«ذاكرة الوصال» سيرة حياتية على مائدة الحواس
«ثمة حياة خصبة، فاتنة، مرحة وحيوية تدور بصمت فى الحديقة والغابة، عبر الهواء والأرض وحفيف الأوراق، الذى يمنحنا الهدوء والإحساس بالطمأنينة. ربما ينظر سكان المدن إلى الأشجار على أنها روبوتات بيولوجية، مصممة لإنتاج الأكسجين والخشب. لكن العلاقة بين الإنسان والشجرة تُشكل صلة حتمية محيرة، تجعل الأشجار ضمن أكثر رفاق الإنسانية ثباتا وغموضا».
هكذا تسرد الكاتبة والناقدة اللبنانية المصرية الدكتورة لنا عبدالرحمن سيرتها الحياتية فى كتابها «ذاكرة الوصال.. سيرة متأمِلة فى الحياة» (دار العين للنشر: 2024) الذى يطوف بنا عبر الحواس ثم البيت بأجوائه ومشاعره قبل أن يرجع إلى الحواس ثانية وتفاعلات شخصية مع أشكال عدة من الأداء الفنى ينتهى بتأملات فى الكتابة.
ربما المعتاد فى السير النسائية العربية أن تحكى عن الألم والنضال أو ربما قصة نجاح وصعود لا أن تبعث البهجة كما هذا الكتاب السيرى البديع الذى يحتفى بالحواس دون تقيد بترتيب زمنى ومعجون بحب الحياة. فى «ذاكرة الوصال» نحن أمام بهجة حاضرة يمكن استدعاء جزء وافر منها على الفور والاستزادة بالرجوع إلى مصادرها الطبيعية منها، والأخرى من صنع الإنسان. فى الفصول الأولى للكتاب تنقل الكاتبة عن الشاعر السلفادورى روك دالون قوله: «مثلك أنا، أحب الحب والحياة ورائحة الأشياء الطيبة».
هذا نوع من السيرة الذاتية يأخذ قارءه لأبواب المسرّات وإن ظهر بعد فترة معتمة مرّت بها كاتبته، لكنها خرجت بعد المعاناة بهذه الثمرة كبعض من فضل الليل على النهار. تأخذنا العتبات الأولى للنص إلى مائدة الحواس المغوية وحاسة الشم المهيمنة فنسافر عبرها إلى واحة النعم التى نحيا فيها ونغفل عنها وسط ضوضاء الحياة ومتطلباتها وسرعة وتيرتها. جاء الغلاف عبارة عن خطوط عريضة تحدد وجه صاحبة السيرة دون ملامح. حاسة اللمس بدت طاغية عند التقاء جانبى شعرها المنسدل فى منتصف الرأس كأوزتان تتلامسان فى وصال، والألوان معبرة عن بهجة الحياة. النظر فى أعمال لنا عبدالرحمن المنشورة بين الرواية والمجموعة القصصية والتى تصل إلى عشر الإصدارات بخلاف كتب النقد الأدبى يُخبرنا أنها مشغولة بالمُدخلات المارة عبر الحواس. يتوافق هذا مع رؤيتها التى تعبر عنها فى كتابها الأحدث قائلة: «الكتابة الجيدة تتميز بحضور بارز للحواس، وفى الأدب بالتوازى مع المشهدية البصرية، هناك المخيلة الشمية التى تستولى على مشاعر المتلقى، ويكون لها تفاعلات مؤثرة على استقبال النص».
تحضر الحواس بقوة فى معظم عناوين أعمالها بين اللمس فى «تميمة العاشقات» و«تلامس» و«حجاب محبة» و«صندوق كارتونى يشبه الحياة»، والسماع فى «بودا بار» و«أغنية لمارجريت»، ثم «ثلج القاهرة» الذى يجمع بين النظر والشم واللمس فكما تقول الكاتبة إن استخدام الحواس مجتمعة يحقق متعة متناغمة. وعدا الأعلام السياسية والنسوية فإن المكتبة العربية لا تحفل بالعديد من الكتب السيرية النسائية. غيرهن مُقلات فى تدوين ذكرياتهن بغرض النشر، وهو ما يمكن أن نعزوه لاعتبارات اجتماعية وثقافية فى العموم تتعلق بسرد الحياة الخاصة على الملأ بشكل لا يتناسب مع وضعهن كزوجات أو أمهات أو غير ذلك ولو انطوت حيواتهن على تجارب ملهمة أو مهمة.
فى الوسط الأدبى، سجلت بعض الكاتبات سيرهن بشكل مباشر مثل نوال السعداوى فى «أوراقى.. حياتى» وقبلها «مذكراتى فى سجن النساء». أيضاً رضوى عاشور التى صدر لها ثلاثة كتب فى هذا الإطار تبدأ بـ«الرحلة: أيام طالبة مصرية فى أمريكا» ثم «أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية» و«الصرخة» اللذان تمزج فيهما بين مشاهد من الثورة وتجربتها فى مواجهة المرض طوال السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها، بالإضافة إلى تأملاتها فى الكتابة.
وهناك من نثرتها بين أعمالها كميرال الطحاوى التى رصدت فى رواياتها مراحل حياتها المختلفة من البداوة وحتى المهجر مرورا بزواج لم يستمر وأثمر عن ابن يعيش فى كنف أمه بخلاف التحولات الفكرية التى مرّت بها. أما كتابها الأقرب إلى السيرة فصدر فى التسعينيات من القرن الماضى بعنوان «مذكرات مسلمة» ويسجل علاقتها بالإخوان المسلمين فى فترة كانت ترتدى فيها الخمار لتغطى رأسها قبل أن تنشق عنهم فى سلام. فى بعض الأحيان تلجأ الكاتبة إلى تناول تجاربها المهمة فى إطار أوسع من الذاتية فتتعرض لجانب بعينه فى حياة المرأة تنظر فيه من زوايا شتى وفى الثنايا أو بعد ذلك تسرد تجربتها الشخصية مثلما فعلت إيمان مرسال فى كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها» (مؤسسة مفردات، برلين – براسل: 2017).
وربما لجأت الكاتبة إلى سرد أدبى لنصوص ذاتية تخلط فيها بين حياتها وما عاشته من رحلات بحث وبين رؤيتها لقضايا من حولها كما فعلت العُمانية منى حبراس فى كتابها «ظل يسقط على الجدار» (الجمعية العمانية للكتاب والأدباء ودار الرافدين: 2023)، أو إلى سيرة روائية عن علاقة خاصة ومميزة بالأب صاحب التاريخ النضالى كما فى «أصبحتُ أنت» (هاشيت أنطوان «نوفل»: 2023) للجزائرية أحلام مستغانمى.
فى هذا الكتاب السيرى تتكلم لنا عبدالرحمن دون إفصاح. تُخبرنا بأنها سيدة مشغولة باستكشاف الحياة والسفر والتجوال. لا تجد غضاضة فى الكشف عن سنها بعكس المعروف عن النساء. تُخبرنا أنها زوجة وأم لا تملك فائضا أموميا يُمكّنها من رعاية أطفال كثر، وأنها لا تركن إلى الثوابت بل تواصل العيش بتكسير الحدود الفاصلة وتجد متعتها فى ذلك.
تحكى باقتضاب عن تعرضها للتهجير القسرى بسبب العدوان على لبنان عام 1982 حين كانت فى السابعة. تقول عن التجربة: «لا أذكر خوفا مفرقيا قبل هذا التاريخ. لسنوات طويلة ظلت أصوات طلقات الرصاص، أيا كان سببها، تصيبنى بحالة من القشعريرة، تعاودنى سريعا لحظات الطفولة المرعبة، تقفز إلى مخيلتى كل ذكريات الحرب رغم تباعد الزمن، خيالات تتلاحق بلا مناسبة تفرض نفسها دون استئذان».
تميل لكل ما هو أصيل فتحب الطبيعة والمشى، وتشكو غياب الحميمية والمشاعر التى كانت تستثيرها الرسائل الورقية قديما فى عالم البوسطجية وقبل ثورة الاتصالات. كانت الرسائل تعصف بالحواس كلها فهى خليط من النظر لقراءة الكلمات وشم رائحة الورق، مع لمسه وضمه، وذرف عبرات حبيسة من أسى الفراق، وربما قراءتها أو مقتطفات منها فى جلسات الشاى والقهوة حيث التذوق.
ساعي البريد
عند بعض التفاصيل يتوارى الكشف فتقول دون شرح: «لطالما انتظرت ساعى البريد ليحمل لى كلمات محب بعيد، تاهت رسائله بفعل الزمن، ولم يبق من تلك الكلمات سوى خيط رفيع فى الذاكرة». تنوه أيضاً بإيجاز عن إشارات لم تفسرها كانت تأتيها بحُلم متكرر حكته دون أن تحكى بواعثه التى فطنت لها.
