رواية “بودابار” ومزج المادية بالروحية

 

تقع رواية بودابار للكاتبة لنا عبد الرحمن في 166 صفحة، وقد ظهرت طبعتها الأولى في 2021م عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، ويلفت عنوانها النظر، فالعنوان مكون من كلمتين ركبتا تركيبا مزجيا: الكلمة الأولى هي بودا والكلمة الثانية هي بار.

وكلمة بودا تستدعي رائد الديانة البوذية، وهي ديانة هندية شهيرة، وكلمة بار تستدعي الحانة التي تقدم الخمور، ولا تخفى بطبيعة الحال دلالة ذلك، حيث تمزج الكاتبة ما هو روحي بما هو مادي في إشارة منها إلى حالة التواؤم بين عالم الروح من ناحية وعالم المادة من ناحية أخرى.

وفي الرواية يوجد محل اسمه بودابار في أحد الأحياء العتيقة في بيروت، حيث تدور أحداث الرواية حول قتل جمانة واختفاء جثتها. ومنذ البداية نجد جمانة ميتة، وتتشكل الخيوط السردية حول هذا الحدث، وعلى الرغم من قتل جمانة في بداية الرواية فإنها تظل حاضرة عبر كتلها السردية وحتى النهاية.

ما يلفت النظر بقوة في هذه الرواية هو تقنية السارد فيها، حيث نجد تعدد مستويات السرد بوضوح شديد، فالسارد المحوري في هذه الرواية يستخدم الضمير الثالث هو، ويقدم الكتل السردية على طريقته، ولكن هذا السارد يتخلى في بعض الكتل السردية عن سلطته في الحكي ليمنحها لساردين آخرين كانت لهم وجهة نظرهم الخاصة، وكشف سردهم عن أغوار نفسيتهم ورؤيتهم للعالم، مما كان له أبلغ الأثر في كسر أفق التوقع السردي لدى القارئ. وقد كان لهذه التقنية السردية أثرها الكبير على البنية الحوارية، لأنها جعلت معظم حوارات الرواية منقولة من وجهة نظر السارد المشارك، فظهرت كلمات مثل قال وقالت وقلت مما جعل الحوار يتراجع درجة، فهو حوار منقول على لسان السارد المشارك.

وقد استأثرت الكتلة السردية المرقمة بالرقم 10 بوجود عدد من الساردين المشاركين. كل واحد يتقدم بشهادته حول الشخصية الراحلة جمانة، ويتكلم عن علاقته بها، ولم يكن السارد الرجل فقط وإنما كان هناك السارد المرأة. وإذا كان قتل جمانة هو المحرك للسرد، فقد أدى ذلك لحضور شخصيات مختلفة كان لها تقاطع مع هذه الشخصية الغائبة الحاضرة منذ بداية الرواية، وحتى نهايتها.

وكان لشخصية دورا اللبنانية التي هاجرت طفلة بصحبة أبيها إلى إستراليا وعادت إلى بيروت حضور قوي في السرد، وشخصية مروان زوج جمانة المحب لها، ولكن هذا الحب الكبير لها لم يمنعه من الدخول في علاقة مع دورا رغم أنها تكبره بسبعة أعوام.

ومن الشخصيات التي كان لها دور كبير في هذه الرواية شخصية يوسف الطبيب الذي يعالج المرضى، ويتمتع بقدر كبير من النضج والثبات، وهو في مرحلة عمرية متقدمة فقد كان جدا، وهو في ثباته واتزانه يتراسل مع جبل لبنان في هذا الثبات.

تبدو المدينة وهي هنا بيروت هي الفضاء المكاني الذي تشكلت من خلاله الرواية، ويظل البحر حاضرا بقوة فيها. ويبدو المكان المحوري في هذه الرواية منتميا إلى أحد الأحياء العتيقة في بيروت، في فترة زمنية قلقة مما يجعله وعاء لشخصيات قلقة ومتشظية وتعاني من اضطرابات حقيقية تعكس قلقا اجتماعيا وسياسيا واضحا في هذه المنطقة.

ومن هنا فإن البنية المكانية تتشكل في الغالب من خلال البيت بما فيه من حجرات وأثاث وتفاعل الشخصيات المحورية معه، وظهر التعدد فيه من خلال بيوت مختلفة مثل بيت جمانة وبيت دورا وغير ذلك. وكانت الهيمنة للمكان البشري، فالبيت هو صنيعة إنسانية وليس منتجا من منتجات الطبيعة. ولكن ذلك لم يمنع من إطلالات مكانية تنتمي لعالم الطبيعة مثل الطبيعة الجبلية للبنان، والطبيعة الجبلية كما تتجلى في جبل المقطم بالقاهرة، حيث وجدنا ارتدادات ومنية تظهر فيها جمانة وزوجها مروان يزورانه كثيرا، ويمارسان فيه بعض الطقوس الصوفية مع غيرهما.

وقد استطاعت الكاتبة أن ترسم ملامح مخايلة لشخصية جمانة تجعلها متفلتة من التحديد الصارم. ومنذ الكتلة السردية المرقمة برقم 1 نعرف مقتل جمانة في شقتها الواقعة في الدور الرابع من مجمع عمارات ديبة في بيروت في حي الأمير، ومع ذلك فقد ظهرت شخصية جمانة من خلال استدعاء صوتها بصورة قليلة في بعض الكتل السردية، ذلك حينما يتقدم بعض الساردين ليقص تقاطعه معها في بعض فترات حياته. وقد حاول السرد في هذه الرواية أسطرة شخصية جمانة، فبدت قوية في حضورها قوية في غيابها، وتأثيرها هائل على الشخصيات التي تفاعلت معها، ولها مع كل شخصية قصة لافتة. ولا يخفى بطبيعة الحال أهمية اختيار اسم جمانة، وكأنها اللؤلؤة المفقودة التي يبحث عنها كل بطل وله معها قصة.

تبويب الرواية جاء على هيئة أرقام، يبدأ بالرقم صفر وينتهي بالرقم سبعة وعشرين، فيكون مجموع الكتل السردية هو ثمانية وعشرين بعدد حروف الهجاء في اللغة العربية. وتلعب تقنية النجوم دورها في التقطيع السردي داخل معظم الكتل السردية.

استطاعت الكاتبة أن تلعب بالبنية الزمنية مما كان له أكبر الأثر في كسر الخطية النمطية للتتابع الزمني. وكان له دور كبير في رسم ملامح المبنى الحكائي.ومن هنا فقد سجلت تقنية الارتداد حضورا قويا في هذه الرواية.

وقد كانت كل كتلة سردية خاصة بسارد واحد، ولكن هذا النظام قد تصدع عندما قدمت الكاتبة في الكتلة السردية رقم ثلاث عشرة أكثر من سارد وكلهم يستخدم الضمير الأول أنا في السرد، ويحكي جانبا من علاقته مع جمانة ورؤيته الخاصة لها.

وفي هذه الكتل السردية كان يتم تقديم كل شخصية باسمه، وكانت هذه الشخصيات متنوعة سواء في المستوى الاجتماعي أم في النوع.

ويبدو بوضوح شديد التفاعل مع السياق الاجتماعي والاندماج مع طبيعة البيئة البيروتية في لحظة زمنية معينة. ومن واقع  تفاعل الرواية مع أحداث الحرب الأهلية الطاحنة في بيروت. كان لقلق الشخصيات وتشظيها وخوائها الروحي العميق أشد الحاجة لاستدعاء “بودابار” بما يمثله من هدوء روحي عميق وحالة السلام العميقة بين الجوانب الروحية من ناحية/ بودا والجوانب المادية من ناحية أخرى/ بار. وما يمثله في الوقت نفسه من انسحاب آمن من عنت هذه الحياة، وهنا يكون التصوف والنقاء الروحي خلفية شفيفة لأحداث وشخصيات تتميز بالعنف والتشظي. ومن هنا فقد ركزت الرواية على بنية المفارقة بين هدوء موسيقى بودابار من ناحية وقلق شخصيات الرواية من ناحية أخرى. مما يشير إلى حالة من العطش الروحي والرغبة الحقيقية في السلام.

د عايدي علي جمعة

أستاذ الأدب والنقد

 

زر الذهاب إلى الأعلى