريخية وامتدادا طبيعيا، فتكون الشخصية مطاردة بماضيها أو أنها نتاج هذا الماضي بكل ما فيه ومتسقة معه، وهكذا تكون المبررات لبعض أشكال الشقاء أو الحيرة أو الخيبة، وبرغم كثرة الشخصيات وكثافة هذا العالم تأتي الرواية في فضاء سردي غير مترهل، وصغير برغم ثرائها، فلا تتجاوز صفحاتها 166.

ويمكن عدها رواية نفسية بامتياز لقدر سبرها لأغوار هذه الشخصيات دون استثناء تقريبا، ولا تبدو هناك شخصية هامشية، فيكون هناك تعرض لمشاعر الشخصية وتقلباتها وقلقها وأحلامها وهواجسها. وتتحرك في فضاءات مكانية شاسعة وبعيدة، داخل لبنان وخارجها، قد يكون هذا الحي البيروتي وهذا المجمع السكني هو البؤرة ونقطة الانطلاق، لكنها عبر الاسترجاعات تذهب إلى أماكن أخرى كثيرة في أوربا وأمريكا اللاتينية أحيانا، أو سيرلانكا دولة الخادمة التي تجعل منها هي الأخرى قاتلة مطاردة، ولا ينكشف سرها من البداية، فتبدو الرواية على هذا النحو من التنقلات المكانية الواسعة ذات طاقة جمالية أقرب للسياحة، وتجعل المتلقي يتجاوز الحركة في مكان واحد ممل.

كما يبدو فيها توظيف سحري لأشياء المكان وعناصره بما يدعم طاقات الخطاب التشويقية، ويأتي ذلك على نحو خاص في عالم العرافة هيام وأشياء مسكنها ومقتنياتها المحفزة التي تبدو كل قطعة منها نافذة على عالم الماورائيات والسحر والأسرار، وفي قمتها المخزن أو المكان السفلي الذي تصل إليه من شقتها ويحوي مخلفات الحرب والأرواح التي فُقدت وقتلت وكأنها نافذة على التاريخ أو الماضي، فترمز هذه الأشياء إلى انفتاح الحاضر على الماضي أو التاريخ بامتداده وميراثه من الألم والمصائر المعلّقة، ولهذا التداخل بين الأزمان الذي أنتجته الرواية من توظيف الأشياء قيمة دلالية أخرى لأنه جعل الشر والقتل ينفذ إلى الحاضر ويعبر إلى الحياة الجديدة عبر هذه المنافذ غير المسدودة، بما يسهل لقوى الشر العبور.

وفي الرواية كذلك توظيف جيد للأحلام بما ينتج قيمتين مهمتين؛ الأولى ترتبط بتتبع الشخصيات ورسمها نفسيا ورصد قلقها وهواجسها، والثانية ترتبط بالتشويق وجعل الأحلام هي الأخرى نافذة على عالم الماورائيات وفتح احتمالات متصلة بمصير الشخصية أو مخاوفها، فترتبط الأحلام بعمل العرافة أو بتكهن الشخصية بمستقبلها أو ما ستؤول إليه. والحقيقة هي واحدة من الروايات الثرية التي فيها الكثير من الجوانب الجمالية والدلالية المهمة وجديرة بمزيد من التأمل والقراءة والاشتغال التأويلي.

د. محمد سليم شوشة

جريدة ( القاهرة )

زر الذهاب إلى الأعلى