لنا عبد الرحمن : أدرك أنك تقاوم بقلبك وعقلك وكلمتك

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. “وضعَ العدوان على غزّة الإنسانيةَ على المحكّ وكشف زيف الشعارات”، تقول الكاتبة اللبنانية المصرية.

ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة ؟

طوال الوقت أفكر كيف يمكن ايقاف ما يحدث؟ وكيف بمقدور العالم أن يشاهد كل هذا الموت والدمار من دون أن يتحرك لانقاذ الأطفال والنساء؟ وكل الأبرياء العزل الذين يموتون بلا ذنب، سوى رغبة محتل في إبادة شعب بأكمله. لكن لا يمكن للهوية الأصلية أن تُباد أن تنتهي، لأنها الكينونة الموجودة في هواء فلسطين،في ذرات التراب، في اللهجة الفلسطينية، في الأغنيات، في أطباق الطعام، في غصن الزيتون، في شاطئ غزة، في النساء اللواتي تجلس الواحدة منهن بجانب ركام بيتها، تحتضن طفلها وتقاوم الموت حتى اللحظة الأخيرة، لذا لو ظل فلسطيني واحد على هذه الأرض سوف تظل فلسطين. لقد اعتاد الفلسطينيون على مواجهة عدو شرس، لكن الحرب على غزة هذه المرة تبدو الأكثر شراسة وقسوة، لأنها وضعت الإنسانية كلها على المحك، وكشفت زيف الشعارات.

كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

منذ وقعت الحرب، توقفت عن الكتابة الإبداعية، مازلت أحس بعجز عن العودة لايقاع الحياة السابق،أمارس مهام الحياة اليومية الضرورية وأنا أدرك أن ثمة شيء مروع يحدث هناك. في كل نهار أتابع الأخبار وأنتظر وقوع معجزة تُوقف هذه المأساة. تشغلني كثيرا رؤية الأهالي الأبرياء ، كيف يواجهون الحياة، وسط كل هذا الدمار والموت والخراب. أفكر في الأطفال كثيرا، في الأمهات الثكالى، والنساء المنكوبات، والرجال العجائز والعزل؛ ووسط كل هذا لا أستطيع منع ذكريات الاجتياح الإسرائيلي لبيروت التي عشتها في الماضي،أن تنثال في ذاكرتي بلا توقف، وتستحضر معاناة بعيدة، مرت أثناء سنوات الطفولة، لذا أكثر ما يبكيني هم الأطفال، لأني أعرف أنهم لن ينسوا أبدا صوت القذائف والنيران وما عاشوه في الحرب، مهما تقدم بهم العمر.

إلى أي درجة تشعرين أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

“في البدء كانت الكلمة”، سوف يظل لأي عمل إبداعي قوته في مواجهة حرب الإبادة، لأن الكلمة تعني الذاكرة، إنها تسجل ما يحدث الآن ليكون وثيقة مهمة للغد، للأجيال القادمة. الحروب تنتهي، لكن الكلمات تبقى. ومن حكايات الصمود والمقاومة التي وصلت إلينا، عبر الروايات والقصائد والأغنيات والأفلام، تعلمنا الكثير، ووثقنا عرى مبادئنا وقناعاتنا، لذا علينا جميعا أن نقاوم، كل بطريقته.

ما زلت أحسُّ بعجزٍ عن العودة إلى إيقاع الحياة السابق

لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

أنحاز للكلمات، إنها اختياري الحقيقي للتعبير عن نفسي، ولمواجهة قبح العالم وغياب ضميره.

ما هو التغيير الذي تنتظرينه في العالم؟

أفكر كثيرا بكل المفاهيم التي تتعلق بالعدالة والمساواة، وأجد أنها غائبة تماما أمام ما يجري من موت ودمار في غزة، وكأن العالم كله معمي عما يحدث. إننا نعيش الآن في عالم رأسمالي، متعولم، تسوده اللغة النفعية بشكل قاتل، وهذا واضح في شتى مسالك الحياة، سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، مما أدى إلى اختلال في موازين القيم الإنسانية، والمبادئ الأخلاقية، والرؤية الرحيمة لعلاقة الإنسان مع الأنسان، ومع كل ما حوله من مخلوقات أخرى، وإن لم يحدث أي تعقل رشيد ينقذ الانسان من شر نفسه، فإن الطوفان قادم لامحالة، وبأشكال مختلفة. خلال متابعتي لأحداث الحرب في غزة، مر خبر، يقول أن اسرائيل  تستعين بروبوتات للقيام بالاجتياح البري، مثل هذا الخبر يحكي الكثير عن الموت القادم، الذي يهدد الجميع، إن لم نتمكن من ايقافه.

 شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟

“غاندي” شخصية إبداعية مقاوِمة ، بسبب تفانيه في السعي نحو العدالة والحرية، إذ رغم استخدامه للمقاومة السلمية، نجح في تحقيق العديد من الأهداف السياسية والاجتماعية، مثل استقلال الهند عن الاستعمار البريطاني. أحب أن أسمع منه حكاية ليله الطويل، حتى أشرق صباح الحرية على بلده.

يظلّ لأيّ عمل إبداعي قوّته في مواجهة حرب الإبادة

كلمة تقولها للناس في غزّة؟

مع مرور كل يوم نتعلم منكم الكثير، في كل التفاصيل التي تتعلق بالحياة ومقاومة آلة الموت العشوائي أنتم السادة.. أنتم الصامدون بنبل، ترسلون حكايتكم للعالم كله مع كل شهيد تسقط قطرات دمه على أرض الوطن، ومع دمعة كل طفل يتيم، وصرخة كل صبية تحكي بلوعة عما شاهدته عيناها من فظائع الحرب.

كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

أدرك أنك تقاوم بقلبك وعقلك وكلمتك، وقرارك بالمقاطعة. أدرك أنك تتمنى من كل قلبك النصر لأهل غزة، وأنك مكبل وعاجز عن فعل أي شيء، لكن حسبي أنك واع لكل ما يحدث حولك، هذا أضعف الايمان في هذه المرحلة القاتمة.

حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت “رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي”.. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

يا دارين الغالية.. أنا أخاطبك من الغد، وأقول لك أنك سوف تكبرين وتكونين فتاة قوية لديها أحلام كثيرة، تمسكي بها ولا تدعي أحدا يدمرها، سوف تكونين فتاة تحكي حكايتها للعالم، وتكون رسولة الطفولة لأجيال قادمة. هذه الحرب سوف تنتهي يوما، لكن أنت وصديقاتك باقيات، لأنكن الحقيقة النقية والمستمرة.

……

لنا عبد الرحمن

روائية وناقدة، لبنانية، مصرية، ولدت في بيروت عام 1975 ، محاضرة وأكاديمية في الكتابة الإبداعية، تقيم في القاهرة،وتعمل مسؤولة عن القسم الثقافي في صحيفة “صوت البلد” المصرية.. لها عدة أعمال في الرواية والنقد والقصة القصيرة، منها  في الرواية: ” تميمة العاشقات”، “قيد الدرس”، ” ثلج القاهرة”، وفي النقد: ” الروائي والمخيلة والسرد”، “متعة السرد والحكايا، قراءات نقدية في روايات عالمية”، وفي القصة القصيرة :”صندوق كرتوني يشبه الحياة “، “الموتى لا يكذبون”، “أوهام شرقية“.

..

جريدة ( العربي الجديد ) لندن

21 ابريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى