“دييغو غارثيا” رواية لكاتبين تفوز بجائزة الكومنولث
تحكي عن تهجير سكان جزر المحيط الهندي وتفتح آفاقاً جغرافية جديدة
” دييغو غارثيا” ليس اسم شخص أو مكان هنا، بل هو عنوان الرواية الفائزة بجائزة الكومنولث، عمل أدبي مشترك ألفته ناتاشا سوبرامانين ولوك ويليامز، وحالفهما الحظ معاً في تتويج فوزهما الذي يعتبر الأول من نوعه في تاريخ الجائزة بأن تتسلمها أربع أياد بدلاً من اثنتين، كما جرت العادة.
التقى الثنائي الأدبي في جامعة إيست أنجليا أثناء دراسة الكتابة الإبداعية، وقررا البدء في كتابة هذه الرواية منذ عام 2011، فأمضت الكاتبة ناتاشا سوبرامانين، البريطانية من أصول موريشيوسية، والكاتب الاسكتلندي لوك ويليامز، شطراً من الزمن في تدوين أفكارهما وملاحظاتهما، وتبادل الإيميلات، حتى تمكنا من إنجاز هذه التحفة الأدبية التي وصفتها الروائية آلي سميث بأنها “استثنائية في طرحها مضموناً وأسلوباً، ومختلفة عن سائر الأعمال الأدبية المقدمة للجائزة”.
آفاق جديدة
اعتبر النقاد أن الرواية تقدم إلى عالم الأدب آفاقاً جديدة، حكائياً وأسلوبياً، على رغم أن جوهر موضوعاتها يتمحور حول أفكار إنسانية كبرى مشتركة في العالم كله: الاستعمار والتهجير القسري والمنفى والموت كمداً والإبادة التاريخية والثقافية لشعب ما، لكن الجديد في الرواية يأتي مضموناً، من تناول حكاية تهجير مواطني جزيرة “شاغوس”، وهي إحدى جزر موريشيوس التي احتلتها بريطانيا، لذا حضر سؤال جوهري شغل لجنة التحكيم التي دفعت هذا العمل الروائي بقوة نحو الضوء الأدبي، ويتعلق بطريقة الكتابة والعلاقة مع الكلمات، “كيف يمكنك أن تحكي بصدق عن قصة ليست قصتك، وتبتكر أسلوباً يخصك لكتابتها؟”. لعل هذا السؤال الذي ربطت اللجنة بينه وبين العلاقة مع الفن هو ما جعل الجائزة ترسو عند جزيرة الكاتبين اللذين نسجا معاً وبصبر خيوط روايتهما.
تنطلق الأحداث مع شخصيتي الكاتبين الزوجين داماريس وأوليفر، اللذين يعيشان معاً في لندن ثم ينتقلان إلى إدنبرة بعد انتحار شقيق أوليفر عقب خروجه من مصحة نفسية. يطمح الزوجان إلى كتابة رواية وتشكيل أسلوبهما السردي الخاص، ويمضيان أيامهما معاً في حياة شحيحة مادياً لكونهما عاطلين عن العمل، يدخنان ويسرقان الكتب ويتداولان عبر الإنترنت عملة “البيتكوين”، ويحلمان بأن يكتبا كتاباً يسدد الضربة القاضية ويحقق لهما المجد الأدبي والأمان الاقتصادي.
في إدنبرة يلتقي الكاتبان مع دييغو غارثيا، وهو شاعر جوال ذو شخصية جذابة، طرد من جزيرة شاغوس عام 1973، فيقعان تحت تأثيره وينبهران بما يحكيه لهما من معلومات. ودييغو غارثيا ليس اسمه الأصلي، بل اسم الجزيرة التي انحدرت منها والدته وطردت منها بعد الاحتلال البريطاني لأرخبيل موريشيوس. توضح الرواية أنه انطلاقاً من هذا الحدث صار بإمكان البريطانيين تأجير الجزيرة للحكومة الأميركية لبناء قاعدة عسكرية عليها، فقد ظل أرخبيل موريشيوس مستعمرة بريطانية حتى عام 1968، ثم جعلت بريطانيا الاستقلال مشروطاً بالاحتفاظ بجزيرة “شاغوس”. هناك بعد سياسي واجتماعي واضح حرص الكاتبان على تأكيده على مدار النص، يتعلق بالإحساس بالهزيمة الجماعية أمام القوى الرأسمالية، التي تفضي إلى الموت كمداً أو انتحاراً، كما حصل في الرواية مع شقيق البطل.
ينغمس البطلان داماريس وأوليفر في هذه القضية، يرغبان في تتبعها والكتابة عن إرثها المأسوي عبر لغة حية ومتدفقة تتخللها اقتباسات من أفلام وثائقية ووثائق قانونية، ومعلومات متفرقة تستلهم منها البطلة داماريس وقائع لكتابة قصة قصيرة أيضاً. تتصاعد الأحداث في الرغبة المتقدة لمعرفة الحقائق، لكن الشاعر دييغو يختفي بعد عدة ليال.
يفترق الزوجان لبعض الوقت، ويؤدي التباعد المكاني بينهما إلى اختلاف في حركة السرد، والاستعانة بأسلوب الرسائل، لمواصلة البحث والنقاش والتشكيك في الروايات السياسية المسموعة، وإعادة تخيل الهياكل الاجتماعية الراسخة التي ساعدت على وقوع المأساة. الرواية تشتبك في سرد حميم ومتصل يشبه حركة الموسيقى بين قرار وجواب، وبين “هي” و”هو” واتحادهما معاً في نحن. حرص مؤلفا رواية “دييغو غارثيا” على تقديم نظرة أنثوية وأخرى ذكورية للأحداث عينها، وتبادل زوايا الرؤية حول التاريخ والسياسة، وتضفير الأفكار المحورية لحركة التاريخ مع الحياة اليومية، عبر أسلوب تتداخل فيه البهجة بالوجع والحميمية الداخلية مع الانفتاح على العالم الشاسع.
الخيال والسياسة
بالتوازي مع المضمون الحكائي فإن المعمار السردي للرواية أكثر ما يلفت إلى هذا العمل شكلاً، في اختيار الكاتبين أن تكون الصفحة مقسومة بين عمودين سرديين، عندما يكون داماريس وأوليفر منفصلين، وعندما يكونان معاً، يمتزج السرد مع استخدام صيغة ضمير المتكلم الجمعي “نحن”، وصيغة الشخص الثالث المفرد، لنقرأ: “قضينا الصباح، بالطريقة ذاتها التي نمضيها كل يوم، هو يأتي إلى غرفتها مع القهوة، وهي تتهمه بتبديل حرارة التدفئة، لكنه ينفي ذلك”.
بررت ناتاشا سوبرامانين اختيارهما هذا الشكل قائلة “نحن بحاجة إلى أشكال جديدة لمراعاة التجربة المعاصرة، ولحسن الحظ هناك مزيد ومزيد من الناشرين الذين يدركون أن القراء متعطشون للروايات التي تعيد التفكير في الشكل كما في المضمون”.
أما شريكها في الكتابة لوك ويليامز، فيرى: “أن الكتابة تستخدم الخيال كأداة سياسية، فالرواية هي مجرد شكل واحد يمكن من خلاله التواصل وتلقي المعلومات حول العالم ككل، لكن يمكن للرواية أيضاً أن تخلق مساحة للتفكير بوعي، ونعتقد أن هذا التفكير يمكن أن يلهم الناس للعمل من أجل التغيير السياسي”.
جائزة الكومنولث
وصفت ناتاشا علاقتها مع فكرة الرواية قائلة “من خلال مسيرة والدي التي استمرت 22 عاماً في سلاح الجو البريطاني، كنت على دراية بالقاعدة العسكرية في جزيرة دييغو غارثيا، لذلك كنت أنا ولوك نتحدث عن هذا وأصبحنا مهووسين بهذا الحدث وإرثه، وكيف بدا أن القليل من زملائنا في العمل أو أصدقائنا يعرفون عنه. لقد التزمنا بكتابة هذا على أنه رواية، أو خيال يمضي بجانب الحقائق الباردة الصخرية في صميمها، لكن (الخيال) أيضاً هي الكلمة التي استخدمها الدبلوماسيون البريطانيون والأميركيون لوصف مؤامراتهم لنزع ملكية شعب شاغوس من وطنهم، فقد اقترحت مذكرة الحكومة الأميركية (خلق قصة خيالية) مفادها أن الجزر لم تكن مأهولة بالسكان. وأردنا من خلال روايتنا دحض فكرة الرواية الكاذبة، إذ عبر الكتابة يمكننا استعادة مساحة لتخيل الاحتمالات الأخرى”.
الحزن القاتل
تتكرر في الرواية كلمات تصف الحزن الشديد، والكلمة يضعها المؤلفان باللغة المحلية للجزيرة هي “ساغرين” أو حسرة القلب، التي أدت إلى وفاة شعب شاغوس من خلال تجربتهم في النفي القسري ومحو تاريخهم الثقافي. كثير منهم ماتوا كمداً أو بالانتحار، أو ما شابه ذلك من حالات اليأس، يعتبرهم المجتمع أنهم ماتوا من “الحسرة”، كاستجابة فردية لصدمة جماعية.
السؤال الذي يطرحه بطلا الرواية يدور حول الأدب في مواجهة الكولونيالية، إنه سؤالهما الجارح الذي يدفعهما بشكل محموم للبحث والكتابة عن مصير السكان الأصليين الذين تم نفيهم من موطنهم الأصلي، وعن مصير الأرض أيضاً التي تم احتلالها لسنوات طويلة.
وللمفارقة، فإن هذا السؤال المطروح عن دور الأدب أتت إجابته في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، بعد ستة أشهر من نشر الرواية، حين أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستتفاوض مع موريشيوس في شأن عودة جزيرة “شاغوس”.
ما يجدر ذكره ختاماً أن جائزة الكومنولث تم تأسيسها عام 2013، بالاشتراك مع: New Statesman ومن أهدافها أن توسع من أساليب السرد الروائي، وأن تبتعد عن تقديم الروايات ذات القوالب النمطية. مدير الجائزة هو تيم بارنيل، وقد شارك مع آلي سميث، والروائية ناتاشا براون في التحكيم لصالح فوز رواية “دييغو غارثيا”.
لنا عبد الرحمن
independentarabia