الممثلة الفرنسية صوفي مارسو تكتب لتسأل: من أنا؟

الممثلة الفرنسية الكبيرة صوفي مارسو 

تتسلل الممثلة الفرنسية صوفي مارسو من عالم السينما الذي لمعت فيه نجمة كبيرة إلى آفاق الأدب، لتكتب قصصاً متشظية عن الحياة، تجمع بين السوريالية والفانتازيا، وتعبر من خلالها عن مصير الأنوثة الفطرية والمتفردة، وعن حضور الجسد والإرث النفسي والاجتماعي الذي يتم من خلاله النظر إلى دور المرأة وقوة تأثيرها. تشتبك القصائد والحكايات والخرافات في صور غنية بالمعاني، لتتشكل النصوص التي يتكون منها كتاب مارسو “المقيمة تحت الأرض” الصادر حديثاً عن دار سيغر “Seghers”.

تقدم مارسو في كتابها عبر ثلاث عشرة قصة وسبع قصائد مزجاً بين الخيال والواقع، في رؤية ثاقبة وسخرية فانتازيا بديهية يصعب توقعها. تتدفق كل حكاية من دون أن تكتمل، بل تجد صداها في حكاية أخرى حول طفلات وشابات ونساء يواجهن مصائر مختلفة، يكتشفن الحياة والجسد والآخر، كل واحدة من زاويتها الخاصة، ووفق المكان الذي تنتمي إليه. إحداهن جاءت من أسرة فقيرة ومهمشة، تلجأ إلى الخيال لتحصل على حريتها وتبتعد عن عالم الكبار المضني. شابة ثانية تشعر أنها غير محبوبة فتترك جسدها يتشوه، في حين تؤمن فتاة أخرى أن حصولنا على الحب، بسبب ما ورثناه من جمال الجسد، غير عادل على الإطلاق. لكل فتاة حكاية تختلف عن غيرها، لكنها تتقاطع ضمن مسارات الأسئلة الحائرة عن التواصل الحميم مع الذات، وعن مفاهيم إنسانية راسخة مثل العطاء والنبل والتضحية، وكيف يمكن للمرأة أن تقدم الحب وأن تحمي نفسها في الوقت عينه.

    كتاب “المقيمة تحت الأرض” (دار سيغير)

يجد القارئ في تأملات مارسو من خلال القصص التي اختارت تقديمها وقفات طويلة حول علاقة مهنة التمثيل مع الحياة والفن والجسد. كيف يمكن لفتاة شابة مراهقة تبدأ أولى خطواتها المهنية أن تفهم جسدها، وأن تدرك ما المحظور الذي عليها تجنبه، وما الذي يمكنها فعله بأمان، فلا يترك انعكاسات سلبية على زمنها القادم!

لا شك في أن بدايات مارسو المبكرة في عملها السينمائي تركت تأثيرات جلية في كتابتها، فقد أدت الممثلة الفرنسية الشهيرة أول دور لها في فيلم “الحفلة”، حين كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وقامت بدور “فيش”، وهي فتاة مراهقة رومانطيقية. وكان هذا الدور تميمة الحظ في حياة مارسو، فقد لمع اسمها فوراً مع نجاح الفيلم، ونالت عنه جائزة “سيزار” لأفضل ممثلة واعدة عام 1983، مما شجع المخرج كلود بينوتو على القيام بجزء ثان للفيلم. ومنذ ذاك الحين مضت مارسو في عملها كممثلة حاصدة نجاحات متتالية.

لكن الحديث عن تجربتها في الكتابة يرتبط أيضاً برؤيتها مهنة التمثيل في أنها تجمع بين الحقيقة والخيال. فطوال الوقت يؤدي الممثل أدواراً لشخصيات تقترب وتبتعد عن حقيقته، يرتدي أثواباً لا تشبهه، كي يكشف عن باطن أصحابها. وهو بهذا الفعل يلتقي الكاتب الذي يمضي بخياله وقلمه كي يبني عالماً وشخصيات جديدة. لا يمكننا أن نغفل تجربة مارسو الأولى في الكتابة، مع روايتها “الكاذبة” التي صدرت عام 1996.

وصفت مارسو تلك التجربة بأنها تنتمي في جزء منها إلى السيرة الذاتية، حيث تمحور السرد حول السينما والمسرح وكواليس التمثيل، ومهرجان كان، وكيف تتعامل البطلة مع كل هذا. تقول “أنا كاذبة حتى النخاع. أكذب إلى حد الكمال، بشكل منتظم، مرات في اليوم، مع أو من دون سبق إصرار، بشكل عفوي أو بوقاحة، مع عينين صافيتين ومستديرتين. أكذب كي أهرب من شياطيني وأدير ظهري لهم. أتسلل وأهرب. ومع ذلك فأنا أتحول بمجرد أن تستولي عليَّ الحياة وتظهر الحقيقة لي. لا أحب الحديث عن نفسي، هذه أكبر أكاذيبي، سري الأعمق. يقولون لي إنني لا أعرف نفسي جيداً، لكن ماذا أعرف؟ كل يوم أتنفس بلايين من الذرات الجديدة تحت ضوء الشمس، وأتساءل من أنا!”.