وتتساءل لو سيأتينا عصر الاتصالات بتكنولوجيا تنقل الرائحة بعد اندثار حميمية الرسائل الورقية أمام سطوة التكنولوجيا التى أحدثت أزمة تواصل واغتراب اختيارى رغم طبيعة التواصل السريع الآنى بالصوت والصورة بعد أن أصبحت علاقاتنا الإنسانية مقصورة على التكنولوجيا بشكل كبير كلٌ فى شاشته.
هذا بالطبع ليس بعيداً عنا بل نراه قادماً، فمن كان ليصدق أن تأتينا تقنية قراءة وتحليل المشاعر؟ فى مكالمة فيديو نُجريها اليوم عبر الإنترنت، يمكن للتكنولوجيا قراءة تعبيرات الوجه وحركة اليد وتصنيف نبرة الصوت وغيرها من الأمور لتحديد الحالة الشعورية حتى لا تمر الإجابة بكلمة «بخير» عن سؤال «كيف حالك؟» بسلام فيخفى المجيب وراءها الكثير. طورت هذه التقنية المصرية الأمريكية رنا القليوبى فى الولايات المتحدة عبر شركتها «أفكتيڤا» قبل عدة سنوات. وبالطبع هرعت شركات الإعلانات إلى استخدامها.
أما التطور فى تكنولوجيا الاتصال فانعكس بدوره على أدب الرسائل لتصدر روايات تناقش قضايا إنسانية تقوم على نمط المراسلات الحديثة المعاصرة عبر الوسيط أى مواقع التواصل الاجتماعى كما فى رواية «قبل زيادة العلامات» (عصير الكتب: 2024) أو رسائل ورقية قصيرة ملصقة على الثلاجة بين أم وابنتها تعيشان فى البيت نفسه ولا تلتقيان لاختلاف المواعيد كما فى «حياة على باب الثلاجة» (العربى للنشر والتوزيع: 2020) وكلتاهما مترجمتان عن الألمانية والإنجليزية.
تستدعى لنا عبدالرحمن فى كتابها مخزونا هائلا من الأفلام والمسلسلات والروايات والكتب والموسيقى والحكم ومقولات الفلاسفة والأشعار وحتى آيات من القرآن والإنجيل تغزله مع ومضات من تجربتها الحياتية ليعبر عن عنوان «ذاكرة الوصال» الذى جاء خليطا من هذا كله ليدل على كنز معرفى استغرق عُمراً فى جمعه وتدوينه ليؤكد مجددا أن كاتبة النص تعيش بكُلّها فى هذه الدنيا وتحب الحياة ولهذا جاءت سيرتها متفاعلة مع الحياة أكثر منها سيرة ذاتية. هذا التناول الثقافى بتعبيراته المتعددة كان الأساس المعتمد فى كتاب ذى نمط مغاير هو «ليست كل طاعة فضيلة» (العربى للنشر والتوزيع) للدكتورة هبة شريف وتعرضت فيه لمفهومى الطاعة والعصيان. لا يعد هذا المنظور الثقافى اتجاها معروفاً للعديد من القراء لكنه ترسّخ بالفعل فى الأكاديميات الغربية، كما تقول الكاتبة الأكاديمية فى كتابها الفكرى، «خاصة بعد أن أصبح النقد الأدبى وحده غير جاذب للقراء، وأصبح من الضرورى أن يتغير هذا الحقل ليصبح أكثر قربا من القارئ وأكثر انفتاحًا على الحياة اليومية ومنتجاتها الثقافية».
قارئ «ذاكرة الوصال» قد يقف على بعض المسرّات الغائبة فى نفس الدوائر المتناولة كالرقص على سبيل المثال، خصوصا رقصة الدبكة الشعبية فى لبنان، لكن من يملك التعديل على من يكتب سيرته؟ ربما لو صاحبت النص رسوم لطيفة أو صور حتى لأماكن وجمادات مذكورة فى النص كأكواب الشوارب فى العصر الفيكتورى الخاصة بالرجال فقط، ومتحف ضحايا السحر فى النرويج، وتمثال داليدا فى مونمارتر، لزادت متعة القراءة، لكن محركات البحث موجودة لتأتى بها فى ثوانٍ معدودة.
حنان سليمان
المصري ليوم