ظلال آنا كارنينا

لعل السؤال الذي يطرح نفسه حول عنوان الكتاب، لماذا “المقيمة تحت الأرض؟” تتسلل الإجابة تدريجاً مع كل حكاية، ورغبة في الغوص عميقاً للكشف عما لا يمكن رؤيته من السطح، ما وجد في تلك المساحة الداخلية الغامضة، حيث تختبئ الحقائق في مكان معتم يصعب الوصول إليه، لذا تمضي مارسو بوعي تام وبأسلوب فيه كثير من روح الدعابة في رحلة حيوية وخصبة تنشد من ورائها حدوث نوع من اليقظة، ليس لها وحدها، بل لغيرها من النساء أيضاً. وهذا عبر استرجاع المناطق المهملة والمنسية في الذات الأنثوية، ومواجهة جراحها، ثم مداواتها عبر الخرافات والحكايات التي نتعلم منها، كي تتمكن المرأة من الوصول إلى ابتهاج أصيل تحقق عبره رأفة موضوعية بذاتها.

لا تضع مارسو حدوداً في سردها بين الماضي والحاضر، أو بين المرأة الناضجة التي هي عليها الآن والبنت الصغيرة التي كانتها حين بدأت في لعب أدوارها الأولى. تصف رؤيتها لإحدى الفنانات قائلة “أتأملها وأفكر، إنها تعرف كيف تكون جميلة، كنت حينها في السادسة عشرة من عمري، كانت مسيرتي التمثيلية قد بدأت للتو، لم أكن أعرف كيف أضع زينتي بإتقان، أو كيف أكون جميلة. جلست في الصف الأمامي أجثو على مكعب متروك على الأرض، لم أكن بعيدة عن بؤرة التصوير، حيث توجد الكاميرا، حيث يوجد السحر، ويمكن أن يحدث أي شيء”.

بعد فيلمها الأول “الحفلة”، الذي اتسم بالطابع الرومانسي الكوميدي، لعبت مارسو أدواراً أكثر تركيباً، كما في فيلمي “عيد الفصح” و”قلعة ساغان”. وفي عام 1995 أدت دور البطولة أمام ميل غيبسون في فيلم “القلب الشجاع”، لكن الخطوة الفنية الأكثر نضجاً جاءت في عام 1997، وهي في الحادية والثلاثين من عمرها، في فيلم يجمع، كما تحب مارسو، بين الأدب والسينما.

لقد جاءتها الفرصة لتقديم فيلم “آنا كارنينا”، المأخوذ عن رواية تولستوي، عالج الرواية درامياً وأخرجها برنارد روز، وشارك صوفي البطولة شون بين وألفريد مولينا وميا كيرشنر وجيمس فوكس. تحكي في “تحت الأرض” عن ذكرياتها مع هذا الفيلم ومع الثقافة الروسية ككل، وتقول إنها لم تكن تعرف كثيراً عن روسيا والأدباء الروس، حتى بدأت في تشكيل ثقافتها الخاصة عن هذا البلد، والتعرف إليه من كثب، من خلال الكتاب والموسيقيين. تحكي عن زيارتها لروسيا مرات، وكيف تأثرت بالثقافة الروسية، ولذا حين لعبت دور “آنا” لم تجد نفسها بعيدة عن النفاذ إلى أعماق بطلة تولستوي، بل إنها تعترف أن ظلال آنا كارنينا بقيت تلاحقها بين حين وآخر، تقول “دائماً أفكر في اختيارات آنا وما فعلته، وفي اختلاف الزمن بالنسبة إلى وضع المرأة، وكيف ترك هذا أثره في قرارات آنا كارنينا”.

في حكايات مارسو وفي قصائدها يلمس القارئ أثر حضور شخصية آنا من خلال اختيارات قصص النساء الواقعات تحت تأثير صلات عائلية أو عاطفية متوترة، أيضاً عبر القصائد التي كتبتها صوفي كي تصف حالاتها النفسية، تقول “أحتفظ دائماً بكتاب مفتوح/ بجانب أحلامي/ بقع حبره لطخت سترتي/ من الفجر العالق عند الساعة الشمسية/ إلى آخر الغسق الممتد/ سال دم آنا على ملاءاتي”.

أما على المستوى الفني فقد أدت صوفي مارسو هذا الفيلم ببراعة وعذوبة شديدة، بخاصة أنه تم تقديمه سينمائياً على مستوى العالم مرات عدة، كان أبرزها فيلم من بطولة غريتا غاربو عام 1935، وقدمته أيضاً النجمة جاكلين بيسيه، وعلى المستوى العربي قدم المخرج عز الدين ذو الفقار هذه الرواية في فيلم “نهر الحب”، من بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وزكي رستم.

لعل الملاحظة الجوهرية التي تخيم على كتاب “المقيمة تحت الأرض”، إلى جانب رغبة صوفي مارسو في تقديم أسئلتها الداخلية الملحة عن معنى الأنوثة، وعن الطفولة والمراهقة المضطربة، وعن المسافة داخل الأسرة الواحدة، والمسافة بين الفرد والمجتمع، وعن مهنة التمثيل وما فيها من مسرات وآلام، هو سؤالها لذاتها “من أكون؟ من هي أنا؟”.

صوفي مارسو الآن، وهي تخطو في عقدها السادس تشجعت لتطرح تساؤلاتها على الورق، رغبة منها في تقديم رؤيتها التي ترى أن من المفيد تقديمها لمن يرغب في التعرف إليها أكثر، لا كممثلة فقط، بل كإنسانة وأم وكاتبة.

د. لنا عبد الرحمن     

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى